وبمثل الّذي قلنا في تأويل ذلك قال أهل التّأويل.
ذكر من قال ذلك:
- حدّثنا بشر بن معاذٍ، قال: حدّثنا يزيد بن زريعٍ، عن سعيدٍ، عن قتادة: {فهم لا يرجعون}«أي لا يتوبون ولا يذكرون».
- وحدّثني موسى بن هارون، قال: حدّثنا عمرو بن حمّادٍ، قال: حدّثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ، في خبرٍ ذكره، عن أبي مالكٍ، وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم: {فهم لا يرجعون} « إلى الإسلام».
وقد روي عن ابن عبّاسٍ قولٌ يخالف معناه معنى هذا الخبر.
وهو ما حدّثنا به ابن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {فهم لا يرجعون}«أي فلا يرجعون إلى الهدى ولا إلى خيرٍ، فلا يصيبون نجاة ما كانوا على ما هم عليه.».
وهذا تأويلٌ ظاهر التّلاوة بخلافه، وذلك أنّ اللّه جلّ ثناؤه أخبر عن القوم أنّهم لا يرجعون عن اشترائهم الضّلالة بالهدى إلى ابتغاء الهدى وإبصار الحقّ من غير حصرٍ منه جلّ ذكره ذلك من حالهم على وقتٍ دون وقتٍ وحالٍ دون حالٍ. وهذا الخبر الّذي ذكرناه عن ابن عبّاسٍ ينبئ عن أنّ ذلك من صفتهم محصورٌ على وقتٍ وهو ما كانوا على أمرهم مقيمين، وأنّ لهم السّبيل إلى الرّجوع عنه. وذلك من التّأويل دعوى باطلةٌ لا دلالة عليها من ظاهرٍ ولا من خبرٍ تقوم بمثله الحجّة فيسلّم لها). [جامع البيان: 1/ 348 - 350]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ( {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18)}
قوله تعالى: {صمٌّ بكمٌ عميٌ}
- حدّثنا أبي ثنا أبو صالحٍ حدّثني معاوية بن صالحٍ عن عليّ بن أبي طلحة عن ابن عبّاسٍ {صمٌّ بكمٌ عميٌ}يقول: «لا يسمعون الهدى، ولا يبصرونه ولا يعقلونه».
- حدّثنا أبو زرعة ثنا عمرو بن حمّادٍ ثنا أسباطٌ عن السّدّيّ {صمٌّ بكمٌ}قال: «فهم الخرس عميٌ».
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة: « صمٌّ عن الحقّ فهم لا يسمعونه، بكمٌ عنه فهم لا ينطقون به، عميٌ عنه فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 52 - 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {بكمٌ}
- حدّثنا موسى بن أبي موسى الأنصاريّ، ثنا هارون بن حاتمٍ، ثنا عبد الرّحمن بن أبي حمّادٍ، عن أسباط بن نصرٍ، عن السّدّيّ، عن أبي مالكٍ، قوله: {بكمٌ}«يعني خرسًا عن الكلام بالإيمان فلا يستطيعون الكلام. {صمٌّ}يعني صمّ الآذان».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {عميٌ}
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا صفوان، ثنا الوليد، ثنا سعيد بن بشيرٍ، عن قتادة، قوله: {عميٌ}قال: «عميٌ عن الحقّ فهم لا يبصرونه».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): (قوله: {فهم لا يرجعون}
[الوجه الأول]
- حدّثنا محمّد بن يحيى ثنا أبو غسّان، ثنا سلمة قال: قال محمّد بن إسحاق، فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}«أي لا يرجعون إلى هدًى». وكذلك فسّره الرّبيع بن أنسٍ.
- حدّثنا أبو زرعة، ثنا عمرو بن حمّادٍ، ثنا أسباطٌ، عن السّدّيّ: {صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}«إلى الإسلام».
الوجه الثّاني:
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ العبّاس بن الوليد، ثنا يزيد بن زريعٍ، ثنا سعيدٌ عن قتادة يقول اللّه: {فهم لا يرجعون}«أي لا يتوبون ولايذّكّرون».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 53]
قالَ جَلاَلُ الدِّينِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ السُّيُوطِيُّ (ت: 911 هـ) : (قوله تعالى: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون * صم بكم عمي فهم لا يرجعون * أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم في آذانهم من الصواعق حذر الموت والله محيط بالكافرين * يكاد البرق يخطف أبصارهم كلما أضاء لهم مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير}
أخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم والصابوني في المائتين عن ابن عباس في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}الآية، قال: «هذا ضربه الله للمنافقين كانوا يعتزون بالإسلام فيناكحهم المسلمون ويوارثوهم ويقاسمونهم الفيء، فلما ماتوا سلبهم الله العز كما سلب صاحب النارضوءه{وتركهم في ظلمات}يقول: في عذاب{صم بكم عمي}لا يسمعون الهدى ولا يبصرونه ولا يعقلونه{أو كصيب}هو المطر، ضربمثله في القرآن{فيه ظلمات}يقول:ابتلاء{ورعد وبرق}تخويف{يكاد البرق يخطف أبصارهم}يقول: يكاد محكم القرآن يدل علىعورات المنافقين{كلما أضاء لهم مشوا فيه}يقول: كلما أصاب المنافقون من الإسلام اطمأنوا فإن أصاب الإسلام نكبة قاموا ليرجعوا إلى الكفر كقوله: {ومن الناس من يعبد الله على حرف} [الحج الآية 11] الآية».
وأخرج ابن جرير عن ابن مسعود وناس من الصحابة في قوله {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}الآية، قال: إن ناس دخلوا في الإسلام مقدم النّبيّ صلى الله عليه وسلم المدينة ثم نافقوا فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمة فأوقدا نارا {أضاءت ما حوله}من قذى أو أذى فأبصره حتى عرف ما يتقى، فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره فأقبل لا يدري ما يتقي من أذى فكذلك المنافق كان في ظلمة الشرك فأسلم فعرف الحلال من الحرام والخير من الشر بينا هو كذلك إذ كفر فصار لا يعرف الحلال من الحرام ولا الخير من الشر فهم {صم بكم}فهم الخرس {فهم لايرجعون}إلى الإسلام، وفي قوله {أو كصيب} الآية، قال: كان رجلان من المنافقين من أهل المدينة هربا من رسول الله إلى المشركين فأصابهما هذا المطر الذي ذكر الله، فيه رعد شديد وصواعق وبرق فجعلا كلما أصابتهما الصواعق يجعلان أصابعهما في آذانهما من الفرق أن تدخل الصواعق في مسامعهما فتقتلهما وإذا لمع البرق مشيا في ضوئه وإذا لم يلمع لم يبصرا، قاما مكانهما لا يمشيان فجعلا يقولان، ليتنا قد أصبحنا فنأتي محمد فنضع أيدينا في يده، فأصبحا فأتياه فأسلما ووضعا أيديهما في يده وحسن إسلامهما، فضرب الله شأن هذين المنافقين الخارجين مثلا للمنافقين الذين بالمدينة وكان المنافقون إذا حضروا مجلس النّبيّ صلى الله عليه وسلم جعلوا أصابعهم في آذانهم فرقا من كلام
النبي صلى الله عليه وسلم أن ينزل فيهم شيء أو يذكر بشيء فيقتلوا كما كان ذانك المنافقان الخارجان يجعلان أصابعهما في آذانهما {كلماأضاء لهم مشوا فيه}فإذا كثرت أموالهم وولدهم وأصابوا غنيمة وفتحا {مشوا فيه}وقالوا: إن دين محمد حينئذ صدق: واستقاموا عليه كما كان ذانك المنافقان يمشيان إذا أضاء بهما البرق {وإذا أظلم عليهم قاموا}فكانوا إذا هلكت أموالهم وولدهم وأصابهم البلاء قالوا هذا من أجل دين محمد وارتدوا كفارا كما كان ذانك المنافقان حين أظلم البرق عليهما.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس في قوله {كمثل الذي استوقد}
قال: «ضربه الله مثلا للمنافق، وقوله:{ذهب الله بنورهم}أما{النور}فهو إيمانهم الذي يتكلمون به وأما الظلمة فهي ضلالهم وكفرهم»، وفي قوله {أو كصيب}الآية، قال: «الصيب المطر، وهو مثل المنافق في ضوء ما تكلم بما معه من كتاب الله وعمل مراءاة للناس فإذا خلا وحده عمل بغيره فهو في ظلمة ما أقام على ذلك وأما{الظلمات}فالضلالة وأما{البرق}فالإيمان، وهم أهل الكتاب{وإذا أظلم عليهم}فهورجل يأخذ بطرف الحق لا يستطيع أن يجاوزه».
وأخرج ابن إسحاق، وابن جرير، وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله {مثلهم}الآية، قال: «ضرب الله مثلا للمنافقين يبصرون الحق ويقولون به حتى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فتركهم في ظلمات الكفر لا يبصرون هدى ولا يستقيمون على حق{صم بكمعمي}عن الخير{فهم لا يرجعون}إلى هدى ولا إلى خير»، وفي قوله: {أو كصيب}الآية، يقول: «هم من ظلمات ما هم فيه من الكفر والحذر من القتل على الذي هم عليه من الخلاف والتخويف منكم على مثل ما وصف من الذي هم في ظلمة الصيب فجعل أصابعه في أذنيه من الصواعق{حذر الموت والله محيط بالكافرين}منزل ذلك بهم من النقمة{يكاد البرق يخطف أبصارهم}أي لشدة ضوء الحق{كلما أضاء لهم مشوا فيه}أي يعرفون الحق ويتكلمون به فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر{قاموا}أي متحيرين{ولو شاء الله لذهب بسمعهم}أي لما سمعوا تركوا من الحق بعد معرفته.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن مجاهد في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}
قال: «أما إضاءة النار فإقبالهم إلى المؤمنين والهدى وذهاب نورهم إقبالهم إلى الكافرين والضلالة وإضاءة البرق على نحو المثل{والله محيط بالكافرين}قال: جامعهم في جهنم.».
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير عن قتادة في قوله: {مثلهم كمثل الذي استوقد نارا}قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافقين، إن المنافق تكلم بلا إله إلا الله فناكح بها المسلمين ووارث بها المسلمين وغازى بها المسلمين وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت لم يكن لها أصل في قلبه ولا حقيقة في عمله فسلبها المنافق عند الموت فترك في ظلمات وعمى يتسكع فيها، كما كان أعمى في الدنيا عن حق الله وطاعته صم عن الحق فلا يبصرونه {فهم لا يرجعون}عن ضلالتهم ولا يتوبون ولا يتذكرون»،{أو كصيب من السماء فيه ظلمات ورعد وبرق يجعلون أصابعهم فيآذانهم من الصواعق حذر الموت}قال: «هذا مثل ضربه الله للمنافق لجنبه لا يسمع صوتا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه قد أتي ولا يسمع صياحا إلا ظن أنه ميت، أجبن قوم وأخذله للحق، وقال الله في آية أخرى{يحسبون كل صيحة عليهم} [المنافقون الآية 4] »، {يكادالبرق يخطف أبصارهم}الآية، قال:«{البرق}هو الإسلام والظلمة هو البلاء والفتنة، فإذا رأى المنافق من الإسلام طمأنينة وعافية ورخاء وسلوة من عيش{قالوا إنا معكم}ومنكم وإذا رأى من الإسلام شدة وبلاء فقحقح عند الشدة فلا يصبر لبلائها ولم يحتسب أجرها ولم يرج عاقبتها، إنما هو صاحب دنيا لها يغضب ولها يرضى وهو كما هو نعته الله». ). [الدر المنثور: 1/ 170 - 176] (م)
تفسير قوله تعالى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) }
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ( {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون (17) صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون (18) }
[يقال: مثلٌ ومثلٌ ومثيلٌ -أيضًا-والجمع أمثالٌ، قال اللّه تعالى: {وتلك الأمثال نضربها للنّاس وما يعقلها إلا العالمون} [العنكبوت: 43].
وتقدير هذا المثل:أنّ اللّه سبحانه، شبّههم في اشترائهم الضّلالة بالهدى، وصيرورتهم بعد التّبصرة إلى العمى، بمن استوقد نارًا، فلمّا أضاءت ما حوله وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله، وتأنّس بها فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، وصار في ظلامٍ شديدٍ، لا يبصر ولا يهتدي، وهو مع ذلك أصمّ لا يسمع، أبكم لا ينطق، أعمى لو كان ضياءً لما أبصر؛ فلهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضّلالة عوضًا عن الهدى، واستحبابهم الغيّ على الرّشد. وفي هذا المثل دلالةٌ على أنّهم آمنوا ثمّ كفروا، كما أخبر عنهم تعالى في غير هذا الموضع، واللّه أعلم.
وقد حكى هذا الّذي قلناه فخر الدّين الرّازيّ في تفسيره عن السّدّيّ ثمّ قال: والتّشبيه هاهنا في غاية الصّحّة؛ لأنّهم بإيمانهم اكتسبوا أوّلًا نورًا ثمّ بنفاقهم ثانيًا أبطلوا ذلك النّور فوقعوا في حيرةٍ عظيمةٍ فإنّه لا حيرة أعظم من حيرة الدّين.
وزعم ابن جريرٍ أنّ المضروب لهم المثل هاهنا لم يؤمنوا في وقتٍ من الأوقات، واحتجّ بقوله تعالى: {ومن النّاس من يقول آمنّا باللّه وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين} [البقرة: 8].
والصّواب: أنّ هذا إخبارٌ عنهم في حال نفاقهم وكفرهم، وهذا لا ينفي أنّه كان حصل لهم إيمانٌ قبل ذلك، ثمّ سلبوه وطبع على قلوبهم، ولم يستحضر ابن جريرٍ، رحمه اللّه، هذه الآية هاهنا وهي قوله تعالى: {ذلك بأنّهم آمنوا ثمّ كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون} [المنافقون: 3]؛ فلهذا وجّه [ابن جريرٍ] هذا المثل بأنّهم استضاؤوا بما أظهروه من كلمة الإيمان، أي في الدّنيا، ثمّ أعقبهم ظلماتٌ يوم القيامة.
قال: وصحّ ضرب مثل الجماعة بالواحد، كما قال: {رأيتهم ينظرون إليك تدور أعينهم كالّذي يغشى عليه من الموت} [الأحزاب: 19] أي: كدوران عيني الّذي يغشى عليه من الموت، وقال تعالى: {ما خلقكم ولا بعثكم إلا كنفسٍ واحدةٍ} [لقمان: 28] وقال تعالى: {مثل الّذين حمّلواالتّوراة ثمّ لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارًا} [الجمعة: 5]، وقال بعضهم: تقدير الكلام: مثل قصّتهم كقصّة الّذي استوقد نارًا. وقال بعضهم: المستوقد واحدٌ لجماعةٍ معه. وقال آخرون: الّذي هاهنا بمعنى الّذين كما قال الشّاعر:
وإنّ الّذي حانت بفلجٍ دماؤهم .......هم القوم كلّ القوم يا أمّ خالد
قلت: وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون * صمٌّ بكمٌ عميٌ فهم لا يرجعون}وهذا أفصح في الكلام، وأبلغ في النّظام، وقوله تعالى: {ذهب اللّه بنورهم}أي: ذهب عنهم ما ينفعهم، وهو النّور، وأبقى لهم ما يضرّهم، وهو الإحراق والدّخان {وتركهم في ظلماتٍ}وهو ما هم فيه من الشّكّ والكفر والنّفاق، {لا يبصرون}لا يهتدون إلى سبل خيرٍ ولا يعرفونها، وهم مع ذلك {صمٌّ}لا يسمعون خيرًا {بكمٌ}لا يتكلّمون بما ينفعهم {عميٌ}في ضلالة وعماية البصيرة، كما قال تعالى: {فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب الّتي في الصّدور} [الحجّ: 46] فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية الّتي باعوها بالضّلالة.
ذكر أقوال المفسّرين من السّلف بنحو ما ذكرناه:
قال السّدّيّ في تفسيره، عن أبي مالكٍ وعن أبي صالحٍ، عن ابن عبّاسٍ، وعن مرّة، عن ابن مسعودٍ، وعن ناسٍ من الصّحابة، في قوله تعالى: {فلمّا أضاءت ما حوله}زعم أنّ ناسًا دخلوا في الإسلام مقدم نبيّ اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم المدينة، ثمّ إنّهم نافقوا، فكان مثلهم كمثل رجل كان في ظلمةٍ، فأوقد نارًا، فأضاءت ما حوله من قذى، أو أذى، فأبصره حتّى عرف ما يتّقي منه فبينا هو كذلك إذ طفئت ناره، فأقبل لا يدري ما يتّقي من أذى، فكذلك المنافق: كان في ظلمة الشّرك فأسلم، فعرف الحلال والحرام، و [عرف] الخير والشّرّ، فبينا هو كذلك إذ كفر، فصار لا يعرف الحلال من الحرام، ولا الخير من الشّرّ.
وقال مجاهدٌ: {فلمّا أضاءت ما حوله} « أمّا إضاءة النّار فإقبالهم إلى المؤمنين، والهدى».
وقال عطاء الخرساني في قوله: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: «هذا مثل المنافق، يبصر أحيانًا ويعرف أحيانًا، ثمّ يدركه عمى القلب».
وقال ابن أبي حاتمٍ: وروي عن عكرمة، والحسن والسّدّيّ، والرّبيع بن أنس نحو قول عطاء الخرساني.
وقال عبد الرّحمن بن زيد بن أسلم، في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}إلى آخر الآية، قال: «هذه صفة المنافقين». كانوا قد آمنوا حتّى أضاء الإيمان في قلوبهم، كما أضاءت النّار لهؤلاء الّذين استوقدوا ثمّ كفروا فذهب اللّه بنورهم فانتزعه، كما ذهب بضوء هذه النّار فتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون.
وقال العوفيّ، عن ابن عبّاسٍ، في هذه الآية، قال: « أمّا النّور: فهو إيمانهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وأمّا الظّلمة: فهي ضلالتهم وكفرهم الّذي كانوا يتكلّمون به، وهم قومٌ كانوا على هدًى، ثمّ نزع منهم، فعتوا بعد ذلك».
وأمّا قول ابن جريرٍ فيشبه ما رواه عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ في قوله تعالى: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}قال: « هذا مثلٌ ضربه اللّه للمنافقين أنّهم كانوا يعتزّون بالإسلام، فيناكحهم المسلمون ويوارثونهم ويقاسمونهم الفيء، فلمّا ماتوا سلبهم اللّه ذلك العزّ، كما سلب صاحب النّار ضوءه».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا}«فإنّما ضوء النّار ما أوقدتها، فإذا خمدت ذهب نورها، وكذلك المنافق، كلّما تكلّم بكلمة الإخلاص، بلا إله إلّا اللّه، أضاء له، فإذا شكّ وقع في الظّلمة».
وقال الضّحّاك [في قوله] {ذهب اللّه بنورهم}«أمّا نورهم فهو إيمانهم الّذي تكلّموا به».
وقال عبد الرّزّاق، عن معمر، عن قتادة: {مثلهم كمثل الّذي استوقد نارًا فلمّا أضاءت ما حوله}«فهي لا إله إلّا اللّه؛ أضاءت لهم فأكلوا بها وشربوا وأمنوا في الدّنيا، ونكحوا النّساء، وحقنوا دماءهم، حتّى إذا ماتوا ذهب اللّه بنورهم وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون».
وقال سعيدٌ، عن قتادة في هذه الآية: «إنّ المعنى: أنّ المنافق تكلّم بلا إله إلّا اللّه فأضاءت له الدّنيا، فناكح بها المسلمين، وغازاهم بها، ووارثهم بها، وحقن بها دمه وماله، فلما كان عند الموت، سلبها المنافق؛ لأنّه لم يكن لها أصلٌ في قلبه، ولا حقيقةٌ في عمله».
{وتركهم في ظلماتٍ}قال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ}يقول: «في عذابٍ إذا ماتوا».
وقال محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبير، عن ابن عبّاسٍ: {وتركهم في ظلماتٍ} « أي يبصرون الحقّ ويقولون به، حتّى إذا خرجوا من ظلمة الكفر أطفئوه بكفرهم ونفاقهم فيه، فتركهم اللّه في ظلمات الكفر، فهم لا يبصرون هدًى، ولا يستقيمون على حقٍّ».
وقال السّدّيّ في تفسيره بسنده: {وتركهم في ظلماتٍ}فكانت الظّلمة نفاقهم.
وقال الحسن البصريّ: {وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون} « فذلك حين يموت المنافق، فيظلم عليه عمله عمل السّوء، فلا يجد له عملًا من خير عملٍ به يصدّق به قول: لا إله إلّا اللّه». ). [تفسير ابن كثير: 1/ 186 -189]