من محاضرات كبار العلماء (6)
سماحة الشيخ صالح بن فوزان الفوزان - اجتماع الكلمة وآثارها في دفع الفتن
مجلة الفرقان
هذه محاضرة من نفائس محاضرات العلامة الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله- في موضوع عظيم وهو (بيان اجتماع كلمة المسلمين وأثر ذلك في درء الفتن ومدافعة الفتن)، وفي ذلك يقول الشيخ: لا شك أن الفتن تجرى من أول الخليقة؛ فقد جرت على آدم -عليه السلام- وزوجه، وجرت على بني آدم، ولا تزال تجري وتكثر في آخر الزمان، قال -تعالى-: {الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ(١) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} (سورة العنكبوت: 1-2)، فالله يجري الفتن ليتميز المؤمن الصادق في إيمانه، الثابت على دينه، الصابر على ما يصيبه، من المنافق الكاذب الذي ينحرف عن دينه عند الفتن ولا يصبر ولا يثبت، {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} (سورة الحـج: 11)، فالمنافق لا يثبت عند الفتن؛ لأنه ليس في قلبه إيمان يثبته، وإنما تظاهر بالإسلام لمصالحه الدنيوية؛ فإذا جاءت الفتن، فإنه ينكشف أمره ويفتضح سره.
طريق النجاة من الفتن
ثم بين الشيخ طريق النجاة من الفتن فقال: أعظم ما يقي من الفتن التزام كتاب الله -تعالى- وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم -، واجتماع المسلمين تحت قيادتهم وتحت سلطانهم ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، عن حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه - قال: «كانَ النَّاسُ يَسْأَلُونَ رَسولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - عَنِ الخَيْرِ، وكُنْتُ أَسْأَلُهُ عَنِ الشَّرِّ مَخَافَةَ أَنْ يُدْرِكَنِي، فَقُلتُ يا رَسولَ اللهِ إنَّا كُنَّا في جَاهِلِيَّةٍ وشَرٍّ، فَجَاءَنَا اللهُ بهذا الخَيْرِ، فَهلْ بَعْدَ هذا الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ قُلتُ: وهلْ بَعْدَ ذلكَ الشَّرِّ مِن خَيْرٍ؟ قالَ: نَعَمْ، وفيهِ دَخَنٌ قُلتُ: وما دَخَنُهُ؟ قالَ: قَوْمٌ يَهْدُونَ بغيرِ هَدْيِي، تَعْرِفُ منهمْ وتُنْكِرُ قُلتُ: فَهلْ بَعْدَ ذلكَ الخَيْرِ مِن شَرٍّ؟ قالَ: نَعَمْ، دُعَاةٌ إلى أَبْوَابِ جَهَنَّمَ، مَن أَجَابَهُمْ إلَيْهَا قَذَفُوهُ فِيهَا قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، صِفْهُمْ لَنَا؟ فَقالَ: هُمْ مِن جِلْدَتِنَا، ويَتَكَلَّمُونَ بأَلْسِنَتِنَا قُلتُ: فَما تَأْمُرُنِي إنْ أَدْرَكَنِي ذلكَ؟ قالَ: تَلْزَمُ جَمَاعَةَ المُسْلِمِينَ وإمَامَهُمْ، قُلتُ: فإنْ لَمْ يَكُنْ لهمْ جَمَاعَةٌ ولَا إمَامٌ؟ قالَ فَاعْتَزِلْ تِلكَ الفِرَقَ كُلَّهَا، ولو أَنْ تَعَضَّ بأَصْلِ شَجَرَةٍ، حتَّى يُدْرِكَكَ المَوْتُ وأَنْتَ علَى ذلكَ»، فدل هذا على أن لزوم جماعة المسلمين إمام المسلمين من أسباب الوقاية من الفتن بإذن الله -تعالى-؛ ولهذا قال -جل وعلا-: {وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ} (آل عمران: 103).
نعمة بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم
ثم أضاف الشيخ -حفظه الله-: بعث الله نبيه محمدا - صلى الله عليه وسلم - إلى أهل مكة؛ فدعاهم إلى الإسلام وترك الشرك وإفراد الله -جل وعلا- بالعبادة؛ فاستجاب له من استجاب منهم، وتوحدت كلمتهم وتآلفت جماعتهم، وصاروا تحت قيادة واحدة هي قيادة الرسول - صلى الله عليه وسلم -؛ فأتم الله عليهم نعمته، {وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ} (آل عمران: 103) فنقلهم من الفوضى والجاهلية والشرك إلى الإسلام بما فيه من الخير العظيم، وحذرهم من التفرق والعود إلى تفرق الجاهلية؛ إبقاء على وحدتهم وعلى دولتهم وعلى جماعتهم؛ فالاجتماع خير إن كان على حق وإن كان على دين صحيح فهو خير، والفرقة عذاب ذكرهم الله بذلك وحذرهم من ضده، وفي آية أخرى بين الله -سبحانه وتعالى- بماذا يحصل الأمن والاطمئنان بعد الخوف؟ فقال -سبحانه وتعالى-: {وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ}، وقال -تعالى-: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا} (سورة النــور: 55)، هذا هو الذي جمعهم: عبادة الله وحده وترك الشرك؛ فكلمة التوحيد (لا إله إلا الله) هي التي جمعت القبائل المتناحرة، جمعت العرب والعجم جمعت سلمان وبلالا وصهيبا مع أبي بكر وعمر وعلي وسائر الصحابة جميعهم، إخوانا متآلفين متحابين مع اختلاف ألسنتهم واختلاف ألوانهم وقبائلهم وشعوبهم، جمعتهم كلمة التوحيد (لا إله إلا الله محمد رسول الله)، والعمل بمقتضاها، {يعبدونني لا يشركون بي شيئا}.
تأليف القلوب بكلمة التوحيد
وأضاف الشيخ قائلا: وفي آية أخرى قال الله لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم -: {وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ أنه عَزِيزٌ حَكِيمٌ} (الأنفال: 63) هو الذي ألف بين قلوبهم بكلمة التوحيد، توحيد العبادة والألوهية بعد أن كانوا يعبدون الأصنام والأحجار، ومتفرقين في عباداتهم، صاروا يعبدون الله -عز وجل- الذي خلقهم ورزقهم، فالله -جل وعلا- جمعهم بالتوحيد، وإفراده بالعبادة وترك الشرك والبدع والمحدثات؛ ولهذا حث النبي - صلى الله عليه وسلم - على البقاء على هذه النعمة قال - صلى الله عليه وسلم -: «إن الله يرضى لكم ثلاثة: أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم».
ثلاثة أمور تجمع الناس كلهم
وبين الشيخ أنَّ هذا الحديث أشار إلى ثلاثة أمور تجمع الناس كلهم:
الأول: العقيدة الصحيحة
الأمر الأول هو عبادة الله وحده وعدم الإشراك به، فلا يجمع الناس إلا العقيدة الصحيحة؛ ولهذا الرسل كلهم وخاتمهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أول ما يبدؤون الدعوة هو إصلاح العقيدة {وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً}؛ لأنها هي التي تصلح المجتمع، وهي التي تجتمع عليها القلوب وتتآلف، عقيدة واحدة هي عقيدة التوحيد والإيمان بالله ورسوله.
الثاني: الاعتصام بحبل الله
الأمر الثاني هو الاعتصام بحبل الله -تعالى-، تجعلون القرآن والسنة هما إمامكم الذي ترجعون إليه عند الاختلاف: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} (النساء: 59) فالخلاف يحسم بالرجوع إلى الكتاب والسنة ولا يحسم بالعادات والتقاليد والعوائد القبلية إنما الذي يحكم الخلاف ويؤلف بين القلوب هو الرجوع إلى الكتاب والسنة.
الثالث: الدين النصيحة
الأمر الثالث هو النصيحة لمن ولاه الله أمركم، والنصيحة معناها السمع والطاعة لولي أمر المسلمين في المعروف، فلابد من الاجتماع حولهم وعدم التفرق عنهم، فالاجتماع لا يتحقق إلا بولي أمر يجتمع الناس عليه، ولا يستقيم ولي الأمر إلا بالسمع والطاعة؛ ولهذا أوصى - صلى الله عليه وسلم - بطاعة ولاة الأمور وإن جاروا وإن ظلموا وإن عصوا، ما لم ترو كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان؛ فولي الأمر غير معصوم ويكون عنده خطايا وبعض الأمور، ومادام أنه لا يصل إلى حد الكفر؛ لما ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - ما يكون من ولاة الأمور في آخر الزمان من المخالفات، قالوا: يا رسول الله أفلا ننابذهم؟ أي نخرج عليهم، قال: «لا، ما أقاموا فيكم الصلاة» فما داموا يصلون وعقيدتهم سليمة فتجب طاعتهم ولو كان عندهم معاص ومخالفات؛ لأجل اجتماع الكلمة وتوحيد الصف، ومن مناصحته إيصال النصيحة إليه؛ لأنه بشر يحتاج إلى من يعينه ويبين له الخير من الشر.
النصيحة في الوظيفة
وكذلك من النصيحة القيام بالأعمال التي توكل إلى الموظف والمسؤول، هذا من مناصحة ولي الأمر القيام بالأعمال الوظيفية على الوجه المطلوب الذي وكلها إليك ولي الأمر هذا من النصيحة، أما الذي يغش في وظيفته ولا يقوم بالأعمال هذا غاش لولي الأمر وللمسلمين.
سُنَّة الخلفاء الراشدين
وتابع الشيخ كلامه قائلا: فلا نجاة إلا بالاعتصام بكتاب الله وسنة رسوله - صلى الله عليه وسلم - وسنة الخلفاء الراشدين المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلى -رضي الله عنهم-؛ لأنهم ساروا على نهج النبي وأحيوه وتمسكوا به، فأعظم من يمثل المتمسكين بالسنة هم الخلفاء الراشدون -رضي الله عنهم- بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، قال -تعالى-: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} (التوبة: 100)، وبعد الخلفاء الراشدين يأتي بقية الصحابة من المهاجرين والأنصار، القرن الذي أثنى عليه رسول - صلى الله عليه وسلم - خيركم قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم ثلاثة قرون بعد الرسول - صلى الله عليه وسلم -، كانوا متمسكين تمامًا بالكتاب والسنة، فنقتدي بهم ونأخذ طريقهم، ونسير على منهجهم حتى ننجو من الفتن.
مرجع الناس عند التنازع
وأردف الشيخ قائلا: حصول اختلاف في وجهات النظر من طبيعة البشر؛ ولذلك قال -تعالى-: { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا } (النساء: 59) لابد من الرجوع إلى الله -تعالى- وإلى كتابه وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - في حياته، ويرجعون إلى سنته بعد وفاته كما قال - صلى الله عليه وسلم -: «عليكم بسنتي» فالذي لا يرجع إلى كتاب الله وسنة رسوله في حل النزاعات والخصومات والاختلافات هذا ليس بمؤمن كما قال -سبحانه-: {إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِر} وقوله: {ذَلِكَ خَيْرٌ}، أي الرد إلى كتاب الله وسنة رسوله خير {وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا} أي: أحسن عاقبة ومآلا، أما الذي يرجع إلى غير كتاب الله وسنة رسوله ويرجع إلى القوانين الوضعية والعادات القبلية فهذا يهلك ويضل، وهذه وصية الله -جل وعلا- لنا.