عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 17-02-2022, 05:31 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,740
الدولة : Egypt
افتراضي رد: استثمار الأسلوب العدولي

وقد قسم ابنُ الأثير الالتفات إلى ثلاثة أقسام:
القسم الأول: الانتقال مِن الغَيْبة إلى الخطاب، ومِن الخطاب إلى الغَيْبة؛ وذلك لفوائدَ متعددة، يُحدِّدها سياق الخطاب؛ ولذلك لا يمكن أن تُحدَّد فوائده بجزئية محددة بالتفنن، أو بتطرية نشاط السامع، وإيقاظه للإصغاء إليه، كما يَرَى الزمخشري[42].

فمن شواهد العدول مِن الغَيْبة إلى الخطاب قوله - تعالى -: ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 2 - 5] عدل فيها عن الغَيْبة ﴿ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ ﴾، إلى الخطاب ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾؛ لأنَّ الحمد دون العبادة، ألاَ تراك تحمد نظيرَك ولا تعبده؟ فلمَّا كانت الحال كذلك، استعمل لفظ الحمد لتوسُّطه مع الغَيْبة في الخبر، فقال: الحمد لله، ولم يقلِ: الحمد لك، ولَمَّا صار إلى العبادة التي هي أقْصى الطاعات، قال: إيَّاك نعبد، فخاطب بالعبادة إصراحًا بها، وتقرُّبًا منه - عزَّ اسمه - بالانتهاء إلى محدود منها، وعلى نحو من ذلك جاء آخِر السورة، فقال: ﴿ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، فأصرح بالخطاب لَمَّا ذَكَر النعمة، ثم قال: ﴿ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ ﴾ [الفاتحة: 7]، عطفًا على الأول؛ لأنَّ الأول موضع التقرُّب من الله بذِكْر نعمه، فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفًا عن ذكر الغاضب، فأسند النِّعمة إليه لفظًا، وزوى عنه لفظ الغضب تحنُّنًا ولطفًا[43].

وهذه السورة قد انتقل في أوَّلها من الغَيْبة إلى الخطاب؛ لتعظيم شأن المخاطب، ثم انتقل في آخرِها من الخطاب إلى الغَيْبة[44] لتلك العلة نفسها، وهي تعظيم شأن المخاطب أيضًا، فمخاطبة الربِّ - تبارك وتعالى - بإسناد النِّعمة إليه تعظيمٌ لخطابه، وكذلك ترْك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيمٌ لخطابه.

مِن هذا المثال يتضح أنَّ الهدف المعنويَّ الواحد، وهو هنا تعظيم شأن المخاطب، قد اقْتضى في مرَّةٍ العدولَ عن الغيبة إلى الخطاب، وفى مرة أخرى - في النص نفسه - العدولَ عن الخطاب إلى الغيبة، وهذا ما يُؤكِّد أنَّ المنحى الأسلوبي في ذاته لا يرتبط بقيمة ثابتة، أو بدلالة تعبيريَّة حاسمة ونهائية، تكون هي وحدَها الصادقة، وأنَّ المعول في استخدام منحى أسلوب بعينه في سياق بعينه على المعنى أو الهدف المعنوي، الذي يتَّجه إليه مُنشِئ الخِطاب، فإذا كان تعظيمُ شأن المخاطب هدفًا من أهداف منشئ الخطاب، فإنَّ تحقيق ذلك الهدف هو الذي دعاه إلى العدول عن خِطاب الغائب إلى خطاب الحاضر مَرَّة، وعن خِطاب الحاضر إلى خِطاب الغائب مرَّة أخرى[45].

ومن شواهد العدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطب قوله - تعالى -: ﴿ وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا * لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا ﴾ [مريم: 88 - 89].

وهذا الشاهد يتعلَّق أيضًا بالعدول عن ضمير الغائب إلى ضمير المخاطَب، ومع أنَّ هذا الأسلوب متحقِّق في فاتحة الكتاب كما رأيْنا، فإننا آثرنا إيرادَ هذا المثال كذلك بمغزًى خاص سيتضح في استخلاصاتنا، "وإنما قيل: ﴿ لقد جئتم ﴾ وهو خطاب للحاضر، بعد قوله: ﴿ وقالوا ﴾، وهو خِطاب للغائب؛ لفائدة حسنة، وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله - تعالى - والتعرُّض لسخطه، وتنبيه لهم على عِظَم ما قالوه، كأنَّه يخاطب قومًا حاضرين بين يديه مُنكرًا عليهم، وموبِّخًا لهم"[46].

فالانتقالُ هنا من الغَيْبة إلى الحضور كان موجهًا بهدف معنوي، لم يكن ليتحقَّق بالقوَّة نفسها إلا عن طريق هذا الانتقال (من المهم - جماليًّا - في هذا المثال ملاحظة أنَّ المخاطب ليس حاضرًا حضورًا حقيقيًّا؛ وإنما هو حاضر على "التمثيل")، وهكذا يكون الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور مدفوعًا مرة بهدف معنوي، هو تعظيم شأن المخاطَب، كما هو الحال في المثال الأوَّل، ومرة بهدف توبيخ المخاطَب، كما هو الشأن في المثال الثاني؛ أي: إنَّ الصيغة الواحدة قد تؤدِّي وظيفتَين متضادتين في سياقَيْن مختلفين.

وأما العدول من الخطاب إلى الغَيْبة، كقوله - تعالى -: ﴿ هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ ﴾ [يونس: 22].

"إنَّما صرف الكلام ها هنا من الخطاب إلى الغَيْبة لفائدة، وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبَهم منها كالمخبر لهم، ويستدعي منهم الإنكارَ عليهم"[47]، ولو قال: (حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة وفرحتم بها)، وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية، لذهبتْ تلك الفائدة التي أنتجَها خِطاب الغيبة، وليس ذلك بخافٍ على نَقَدةِ الكلام "[48].

يجب أن نلاحِظ أنَّ الكلام في مستهلِّ النص موجَّه إلى المخاطَبين الحاضرين (حضورًا فعليًّا أو مفترضًا، فلا أهمية لهذا الآن)، ثُم إذا به فجأة ينحرِف عن هذا النسق ليدخل في نسق الرواية عن الغائبين (هم - فرحوا - جاءهم - وظنُّوا - أنهم - بهم - دعوا)، ولو أنَّ النسق الأول اطَّرد، لجرى الخطاب كلُّه على النحو التالي: هو الذي يسيركم في البر والبحر، حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة، وفرحتم بها جاءتها ريح عاصف، وجاءكم الموج من كل مكان، وظننتم أنكم أحيط بكم دعوتم الله... لكن الخطاب لم يطَّرد على هذا النحو، بل ما لَبِث أنِ انحرف من حالة الحضور إلى حالة الغَيبة.

والسبب في هذا الانحراف - كما يرصده ضياءُ الدِّين - هو افتراض أنَّ هناك آخرين - غير المخاطَبين في مستهل النص - يصور لهم المشهد، وليسوا هم المعنيِّين به، فاقتضى الأمر عندئذٍ الدخولَ في نسق الغَيْبة، كما تُحكَى لمستمعين - حاضرين أو متوهمين - تفصيلاتُ حادثٍ قد وقع لشخصٍ ما، أو لأشخاص بأعيانهم، فتُثير عندئذٍ فيهم الدهشة لِمَا حدث، وتمهدهم بذلك لاستنباط العِبرة أو المغزى الأخير للرواية كلها، والمغزى أو المقصد المعنوي الذي تهدف الروايةُ إليه هنا هو استنكارُ أن يقع من هؤلاء المُرْوِيِّ عنهم ما وقع.

والحقيقة: أنَّ المخاطَبين في صدر النص قد انقلبوا إلى الغائبين، فأحدث هذا الانقلاب مسافةً يتأملون فيها أنفسهم، وما وقع منهم كأنَّهم آخرون، وعندئذٍ يكونون أقدرَ على الشهادة على أنفسهم، فالمتورِّط في الخطيئة لن يعيَ موقفه وعيًا صحيحًا إلا إذا سلخ نفسه من نفسه، وتأملها من بُعْدٍ مناسبٍ؛ أي: جعلها موضوعًا للنظر، وهذا ما حقَّقه الرجوع من الخطاب إلى الغَيْبة في هذا المثال، أو ما "أنتجه" - بلفظ ضياء الدين - من دلالة[49].

القسم الثاني: هو العدول عن الفِعْل المستقبل إلى فِعْل الأمر، وعن الفِعْل الماضي إلى فِعْل الأمر:
"وليس الانتقال فيه مِن صيغة إلى صيغة طلبًا للتوسُّع في أساليب الكلام فقط... وإنَّما يقصد إليه تعظيمًا لحال من أُجْرِيَ عليه الفعلُ المستقبلُ، وتفخيمًا لأمره، وبالضد من ذلك فيمن أُجْرِيَ عليه فعل الأمر"[50].

فمن شواهد العدول عن الفعْل المستقبل إلى فعْل الأمر قوله - تعالى -: ﴿ قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [هود: 53 - 54].

تتحرَّك الآية الكريمة في سِياق الزمن الحاضر، أو ما يُعرف بـ "حاضر السرد"؛ لأنَّها واردةٌ في سياق حكاية قصَّة نبي الله هود - عليه السلام - مع قومه، ويهيمن على الصياغة طرفان متباعدان: هود - عليه السلام - في معية الله تعالى، وقوم هود وآلهتهم المزعومة، وقد بدأتِ الصياغة باستخدام صيغة المضارع (أُشهِد) حين ذكر لفظ الجلالة (الله)، لإفادة أنَّ إشهاد الله على البراءة من الشِّرْك صحيحٌ ثابت، ووسيلة لتثبيت دعائم اليقين، وشدِّ معاقِد التوحيد.

ثم تتباعد المواقِفُ بين الطرفَيْن، وتتسع الهوة بينهما، فيكون الانتقال إلى صيغة الأمر (واشهدوا)، التي تستلزم طرفين: آمِر مطاع، مهيب مفخم (هود - عليه السلام -)، ومأمور ضعيف مهين (قوم هود)، فالانتقال إلى صيغة الأمر أفاد حدوثَ الجفاء التام، والتهاون بدِينهم وآلهتهم المزعومة، والتهكُّم بحالهم، ومعتقداتهم الباطلة.

وقد جسَّد "الأسلوب العدولي" بصياغته المخالفة لمقْتضى الظاهر مواقفَ الطرفين المتباعدين، عن طريق ذكر صيغة المضارع التي توضح تشريف الطرف الأول وقوته وعظمته - وهو هود - عليه السلام - ثم العدول عنها إلى صيغة الأمر الدالَّة على حقارة شأن الطرف الثاني - وهم قومه - وبُطلان موقفهم الذليل.

قال ابن الأثير: "فإنَّما قال: ﴿ أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا ﴾، ولم يقل: "وأشهدكم"، ليكون موازنًا له وبمعناه؛ لأنَّ إشهادَه اللهَ على البراءة من الشِّرك صحيح ثابت، وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم، ودلالة على قلَّة المبالاة بأمرهم؛ ولذلك عدل به عن لفظ الأول لاختلاف ما بينهما، وجِيء به على لفظ الأمر، كما يقول الرجل لِمَن يبس الثرى بينه وبينه: "اشهدْ على أني أحبك"، تهكمًا به، واستهانةً بحاله"[51].

إذًا فاطِّراد النسق هنا - لو تحقَّق - يكفل التوازن بين الفِعلين، ويوحِّد المعنى فيهما، لكن اطراد النسق عندئذٍ يضعهم - في حق الشهادة - على مستوى واحد مع مَن له الشهادة - جلَّ شأنه - ولا يمكن لإنسان - فضلاً عن نبيٍّ - أن يوحد بين شهادة خالقه عليه وشهادة البشر، خصوصًا إذا كان منكرًا لهم أصلاً، فهنا شهادتان، لا شهادة واحدة، وسلكهما في نسق واحد - وإن كان هو النسق اللغوي الأصلي - من شأنه أن يذهب بالتفرِقة الحاسمة بينهما.

نحن في هذا النص أمام "إشهاد" "أُشْهِد الله"، و"شهادة"، "اشهدوا"، ولا يملك الإنسان/ النبي إلاَّ أن يُشهد اللهَ - تعالى - على ما في نفسه، أن يكشف له نفسه على حقيقتها، لكنَّه لا يملك أن يأمره سبحانه، أما بالنسبة إلى البشر، فإنه يأمرهم بأن يشهدوا بأنفسهم ما يكون منه؛ لأنَّه لا يجد نفسه أمامهم مطالبًا بأن يشهدهم على ما في نفسه، خصوصًا إذا كان منكرًا لهم، ورافضًا لمعتقدهم، ومستهينًا بهم[52].

ومثال العدول عن الفعْل الماضي إلى فعْل الأمر، يقول ابن الأثير: "... وإنما يُفعل ذلك توكيدًا لِمَا أُجْري عليه فعل الأمر، لمكان العناية بتحقيقه، كقوله - تعالى -: ﴿ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ﴾ [الأعراف: 29].

وكان تقدير الكلام: أَمَر ربي بالقسط، وبإقامة وجوهكم عندَ كل مسجد، فعدَل عن ذلك إلى فِعْل الأمر؛ للعناية بتوكيده في نفوسهم، فإنَّ الصلاة من أوْكد فرائض الله على عباده، ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عملُ القلب؛ إذ عملُ الجوارح لا يصحُّ إلا بإخلاص النية.

رأيْنا من قبلُ أنَّ الانتقال من الغَيْبة إلى الحضور يكون مرَّة تعظيمًا لشأن المخاطب، ومرَّة أخرى تحقيرًا لشأنه؛ أي: إنَّ الصيغة الواحدة قد تؤدِّي وظيفتين متضادتين في سياقين مختلفين، وكذلك الأمر هنا في العدول عن نسق الأفعال المطَّرد، حيث يكون الانتقال إلى فعْل الأمر دالاًّ على الاستهانة والاستخفاف بالمخاطَب في مرة، ودالاًّ على العناية والاهتمام به - كما في هذا المثال الأخير - في مرَّة أخرى.

القسم الثالث: الإخبار عن الماضي بالمستقبل، وعن المستقبل بالماضي، فمثال العدول عن الماضي إلى المستقبل قوله - تعالى -: ﴿ أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحج: 63].

ألاَ ترى كيف عدل عن اللفظ الماضي ﴿ أنزل ﴾ ها هنا، إلى المستقبل ﴿ فتصبح الأرض مخضرة ﴾، ولم يقل: "فأصبحت" عطفًا على "أنزل"؛ وذلك لفائدة بقاء أثر المطر زمانًا بعد زمان، فإنزال الماء مضى وجودُه، واخضرار الأرض باقٍ لم يمض..."[53]، واستمرار الأرض خضراء يشيع البهجة، ويطمئن الناس على دوام أرزاقهم.

ورأى السكاكي: أنَّ العدول في هذه الصورة - من الماضي إلى المضارع - يصير أصلاً بلاغيًّا ثابتًا، إذا اقتضى السياق اللجوءَ إليه، فقال: "وإنه - أي: الانتقال من التعبير بالماضي إلى المضارع - طريقٌ للبلغاء لا يعدلون عنه، إذا اقتضى المقام سلوكَه"[54].

وأطلق عليها (فندريس) مصطلح "المضارع التاريخي"، وقال: "الماضي يمكن أن يُعبَّر عنه بالحاضر، وهو استعمالٌ شائع في الحكاية"[55].

إنَّ صيغة الماضي تخيِّل للسامع صورة حَدَث وقع في لحظة من الزمان وانقطع، وعندئذٍ لا يكون هناك ما يحمله على أن ينهمك فيه؛ لأنَّه انتهى، لكن الانتقال إلى صيغة الفعْل المستقبل تخلق وضعًا جديدًا، إذ "تخيل للسامع أنه مباشر للفعل"[56] - على حدِّ قول ضياء الدين - وكأنَّ الفعل يقع أمامَ ناظرَيْه في حالة حضور.

"فالإخبار البلاغي" عن الماضي بالمستقبل يؤدِّي إذًا وظيفةً، ما كان اطراد النسق الماضي ليؤديَها، وتتمثَّل هذه الوظيفة في العدول بالخطاب من مجرَّد الإعلام بالحدث إلى حكاية الحَدَث نفسه؛ أي: تمثيله في صورة حيَّة (وهذا الانتقال شبيه بالانتقال من السَّرْد الملحمي إلى التجسيد الدرامي)، فالإخبار عن الحَدَث الماضي بفعلٍ مستقبل من شأنه استحضارُ صورة هذا الحدث أمامَ مخيلة المتلقي؛ ليعايشَها بنفسه، فيكون إحساسه بها وتفاعله معها أقوى وأوثق[57].

ومن شواهد العدول عن صيغة المضارع إلى صيغة الماضي قوله - تعالى -: ﴿ وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ ﴾ [النمل: 87].

يقول ابن الأثير: "إنما قال: ﴿ فَفَزِعَ ﴾ بلفظ الماضي بعدَ قوله: ﴿ يُنْفَخُ ﴾ - وهو مستقبل - للإشعار بتحقيق الفَزَع، وأنه كائن لا محالة؛ لأنَّ الفعل الماضي يدلُّ على وجود الفعل، وكونه مقطوعًا به"[58].

هكذا يعمل "الأسلوب العدولي" هذه البلاغاتِ بما يحدث من انحراف في الزمن، فترى المستقبل حاضرًا، ومنحلاًّ في الماضي، كما ترى الماضيَ حالاَّ في الحاضر، ممتدًّا في المستقبل.

وبعد، فقد بيَّنَّا جهدَ ابنِ الأثير وتطويره لمصطلح "الالتفات/ العدول" إذ نقل المصطلح إلى مجال أوسعَ من سابقيه، فأحدث بذلك تآلفًا تامًّا بين ثنائية التخير والتركيب، أو المستوى الأفقي والمستوى الرأسي، كما أنه كَشَف عن علاقة العدول بالإيجاز؛ لأنَّ ترابط الأساليب وتلاحقَها، وبحث العلاقة فيما بينها ممَّا يُدلِّل على أنَّ اللغة الأدبية كانت تعتمد على الإيجاز لاستيفاء المعنى، وإشراك المتلقي.

وممَّن تَبِع مذهب ابن الأثير في توسيع دائرة العدول ليشمل أنماطًا شتَّى الطوفي[59] والتنوخي[60] وابن النقيب[61] ونجم الدين ابن الأثير[62] والعلوي[63] والسبكي[64] والسيوطي[65].

وبهذا يتَّضح لنا: أنَّ البلاغيِّين لا يعتدُّون - غالبًا - من حيث القيمة الجمالية إلا بما يُمثِّل عدولاً عن أصل معنى الكلام؛ بل يمكن أن نخلص إلى أنَّ البحث البلاغي عند العرب يتركز على مقولتين، هُمَا: الأصل المألوف، ثم العدول عنه، مع بيان مراتب العدول وآثارها الجمالية، التي تتصل بالمعنى وتلونه، وتصله بحالة المخاطَب في غالب الأحيان، وبحالة المتكلِّم في القليل منها"[66].

كذلك ترى أنَّ كُلاًّ من اللُّغويِّين والنُّحاة والبلاغيِّين قد الْتقَوْا جميعًا حول تصوُّر مشترك لقضية "العدول"، ولم يكن هذا التصور قائمًا على مفهوم اللفظ دون المعنى؛ إذ "العدول" لا يتمُّ إلا لأداء معنى جديد، بل أوغل عبدالقاهر في بيان درجة هذا المعنى، وجعله "معنى المعنى" متساوقًا مع تقسيم الفارابي للغة الخِطاب، فكان معنى المعنى الذي يحدث بفاعلية "العدول" هو فحوى شعرية اللغة عند الفارابي[67].

إنَّ ثُنائية اللغة والخِطاب الأدبي في الفكر البلاغي كانتْ تعبيرًا عن تطوُّر الوعي الجمالي، ومقياسًا لمقدار العدول، ومِن ثَمَّ مدى التأثير في المتلقِّي، فمبحث العدول كان تعميقًا لفلسفة التأمل، وتأسيسًا لاستبطان النص وتأويل محاسنه[68].

في ضوْء هذا المنظور كان تعريف الأسلوب العدولي بأنه: "انحراف عن قاعدةٍ ما"، أو بأنه: "لحن مبرَّر"، أو هو: "انحراف عن نموذج آخرَ من القول، ينظر إليه على أنه نمط معياري"، أو هو: "مجموع المفارقات التي نلاحظها بين نظام التركيب اللُّغوي للخطاب الأدبي، وغيره من الأنظمة"[69]؛ أي: إنَّ الأسلوب العدولي يُعدُّ لونًا من ألوان الاجتراء على نظام تلك اللغة، بالانحراف عن أنماطها، والانتهاك المطَّرد لتقاليدها وأعرافها، وخروجًا متعمَّدًا على تلك الأعراف، فيتولَّد بواسطة هذا الإجراء من طاقات التعبير والإيحاء ما تَعجِز به اللُّغة في مستواها النمطيِّ السائد عن تحقيقه.

وعلى ذلك، فإنَّ "الشجاعة" في هذا المصطلح لا تَعني شجاعة اللغة العربية بالعدول؛ بل شجاعة العدول في تلك اللغة.


[1] هكذا سماه ابن وهب في البرهان (ص: 122). تح/ حفني شرف.

[2] هكذا سماه ابن منقذ "البديع في نقد الشعر" (ص: 200)، وكذلك سماه ابن شيث "معالم الكتابة" (ص: 76).

[3] "حلية المحاضرة" (1/157)، و"العمدة" (2/46).

[4] راجع "معجم المصطلحات البلاغية وتطورها" (ص: 173، 196، 483).

[5] سماه بذلك السيوطي في "شرح عقود الجمان" (ص: 27).

[6] هكذا سماه ابن الصائغ في "إحكام الراي في أحكام الآي"، ونقل عنه التسمية السيوطي في "الإتقان" (3/ 345)، و"معترك الأقران" (1/49).

[7] هكذا سماه الفيروزآبادي في أثناء حديثه عن أصناف الخطابات والجوابات في القرآن، وجعل منه ثلاثة وجوه؛ انظر: "بصائر ذوي التمييز" (1/ 109، وما بعدها).

[8] "أسرار البلاغة" (365) (تح/ ريتر).

[9] "دلائل الإعجاز" (ص: 286، 287) (تح/ شاكر).

[10] فندريس، "اللغة" (ص: 188)، وينظر: "اللغة والإبداع الأدبي" (ص: 20).

[11] "دلائل الإعجاز" (ص: 263، 264)، تح/ شاكر، وينظر: "من قضايا النقد والبلاغة" (ص: 146).

[12] "منهاج البلغاء" (ص: 18، 19).

[13] "دلائل الإعجاز" (ص: 265"، وقارن ذلك بما جاء في "الخصائص" (2/466، وما بعدها).

[14] كتاب "المقتصد في شرح "الإيضاح"؛ عبدالقاهر الجرجاني، تح/ كاظم المرجان، بغداد، دار الرشيد. 1982م.

[15] "أسرار البلاغة" (343).

[16] المرجع السابق ص 100 - 102، وانظر: "قضايا النقد الأدبي" (ص 317 - 319).

[17] "البرهان في وجوه البيان" (ص: 142).

[18] "الوساطة" (ص: 428).

[19] "بلاغة العطف في القرآن الكريم (ص: 151) (بتصرف).

[20] من هؤلاء النقاد د/ صلاح فضل في كتابيه "علم الأسلوب" (ص: 236، وما بعدها)، و "بلاغة الخطاب وعلم النص" (ص: 54 - 69)، و د/ شكري عياد في كتبه "مدخل إلى علم الأسلوب"، و"اتجاهات البحث الأسلوبي"، و"اللغة والإبداع" مبادئ علم الأسلوب العربي"، و د/ محمد عبدالمطلب في كتابيه "البلاغة والأسلوبية" (ص: 150 - 255)، و"قضايا الحداثة عند عبدالقاهر" (ص: 74، 11)، ود/ موسى ربابعة في كتابه "جماليات الأسلوب والتلقي" (ص: 47، وما بعدها)، و د/ شفيع السيد في كتابه "الاتجاه الأسلوبي في النقد الأدبي" (ص: 95 - 98، 138 - 142)، ويُنظر: "الانزياح في منظور الدراسات الأسلوبية" (ص: 42، 43).

[21] "جماليات الأسلوب والتلقِّي" (ص: 50، 51).

[22] "دفاع عن البلاغة" (ص: 83).

[23] "الكشاف" (3/301، 302).

[24] "الكشاف" (3/400).

[25] انظر: "النحو والدلالة" (ص: 116).

[26] المرادي: "الجني الداني في حروف المعاني" (ص: 212)، تحقيق طه محسن ، دار الكتاب، الموصل، العرا، سنة 1976.

[27] "الكشاف" (1/508، 509)، وانظر مواضع أخري (1/174، 202، 351، 2/160، 221، 341،423، 449، 3/110، 301، 322، 385، 4/87، 86).

[28] "الكشاف" (1/65).

[29] "مفتاح العلوم" (ص: 133).

[30] السعد - ضمن شروح التلخيص - (3/168، 169)، وراجع: "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 229، 230).

[31] "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 230).

[32] "مفتاح العلوم" (ص: 137، 138).

[33] نفسه (ص: 138).

[34] "مفتاح العلوم" (168).

[35] "مفتاح العلوم" (ص: 96، 97)، وانظر: "ديوان امرئ القيس" (ص: 185)، تح/ محمد أبو الفضل.

[36] "بين البلاغة والأسلوبية" (ص: 232).

[37] يرى موكاروفسكي: أنَّ اللغة الشعرية تمتاز عن اللغة العربية بـ"انحرافها عن قانون اللغة المعيارية وخرقها له، فضلاً عما تمتاز به من معجم خاص، وصيغ نحوية سمَّاها الضرائر الشعرية poetisms "، انظر: مجلة فصول "اللغة المعيارية واللغة الشعرية"، تر: ألفت كمال الروبي، مج 5 ع1 /1985م. (ص 41).

[38] "اللغة والإبداع" (ص: 96).

[39] "تحولات البنية في البلاغة العربية" (ص: 317، 318) (بتصرف) .

[40] د/ عبدالحكيم راضي: "نظرية اللغة في النقد العربي" (ص: 250).

[41] "المثل السائر" (2/167، 168)، وانظر: "الطراز" (2/131، وما بعدها)، وقد سبق أن أشرْنا إلى أن ابن جنِّي له فضل السبق في هذه التسمية، راجع ص: 40 من هذا البحث.

[42] "المثل السائر" (2/168)، لم يحدد الزمخشري فائدةَ الالتفات في جزئية محددة كما زعم ابن الأثير، وإنما أطلق فوائدَ الالتفات، حيث قال: "وقد تختص مواقفه بفوائد"، راجع "الكشاف" (1/64).

[43] "المثل السائر" (2/170)، و"مفتاح العلوم" (ص: 96).

[44] اعترض السبكي على هذا الالتفات بأنه ليس في قوله: {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ} ضمير غيبة، حيث قال: "الفاعل في {المغضوب} لم يُذكر بالكلية، فكيف يقال: انتقلْنا إليه على سبيل الالتفات؟"؛ "عروس الأفراح" (1/478).

[45] "جماليات الالتفات" (ص: 892)، د/ عز الدين إسماعيل ضمن "قراءة جديدة لتراثنا النقدي" المجلد الآخر، النادي الأدبي الثقافي بجدة، 1988.

[46] "المثل السائر" (2/171).

[47] "المثل السائر" (2/178).

[48] نفسه (2/178).

[49] "جماليات الالتفات" (ص: 898)، يراجع: "المثل السائر" (2/178).

[50] "المثل السائر" (2/179).

[51] "المثل السائر" (2/179، 180)، و"الكشاف" (2/276).

[52] "جماليات الالتفات" (ص: 899، 900).

[53] "المثل السائر" (2/184، 185).

[54] السكاكي: "مفتاح العلوم" (ص: 139).

[55] ج. فندريس: "اللغة"، ترجمة عبدالحميد الدواخلي، ومحمد القصاص، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، سنة 1950، (ص: 138).

[56] "المثل السائر" (2/183).

[57] "جماليات الالتفات" (ص: 902).

[58] "المثل السائر" (2/185).

[59] "الإكسير في علم التفسير" (ص: 140).

[60] "الأقصى القريب" (ص: 45، 46).

[61] "مقدمة تفسير ابن النقيب" (ص: 202 - 213).

[62] "جوهر الكنز" (ص: 119 - 125).

[63] "الطراز" (2/131، وما بعدها ).

[64] "عروس الأفراح" (1/491 - 493).

[65] "الإتقان في علوم القرآن" (3/258، وشرح عقود الجمان (ص: 30).

[66] "البلاغة والأسلوبية" (ص: 270).

[67] "العدول" (ص: 20).

[68] "فلسفة الجمال في البلاغة العربية" (ص: 256).

[69] انظر في هذه التعريفات وغيرها: "الأسلوبية والأسلوب" (ص: 27)، "علم الأسلوب" (ص: 179)، "دليل الدراسات الأسلوبية" (ص: 37)، "بناء لغة الشعر" (ص: 24 - 25).



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.89 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]