
17-02-2022, 05:30 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,740
الدولة :
|
|
رد: استثمار الأسلوب العدولي
استثمار الأسلوب العدولي (3/ 11)
د. عيد محمد شبايك
ثانيًا: المصطلح عند البلاغيين والمفسرين:
وكما شاع مصطلح العدول عند اللُّغويِّين والنُّحاة، شاع كذلك عند البلاغيِّين والمفسِّرين، ولكن بمسميات مختلفة اللفظ، مرادفة في المعنى، متَّفقة في الدلالة، فاستخدم ابن وهْب مصطلح "الصرف"[1]، واستخدم ابن منقذ مصطلح "الانصراف"[2]، وكذلك استخدمه ابن شيث في "معالم الكتابة"، ولعلَّ الأصمعي أولُ مَن سماه "التفاتا"[3]، ثم أخذ التسمية منه ابن المعتز في "البديع"، وجعله أوَّل محاسن البديع، ثم تناقل البلاغيُّون المصطلح من بعده، ومنهم الزمخشري والرازي، وابن الأثير والعلوي، والسكاكي والقزويني، ومن تلاهم من شرَّاح التلخيص[4]، ومنهم من سماه "الخروج على مقتضى الظاهر"[5]، أو "الخروج عن الأصل"[6]، وسمَّاه الفيروزآبادي المفسر "التلون"[7].
والمستقرئ لهذه المصطلحات يُدرِك أنَّ المادة اللغوية أو المعجمية للعدول تدور في عمومها حولَ محور دلالي واحد، هو التحوُّل أو الميل والانحراف عن المألوف، أو الخروج عن القاعدة المطَّردة، أو انحراف - غير متوقَّع لدى المتلقي - عن نمط من أنماط اللغة الأصلية في نسقها المثالي.
وعبدالقاهر الجرجاني (ت 471 هـ) استخدم لفظ العدول كثيرًا، ورَبَط بينه وبين مصطلح المجاز، حيث يقول: "وإذا عُدل باللفظ عمَّا يوجبه أصل اللغة، وُصف بأنه مجاز، على معنى أنهم جازوا به موضعَه الأصلي، أو جاز هو مكانه الذي وُضع فيه أولاً"[8].
ويقول في باب "التقديم والتأخير" في سياق العدول إلى التقديم وبلاغته: "اعلم أنَّه إذا كان بيِّنًا في الشيء أنه لا يحتمل إلاَّ الوجه الذي هو عليه حتى لا يُشكل، وحتى لا يحتاج في العلم بأنَّ ذلك حقه وأنَّه الصواب إلى فكر ورويَّة، فلا مزية، وإنما تكون المزية، ويجب الفضل إذا احتمل في ظاهر الحال غير الوجه الذي جاء عليه وجهًا آخر، ثم رأيت النَّفْس تنبو عن ذلك الوجه الآخر، ورأيت للذي جاء عليه حسنًا وقبولاً، تعْدَمُهُمَا إذا أنت تركته إلى الثاني، ومثال ذلك قوله - تعالى -: ﴿ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ ﴾ [الأنعام: 100] ليس بخافٍ أنَّ لتقديم "الشركاء" حُسنًا وروعة، ومأخذًا في القلوب، أنت لا تجد شيئًا منه إن أنت أخَّرْت، فقلت: "وجعلوا الجن شركاء لله"، وأنك ترى حالك حال مَن نُقِل عن الصُّورة المُبهجة إلى الشيء الغُفل الذي لا تحلى منه بكثير طائل... والسبب في أن كان ذلك كذلك، هو أنَّ للتقديم فائدةً شريفة، ومعنًى جليلاً، لا سبيل إليه مع التأخير.
بيانه: أنَّا وإن كنَّا نرى جملة المعنى ومحصوله أنهم جعلوا الجن شركاءَ وعبدوهم مع الله - تعالى - وكان هذا المعنى يحصل مع التأخير حصوله مع التقديم، فإنَّ تقديمَ الشرَكاء يُفيد هذا المعنى، ويُفيد معه معنى آخر، وهو أنه ما كان ينبغي أن يكون لله شريك، لا من الجن ولا غير الجن، وإذا أُخِّر، فقيل: "جعلوا الجن شركاء لله" لم يُفِدْ ذلك، ولم يكن فيه شيء أكثر من الإخبار عنهم بأنَّهم عبدوا الجن مع الله تعالى"[9].
فعبدالقاهر في هذا النص يُميِّز بين نوعين من التراكيب، أحدهما نمطي أو مثالي، والآخر فنِّي أو عدولي، وفنية هذا النوع الأخير أو مزيته تتجلَّى عن طريق المقارنة بين الوجهين "المثالي والمنحرف"، ومسوِّغ المقارنة بينهما أنهما يتماثلان في الدلالة على ذات المعنى المراد بالعبارة، فأصْل المعنى واحد بين "وجعلوا لله شركاء الجن"، و"وجعلوا الجن شركاء لله"، غيرَ أنَّ العبارة القرآنيَّة - بتقديم الشُّركاء على الجن - قد أحدثتْ في هذا المعنى خصوصيةً نفتقدها في العبارة المفترضة، وهذا هو السِّرُّ في إيثار العبارة القرآنية.
إذًا فتغيير الترتيب (بالتقديم أو التأخير) يُمثِّل عدولاً عن هذا الأصل المثالي، واختراقًا للحركة الأُفُقية المنتظِمة المسيطرة على بنيته العميقة، تبعًا لعنصر القصد عند المبدع، حيث تتوافق البِنيةُ السطحية المخالفة مع اتِّجاه الحركة الذهنية عند المبدع؛ "لأنَّ مجرَّد مخالفة الترتيب المثالي، ينبئ عن غرضٍ ما، هو إبراز كلمة أو نكتة لتوجيه الْتفات المتلقي إليها... ومن ثَمَّ فهذا الإجراء الأسلوبي يتطلَّب مِن صاحبه حسًّا لغويًّا مدربًا، ولطفا عاليًا في الذوق الأدبي، يُضاف إليه معرفةٌ بالظروف الفيلولوجية للغة المدروسة"[10]، التي تتدخَّل في التركيب اللغوي للعبارة.
واستخدم عبدالقاهر لفظ "العدول" بمعنى "التحوُّل" من دلالة اللفظ لمعناه إلى "معني المعنى" في قوله: " الكلام على ضربين: ضرب أنت تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده... وضرب أنت لا تصل منه إلى الغرض بدلالة اللفظ وحده، ولكن يدلّك اللفظ على معناه الذي يقتضيه موضوعه في اللغة، ثم تجد لذلك المعنى دلالة ثانيةً تصل بها إلى الغرض... وإذ قد عرفت هذه الجملة فها هنا عبارة مختصرة، وهي أن تقول: المعنى، ومعنى المعنى، تعني بـ"المعنى": المفهوم من ظاهر اللفظ، والذي تصل إليه بغير واسطة، وبـ"معنى المعنى": أن تعقل من اللفظ معنًى، ثم يُفضِي بك ذلك المعنى إلى معنى آخر"[11].
فالتوصُّل بدلالة المعنى على معنى آخرَ لا يتمُّ إلا بالعدول عن الأصل لفوائد يقصر اللفظ وحْدَه عن أدائها.
ونظرية "معنى المعنى" التي طَرَقها عبدالقاهر - أو " المعاني الثواني " كما هي عند حازم[12] - لها تعلُّق بمفهوم "التوسع"، ومفهوم "المجاز" - ولعلَّه متأثر في ذلك بابن جِنِّي - حيث يقول: " إنَّ صور المعاني لا تتغيَّر بنقلها من لفظ إلى لفظ، حتى يكون هناك اتساعٌ ومجاز، وحتى لا يُراد من الألفاظ ظواهر ما وُضِعتْ له في اللغة، ولكن يُشار بمعانيها إلى معانٍ أُخر"[13].
وهكذا يتَّضح لنا من خلال ظاهرة الاتِّساع تعالُق الجانب النحوي بالجانب البلاغي، حيث الانتقالُ من الحقيقة إلى المجاز، وحيث يقوم الاتِّساع على أساس الدلالة اعتمادًا على المعنى - كما يرى عبدالقاهر[14].
ولم تَفُتْ عبدالقاهر الإشارةُ إلى مفهوم الاتساع، وذلك في مناقشته لقضية الصِّدْق والكذب في الشِّعر، فمن النقاد مَن قال: "أحسن الشعر أصدقه"، ومنهم مَن قال: "أحسن الشعر أكذبه"، أما من قال: أكذبه، فقد ذهب إلى "أنَّ الصنعة إنما تمد باعها، وينشر شعاعها، ويتسع ميدانها، وتتفرَّع أفنانها حيث يعتمد الاتساع والتخييل، وحيث قصد التلطُّف والتأويل، وهنا يجد الشاعر سبيلاً إلى أن يُبدِع ويزيد، ويُبْدئ في اختراع الصورة ويُعيد، ويُصادِف مضطربًا كيف شاء واسعًا، ومددًا من المعاني متتابعًا"[15].
يبدو من هذا النص: أنَّ عبدالقاهر قارن بين الاتساع والتخييل، وهما عنصران فاعلانِ في تشكيل الأسلوب المجازي الذي يُعدُّ مَعْلمًا بارزًا من معالِم الإبداع، واختراع الصور، ولذلك يستطيعُ الشاعر أن يصنع اللُّغة بالطريقة التي يراها تخدم غرضه، وتجسد رؤيته، ومن هنا يكون الاتِّساع ذا قُدرة على تجاوز حدود المألوف والعادي.
إنَّ "معنى المعنى"، أو "المعاني الثواني" إنَّما مدارها على الكناية والاستعارة والتشبيه، من أجْل هذا قال عبدالقاهر كلمته المشهورة: "إنَّ من الاستعارة ما لا يمكن بيانه إلاَّ مِن بعد العلم بالنظم، والوقوف على حقيقته... ومن دقيق ذلك وخفيه أنَّك ترى الناس إذا ذكروا قوله - تعالى -: ﴿ وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] لَم يزيدوا فيه على ذِكْر الاستعارة، ولم ينسُبوا الشرف إلا إليها، ولم يروا للمزية موجبًا سواها، هكذا ترى الأمر في ظاهر كلامهم، وليس الأمر على ذلك... ولكن لأن يسلك بالكلام طريق ما يُسند الفعل فيه إلى الشيء، وهو لِمَا هو من سببه، فيرفع به ما يسند إليه، ويؤتى بالذي للفعل له في المعنى منصوبًا بعده مُبيِّنًا أن ذلك الإسناد، وتلك النسبة إلى ذلك الأوَّل إنَّما كان من أجْل هذا الثاني، ولِمَا بينه وبينه من الاتصال والملابسة... ثم يدعونا عبدالقاهر إلى المقارنة بين قولنا: "اشتعل شيب الرأس"، أو "الشيب في الرأس"، وبين نص الآية الكريمة فيقول: "ثم تنظر: هل تجد ذلك الحُسن، وتلك الفخامة؟ وهل ترى الروعة التي كنت تراها؟ فإن قلت: فما السببُ في أن كان "اشتعل" إذا استعير للشيب على هذا الوجه كان له الفضل، ولِمَ بان بالمزية من الوجه الآخر هذه البينونة؟
فإنَّ السبب أن يُفيد مع لمعان الشيب في الرأس الذي هو أصلُ المعنى الشمول، وأنه قد شاع فيه، وأخَذَه من نواحيه، وأنه قد استقرَّ به، وعمَّ جملته... وهذا ما لا يكون إذا قيل: اشتعل شيب الرأس، أو الشيب في الرأس... واعلم أنَّ في الآية شيئًا آخر من جنس النظم، وهو تعريف الرأس بالألْف واللام، وإفادة معنى الإضافة من غير إضافة، وهو أحد ما أوجب المزية، ولو قيل: واشتعل رأسي، فصرَّح بالإضافة لذهب بعض الحسن"[16].
إنَّ هذا النَّص يدلُّ على أنَّ "معنى المعنى" لا يكون في اللغة المباشرة العادية التقريرية، إنَّما يكون في استخدامات اللغة التي تمثِّل خروجًا عن النمط المثالي للغة، وانتهاكًا لِمَا هو مألوف وعادي.
كذلك كان شأن الاستعارة عندَ سابقيه، كابن وهب (ت328هـ)، حيث يقول: "وأمَّا الاستعارة، فإنَّما احتيج إليها في كلام العرب؛ لأنَّ ألفاظَهم أكثرُ من معانيهم، وليس هذا في لسانٍ غيرِ لسانهم، فهم يعبِّرون عن المعنى الواحد بعبارات كثيرة، ربَّما كانتْ مفردةً له، وربما كانتْ مشتركة بينه وبين غيره، وربما استعملوا بعضَ ذلك في موضع بعض على التوسُّع والمجاز"[17].
أمَّا القاضي الجرجاني (ت366هـ) فقد جَعَل التوسُّع مرتبطًا بالاستعارة، فقال: "فأمَّا الاستعارة، فهي أحدُ أعمدة الكلام، وعليها المعول في التوسُّع والتصرف، وبها يُتوصَّل إلى تزيين اللفظ، وتحسين النظم والنثْر"[18].
وبهذا تكون الاستعارةُ عند البلاغيِّين والنقَّاد أداةً من أدوات التوسُّع الذي يُمكِّن المبدع مِن كسْر قواعد اللغة، ومنحها مجالاتٍ أوسع للتعبير عمَّا يشعر به، فاستخدام الشاعر للألفاظ يعتمد فيما يعتمد على المعنى السيكولوجي لها؛ أعني: دلالتها الارتباطيَّة الذاتية والجماعية، ولكنَّه اعتمادٌ يتجه فنيًّا بهذه الإيحاءات الخاصة إلى سياق أوسع وأشمل؛ ليفكَّ ارتباطها التقليدي، فيتحوَّل على يده كلُّ ما هو ذاتي وخاص من دلالات الألفاظ إلى كلِّ ذي طابع عام[19].
إذًا فمن النقَّاد مَن سَمَّى هذا التصرُّف العدولي "اتساعًا"، ومنهم مَن سمَّاه "توسُّعًا"، مع أنَّ المفهومين يحملان الدلالة نفسها، وحتى لا يظن ظانٌّ بأنَّ هناك فرقًا بينهما، فإنَّ مفهوم الانحراف - الذي استخدمه بعضُ النقاد[20] - يدلُّ دلالة كبيرة على هذا التصرُّف العدولي، كما أنه يُبرز أنَّ إدراك النقاد العرب لهذه القضية مرتبطٌ بإدراكهم لطبيعة الأسلوب الذي يُعدُّ انحرافًا عن القاعدة العامة أو المألوفة، ومِن ثَم يكون "الانحراف" مُعادلاً لـ"الاتِّساع أو التوَسُّع"، وبخاصة انحراف اللغة عن أصْلها الحقيقي بوضعها في إطار التعبير المجازي، ولا شكَّ أنَّ هذا الإجراء العدولي يعتمد اعتمادًا أساسيًّا على خيال المبدِع، وقدْرته على التغيير في ماهية الأشياء، ومنْحها أبعادًا جديدة[21]، "وذلك في الجهاد الفني فوزٌ غير قليل"[22].
ثم نلْتقي بالزمخشري (ت538هـ)، فنجده استخدم مصطلح "العدول" بمسمًّى آخَرَ، وهو "الالْتفات"، وبيَّن فائدته في الكشف عن بلاغة النص القرآني من خلال منهجه التحليلي الذي اتَّبعه في "الكشَّاف"، حيث لاءم بين فِكرتَي تخيُّر اللفظ، وتخير الموقع، فتحقَّق له بمصطلح "العدول" بيان كيفية تحقيق تجاوب النظم.
يقول الزمخشري في قوله - تعالى -: ﴿ وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ ﴾ [فاطر: 9]: إن قلت: لِمَ جاء ﴿ فتُثِير ﴾ على المضارع دون ما قبله وما بعده؟ قلت: ليحكيَ الحال التي تقع فيها إثارة الرِّياح السحاب، وتستحضر تلك الصور البديعية الدالة على القدرة الربانية، وهكذا يفعلون بفعل فيه نوْع تمييز، وخصوصية بحال تستغرب، أو تهم المخاطب، أو غير ذلك"[23].
إنَّ العدول بالخطاب من الماضي إلى المضارع - ونحن نعلم دلالة المضارع - يُمثِّل الفعل كأنَّه واقع ماثل مشاهد، على نحوٍ يحقق في الحكاية المعايشةَ الفعلية للحدث مِن قِبَل المتلقِّي.
وكذلك العدول عن المضارع إلى الماضي يجعل المتوقَّع في النسق الطبيعي المطرد للزمن في حُكم الواقع لدفْع المخاطب إلى التيقُّن منه؛ كقوله - تعالى -: ﴿ أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ [النحل: 1].
قال الزمخشري: "كانوا يستعجلون ما وُعِدوا من قيام الساعة... فقيل لهم: أتى أمر الله، الذي هو بمنزلة الآتي الواقع المُتيقَّن، وإن كان منتظرًا لقرب وقوعه"[24].
ويرى بعض الباحثين المعاصرين أنَّ جملة ﴿ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ ﴾ "قرينة لغوية سياقية تصرف الفعل (أتى) عن دلالته على الماضي إلى دلالته على المستقبل، والعدول بالفعل عن دلالته يصرف الفاعل (أمر الله) بدوره عن دلالته، أو بعبارة أخرى يحدِّد دلالته؛ لأنَّ العناصر المكونة للجملة لن تبقى بدون تغيُّر إذا صُرِف عنصر منها عن دلالته الأولى بقرينة ما، و(أمر الله) في سياق هذه الآية (قيام الساعة)، وقد أتى الفعل بصيغة الماضي لتحقُّقِ وقوع الأمر وقربه...
إنَّ اختيار المفردات ووضعها معًا في إطار جملة واحدة يقوم بدَور كبير في تحديد دلالة السياق اللغوي، الذي ينعكس بدوره على دلالة المفردات في الجملة"[25].
وكأنَّ الزمن المسَيْطر على السياق هو الزمن المستقبل، فيصير البناء الروائي رجوعًا بالذاكرة لمشهدٍ قديمٍ حَدَث منذ زمن بعيد، مع أنه ما زال جنينًا في رَحِم المستقبل؛ ليتمَّ التأكيد على حدوثه، والتحقُّق من وقوعه، وإن تأخَّر به الزمن.
قال المرادي: "الأمور المستقبلة لَمَّا كانت في أخبار الله متيقنة مقطوع بها، عبّر عنها بلفظ الماضي"[26].
والزمخشري - دومًا - يلتمس الأسبابَ والعِلل لتجاوز النسق القرآني للأسلوب العادي أو المألوف، ويوضِّح قيمةَ ذلك بلاغيًّا وجماليًّا؛ لذلك يأخذ بنا الزمخشريُّ إلى قضية الترتيب في الكلام والأصل فيها، وقيمة تقديم ما حقُّه التأخير، ففي قوله - تعالى -: ﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 11]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ﴾ [النساء: 12]، و﴿ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ ﴾ [النساء: 12]
نلاحظ تَقدُّم الوصية على الدَّيْن في الآيتين السابقتين أربعَ مرَّات، مع أنَّ الدَّيْن مقدَّم على الوصية شرعًا بالإجماع، وما يرتبط بالشرع يتقدَّم ويعلو دائمًا في الموروث الإسلامي، وبذلك خالف خطُّ التنسيق اللفظي خطَّ التنسيق الاستحقاقي (الشرفي)، وفي ذلك يقول الزمخشري: "فإن قلت: لِمَ قُدِّمت الوصية على الدَّيْن، والدَّين مقدَّم عليها في الشريعة؟ قلت: لَمَّا كانت الوصية مُشْبِهَةً للميراث في كونها مأخوذةً من غير عِوَض كان إخراجها مما يشُقُّ على الورثة، ويتعاظمُهم، ولا تطيب أنفسهم بها، فكان أداؤها مَظِنَّةً للتفريط بخلاف الدَّين، فإنَّ نفوسهم مطمئنةٌ إلى أدائه، فلذلك جِيء بالكلمة "أو" للتسوية بينهما في الوجوب"[27].
وهنا يُجلِّي الزمخشري مفهومًا دقيقًا للبلاغة من حيث هي، "مطابقة الكلام لمقتضى الحال"، حيث يُصبح الكلام نقطةَ الْتقاء فاعلة بين المتكلِّم والمتلقِّي، كما أنَّ فيه بيانًا بأن البلاغة تتدرَّج من الأقل إلى الأكثر، وأنها تتدرَّج من الأدْنى، وتتطوَّر إلى الأعلى.
ويُعلِّل الزمخشري بلاغةَ الالْتفات أو العدول من أسلوب إلى أسلوب بأنَّ فيه إيقاظًا للسامع، وتطرية له، بنقله من خطاب إلى خطاب آخر، ولكنَّ ابن الأثير يأخذ على الزمخشري أنَّ هذا التفسير يتَّسم بالتعميم، ويرى أنَّ كل موطن جاء فيه عدول إنما جاء لنوع خصوصية اقتضتْ ذلك.
والحق أنَّ الزمخشري لم يُهْمِل وجهة نظر ابن الأثير، بل يتَّفق معه تمامًا، فقد قال بعد الإشارة السابقة: "وقد تختصُّ مواقعه بفوائد"[28]، إذًا فقد بيَّن الزمخشري أنَّ كل موقع جاء فيه عدول يشتمل على فائدة، أو نكتة بلاغية تُستنبط عند تأمُّل السياق، والمتصفِّح للكشاف يتضح له ذلك بسهولة.
ثم يصل بنا الزمان إلى السكاكي (ت626هـ)، فنجده أكثرَ البلاغيين فَهْمًا واستيعابًا لهذا المبحث "المثالي والمنحرف"، حيث نظر لكلٍّ من الإيجاز والإطناب باعتبارهما أمرين نسبيين، من حيث كانَا ممثلين لعدول عن أصْل مفترض، هو "المساواة"، وهي متعارف أوساط الناس[29].
فقد يكون ظاهرُ الكلام مطنبًا وهو موجز بالقياس إلى كلام آخَر؛ ولذا فإنَّ تقرير مواضع الإيجاز والإطناب إنما يَرجِع إلى متعارف الأوساط؛ لأنَّ الأوساط في مُتعارفهم "لا يقدرون في تأدية المعاني على اختلاف العبارات والتصرُّف في لطائف الاعتبارات"[30].
من ذلك يتبيَّن لنا مدى إدراك السكاكي لطابع الانحراف، والمنحى الفني فيه في كلٍّ من الإيجاز والإطناب، وذلك في ضوْء وصْفه لهما بأنهما نسبيَّان[31].
كما أظهر أنَّ الكلام كلَّما فارق الأصل المثالي ازداد جمالاً بظهور التفاوت بين ذلك الأصل المثالي، وبين ما جاء عليه نَظْم القرآن، ففي قوله - تعالى -: ﴿ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا ﴾ [مريم: 4] جملةُ لطائفَ لا تبرز إلا بمعرفة أصْل معنى الكلام؛ إذ "لا شُبهةَ أنَّ أصل معنى الكلام ومرتبته الأولى: يا ربي قدْ شخت، ثم تُرِكتْ هذه المرتبة لتوخِّي مزيد التقدير إلى تفصيلها في: ضَعُف بدني، وشاب رأسي، ثم تُرِكت هذه المرتبة الثانية؛ لاشتمالها على التصريف إلى ثالثة أبلغ، وهي: الكناية في: وَهَنتْ عظام بدني... ثم لقصد مرتبة رابعة، أبلغ في التقدير بنيت الكناية على المبتدأ، فحصل: إني وهنتْ عظام بدني، ثم لطلب تقرير أنَّ الواهن هي عظام بدنه، قصدت مرتبة سادسة، وهي سلوك طريق الإجمال والتفصيل، فحصل: إني وَهَن العظم مِن بدني... ثم لطلب شمول الوهن العظام فردًا فردًا، قصدت مرتبة ثامنة، وهي ترْك جمع العظم إلى الإفراد لصحة حصول وهن المجموع بالبعض دون كلِّ فردٍ فردٍ فحصل ما ترى، وهو الذي في الآية... وهكذا تركت الحقيقة في شاب رأسي إلى أبلغ، وهي الاستعارة... ثم تُركت إلى أبلغ، وهي اشتعل رأسي شيبًا"[32].
ويرَى السَّكَّاكي: أنَّ العدول هنا أبلغُ مِن عدَّة جهات: إحداها: إسناد الاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال الرأس؛ إذ وزان (اشتعل شيْب رأسي، واشتعل رأسي شيبًا) وزان (اشتعل النار في بيتي، واشتعل بيتي نارًا)، والفرق نيِّر، وثانيتها: الإجمال والتفصيل في طريق التمييز، وثالثتها: تنكير "شيبًا" لإفادة المبالغة، ثم ترك (اشتعل رأسي شيبًا)، ثم ترك لفظ "مني" لقرينة عطف (واشتعل الرأس) على (وهن العظم مني) لمزية مزيد التقرير، وهي إبهام حوالة تأدية مفهومه على العقْل دون اللفظ[33].
ويَبنِي السكاكي قوةَ التشبيه أيضًا على أساس فكرة العدول؛ حيث إنَّه قال: "والحاصل مِن مراتب التشبيه ثمانٍ، أحدها: ذكْر أركانه الأربعة... وثانيتها: ترْك المشبَّه... وثالثتها: ترْك كلمة التشبيه، كقولك: زيد أسد في الشجاعة، وفيها نوع قوَّة، ورابعتها: ترْك المشبَّه وكلمة التشبيه... وثامنتها: إفراد المشبَّه به في الذِكْر، كقولك: "أسد" في الخبر عن زيد، وهي كالسابعة"[34].
فقوله: "ذكر أركانه الأربعة"، ثم قوله: "ترك المشبه"، ثم قوله: "ترك كلمة التشبيه"؛ يعني بهذه الأقوال: العدول عن الذِّكْر لغرض بلاغي.
وتبدو براعة السكاكي في نقله لمبحث الالْتفات من " البديع " إلى المعاني؛ لاشتماله على خاصية في التركيب يُرَاعى بها مقتضى الحال، كما تتمثَّل براعته أيضًا في إدراكه لعملية العدول، وتوسيع دائراتها فيما مثَّل به من قول امرئ القيس:
تَطَاوَلَ ليَلُكِ بِالْإثْمِدِ
وَنَامَ الْخَلِيُّ وَلَمْ تَرْقُدِ 
وَبَاتَ وَبَاتَتْ لَهُ لَيْلَةٌ
كَلَيْلَةِ ذِي الْعَائرِ الأَرْمَدِ 
وَذَلِكَ مِنْ نَبَأٍ جَاءَنِي
وَأُنْبِئْتُهُ عَنْ أَبِي الأَسْوَدِ[35] 
فظاهرُ الحديث كان يقتضي البَدْءَ بلسان المتكلِّم، فالعدول هنا ليس بالنسبة لكلام سابق؛ وإنما بالنسبة للأصل الذي يجب أن يكون عليه الكلام، وبهذا يدخل التجريد في مجال الالتفات[36].
ولتوضيح ذلك نتأمَّل أنواع الضمائر الثلاثة في الأبيات، وهي كالآتي (مخاطب، غائب، متكلم)، تشير كلُّها إلى شخص واحد، وهو الشاعر نفسه، والضميران في البيت الأول للمخاطب، وهذا هو ما يُسمَّى في البلاغة بالتجريد: (أن يُجرِّد الشاعر من نفسه شخصًا آخر يخاطبه)، وهي طريقة مسلوكة عندَ الشعراء، ولذلك يمكن أن نعدَّها جزءًا من اللغة الشعرية[37]، فهي لا تلفت انتباهَ القارئ أو المستمع الذي تهيَّأ لقراءة هذا اللَّوْن من الشعر أو سماعه، ولكننا نَعدُّ تغيير الضمير في البيتين التاليين سِمتَين أسلوبيتين؛ لأنَّ القارئ أو المستمع للشعر لا يتوقَّع في كل تجريد أن يعقبه الْتفات، ولا في الالتفات الأول أن يعقبه التفاتٌ ثانٍ، ولذلك يمكن أن نمثِّل تركيب هذا النسق الكبير على الوجه التالي:
نسق - مخالفة تبتدئ نسقًا جديدًا - مخالفة.
ودلالة التجريد والالتفات - معًا في هذه الأبيات - على الاضطراب النفسي واضحة.
فليستِ العِبرة في السمة الأسلوبية بأن يكون لها اسمٌ في البلاغة، استعارة أو غيرها؛ إنَّما العِبرة بأن تفاجئ القارئ أو المستمع، ولو مفاجأة خفيفة، وأن تكون لها دلالةٌ مرتبطة بالموقف[38].
إنَّ الانتقال المفاجئ من ضمير إلى ضمير مغاير، يُحدِث اهتزازًا في مرجعية الضمير على المستوى السطحي للصياغة، ويُوهِم بتعدُّد الأصوات، وهنا يتمُّ إدخال المتلقي كطرَف مهمٍّ في إتمام دلالة بنية العدول، حيث يقوم بتوجيه الضمائر (والأفعال)، ويُعيدها إلى الوحدة والاستقرار في البنية العميقة، وربما اقتضتْ بنية العدول حذْفَ بعض الدوال لإبراز عُمْق النقلة الصياغية، مما يُحفِّز عنصر التخييل عندَ المتلقِّي، ويدفعه إلى محاولة إعادة الدوال المحذوفة لتكتمل الدلالة... وإذا لم يتنبه إلى هذا العدول عن مقتضى الظاهر، حَدَث خَلَلٌ لديه في مرجعية الضمير، وفقدَ تواصله مع النصّ، وقلَّ بالتالي انفعالُه به، وإدراكه لمراميه وجمالياته؛ لأنَّ بنية العدول المخالِفة لمقتضى الظاهر تُسهم في توليد ثنائية ضدية على المستوى الصياغي مِن خلال الانتقال من الغِياب إلى الحضور الخطابيّ، كذلك يُتيح العدول في الضمائر للمبدع حريةً كبيرة من إضفاء الحيوية على النص، من خلال تعدُّد زوايا الرؤية، والتحولات الدائمة من الذاتية إلى الموضوعية، والعكس[39].
وبذلك يتَّضح أنَّ السكاكي يميل إلى توسيع نِطاق البنية المثالية (القاعدة)، التي يمثل الالْتفات عدولاً عنها، فليستِ القاعدة عنده "ما يمثله ظاهر العبارة؛ وإنما يوسِّع دائرة النمط؛ لتشملَ هذا البُعدَ الميتافيزيقيَّ للغة، البعد المعتمد على التقدير أيضًا، إمعانًا في تسجيل الخِلاف، وتعميق فجْوة الانحراف بين المقولة النحوية، والأسلوب البليغ "[40].
أما ابن الأثير (ت 637هـ)، فقد تناول فكرة "العدول" من خلال حديثه عن "الالْتفات"، وهو يرى أنَّ حدَّ الالتفات هو العدول، أو "الانتقال مِن صيغة إلى صيغة، كانتقال من خطاب حاضر إلى غائب، أو مِن خطاب غائب إلى حاضر، أو مِن فعل ماضٍ إلى مستقبل، أو مِن مستقبل إلى ماضٍ، أو غير ذلك... ويُسمَّى أيضًا شجاعة العربية"[41]. ومن ثَمَّ جعله خُلاصة علم البيان.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|