
24-01-2022, 05:12 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة :
|
|
رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام

فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
المجلد الثالث
الحلقة (56)
من صــ 126 الى صــ 132
الوجه الثاني: إن هذا بعينه هو الدليل على فضل الآدمي والملائكة مخلوقون على طريقة واحدة وصفة لازمة لا سبيل إلى انفكاكهم عنها والبشر بخلاف ذلك.
(الوجه الثالث: أن ما يقع من صالحي البشر من الزلات والهفوات ترفع لهم به الدرجات وتبدل لهم السيئات حسنات فإن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ومنهم من يعمل سيئة تكون سبب دخول الجنة ولو لم يكن - العفو أحب إليه لما ابتلي بالذنب أكرم الخلق عليه وكذلك فرحه بتوبة عبيده وضحكه من علم العبد أنه لا يغفر الذنوب إلا الله فافهم هذا فإنه من أسرار الربوبية وبه ينكشف سبب مواقعة المقربين الذنوب.
(الوجه الرابع: ما روي:" أن الملائكة لما استعظمت خطايا بني آدم ألقى الله تعالى على بعضهم الشهوة فواقعوا الخطيئة " وهو احتجاج من الله تعالى على الملائكة، وأما العبادة فقد قالوا إن الملائكة دائمو العبادة والتسبيح ومنهم قيام لا يقعدون وقعود لا يقومون وركوع لا يسجدون وسجود لا يركعون {يسبحون الليل والنهار لا يفترون}.
والجواب: أن الفضل بنفس العمل وجودته لا بقدره وكثرته كما قال تعالى: {إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا} وقال: {إنا لا نضيع أجر من أحسن عملا} ورب تسبيحة من إنسان أفضل من ملء الأرض من عمل غيره وكان إدريس يرفع له في اليوم مثل عمل جميع أهل الأرض؛ وإن الرجلين ليكونان في الصف وأجر ما بين صلاتهما كما بين السماء والأرض.
وقد روي:" {أن أنين المذنبين أحب إلي من زجل المسبحين} ". وقد قالوا: إن علماء الآدميين مع وجود المنافي والمضاد أحسن وأفضل. ثم هم في الحياة الدنيا وفي الآخرة يلهمون التسبيح كما يلهمون النفس؛ وأما النفع المتعدي والنفع للخلق وتدبير العالم فقد قالوا هم تجري أرزاق العباد على أيديهم وينزلون بالعلوم والوحي ويحفظون ويمسكون وغير ذلك من أفعال الملائكة. والجواب:
أن صالح البشر لهم مثل ذلك وأكثر منه ويكفيك من ذلك شفاعة الشافع المشفع في المذنبين وشفاعته في البشر كي يحاسبوا وشفاعته في أهل الجنة حتى يدخلوا الجنة. ثم بعد ذلك تقع شفاعة الملائكة وأين هم من قوله: {وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين}؟ وأين هم عن الذين: {ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة}؟ وأين هم ممن يدعون إلى الهدى ودين الحق؛ ومن سن سنة حسنة؟ وأين هم من قوله صلى الله عليه وسلم " {إن من أمتي من يشفع في أكثر من ربيعة ومضر} "؟ وأين هم من الأقطاب والأوتاد والأغواث؛ والأبدال والنجباء؟ (1).
فهذا - هداك الله - وجه التفضيل بالأسباب المعلومة؛ ذكرنا منه أنموذجا نهجنا به السبيل وفتحنا به الباب إلى درك فضائل الصالحين من تدبر ذلك وأوتي منه حظا رأى وراء ذلك ما لا يحصيه إلا الله وإنما عدل عن ذلك قوم لم يكن لهم من القول والعلم إلا ظاهره ولا من الحقائق إلا رسومها؛ فوقعوا في بدع وشبهات وتاهوا في مواقف ومجازات وها نحن نذكر ما احتجوا به.
(الحجة الأولى: قوله تعالى {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله ولا الملائكة المقربون} والذي يريد إثبات ذل الأعاظم وانقياد الأكابر: إنما يبدأ بالأدنى فالأدنى مترقيا إلى الأعلى فالأعلى ليرقى المخاطب في فهم عظمة من انقيد له وأطيع درجة درجة؛ وإلا فلو فوجئ بانقياد الأعظم ابتداء: لما حصل تبين مراتب العظمة؛ ولو وقع ذكر الأدنى بعد ذلك ضائعا؛ بل يكون رجوعا ونقصا. ولهذا جرت فطرة الخلق أن يقال: فلان لا يأتيني وفلان يأتيني أي كيف يستنكف عن الإتيان إلي؟ وفلان أكرم منه وأعظم وهو يأتيني ولا يقال لا يأبى فلان أن يكرمك ولا من هو فوقه.
فالانتقال من المسيح إلى الملائكة دليل على فضلهم؛ كيف وقد نعتوا بالقرب الذي هو عين الفضائل و " الجواب ": زعم القاضي أن هذا ليس من عطف الأعلى على الأدنى؛ وإنما هو عطف ساذج. قال: وذلك أن قوما عبدوا المسيح وزعموا أنه ابن الله سبحانه وقوما عبدوا الملائكة وزعموا أنها بنات الله كما حكى الله تعالى عن الفريقين فبين الله تعالى في هذه: أن هؤلاء الذين عبدتموهم من دوني هم عبادي لن يستنكفوا عن عبادتي وأنهما لو استنكفا عن عبادتي لعذبتهما عذابا أليما والمسيح هو الظاهر وهو من نوع البشر وهذا الكلام فيه نظر. والله أعلم بحقيقته.
ثم نقول: إن كان هذا هو المراد فلا كلام وإن أريد أن الانتقال من الأدنى إلى الأعلى: فاعلم - نور الله قلبك وشرح صدرك للإسلام - أن للملائكة خصائص ليست للبشر؛ لا سيما في الدنيا. هذا ما لا يستريب فيه لبيب أنهم اليوم على مكان وأقرب إلى الله وأظهر جسوما وأعظم خلقا وأجمل صورا وأطول أعمارا وأيمن آثارا إلى غير ذلك من الخصال الحميدة مما نعلمه ومما لا نعلمه. وللبشر أيضا خصائص ومزايا؛ لكن الكلام في مجموع كل واحدة من المزيتين أيهما أفضل: هذا طريق ممهد لهذه الآية وما بعدها.
وهو وراء ذلك؛ فحيث جرى ما يوجب تفضيل الملك فلما تميزوا به واختصوا به من الأمور التي لا تنبغي لمن دونهم فيها أن يتفضل عليهم فيما هو من أسبابها. وذلك أن المسيح لو فرض استنكافه عن عبادة الله: فإنما هو لما أيده الله من الآيات كما أبرأ الأكمه والأبرص وأحيا الموتى وغير ذلك؛ ولأنه خرج في خلقه عن بني آدم وفي عزوفه عن الدنيا وما فيها: أعطي الزهد؛ وما من صفة من هذه الصفات إلا والملائكة أظهر منه فيها فإنهم كلهم خلقوا من غير أبوين ومن غير أم؛ وقد كان فرس جبريل يحيى به التراب الذي يمر عليه؛ وعلم ما يدخر العباد في بيوتهم على الملائكة سهل.
وفي حديث {أبرص وأقرع وأعمى: أن الملك مسح عليهم فبرءوا} " فهذه الأمور التي من أجلها عبد المسيح وجعل ابن الله عز وجل للملائكة منها أوفر نصيب وأعلى منها وأعظم مما للمسيح وهم لا يستنكفون عن عبادته فهو أحق خلق أن لا يستنكف؛ وأما القرب من الله والزلفى لديه فأمور وراء هذه الآيات.
وأيضا فأقصى ما فيها تفضيلهم على المسيح؛ إذ هو في هذه الحياة الدنيا؛ وأما إذا استقر في الآخرة وكان ما كان مما لست أذكر: فمن أين يقال إنهم هناك أفضل منه؟.
(الحجة الثانية: قوله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} ومثله في هود فالاحتجاج في هذا من وجوه: - أحدها: أنه قرن استقرار خزائنه وعلم الغيب بنفي القول بأنه ملك وسلبها عن نفسه في نسق واحد فإذا كان حال من يعلم الغيب ويقدر على الخزائن أفضل من حال من لا يكون كذلك: وجب أن يكون حال الملك أفضل من حال من ليس بملك وإن كان نبينا كما في الآية. وثانيها: أنه إنما نفى عن نفسه حالا أعظم من حاله الثابتة ولم ينف حالا دون حاله؛ لأن من اتصف بالأعلى فهو على ما دونه أقدر؛ فدل على أن حال الملك أفضل من حاله أن يكون ملكا وهو المطلوب.
وثالثها: ما ذكر القاضي أنه لولا ما استقر في نفوس المخاطبين من أن الملك أعظم؛ لما حسن مواجهتهم بسلب شيء هو دون مرتبته وهذا الاعتقاد الذي كان في نفوس المخاطبين: أمر قرروا عليه ولم ينكره عليهم فثبت أنه حق. والجواب من وجوه: (أحدها: أنه نفى أن يكون عالما بالغيب وعنده خزائن الله ونفى أن يكون ملكا لا يأكل ولا يشرب ولا يتمتع؛ وإذا نفى ذلك عن نفسه: لم يجب أن يكون الملك أفضل منه ألا ترى أنه لو قال: ولا أنا كاتب ولا أنا قارئ لم يدل على أن الكاتب والقارئ أفضل ممن ليس بكاتب ولا قارئ فلم يكن في الآية حجة.
وأيضا ما قال القاضي إنهم طلبوا صفات الألوهية وهي العلم والقدرة والغنى: وهي: أن يكون عالما بكل شيء قديرا على كل شيء غنيا عن كل شيء - فسلب عن نفسه صفات الألوهية ولهذا قالوا: {مال هذا الرسول يأكل الطعام ويمشي في الأسواق} وقال تعالى: محتجا عنه: {وما أرسلنا قبلك من المرسلين إلا إنهم ليأكلون الطعام ويمشون في الأسواق} فكأنهم أرادوا منه صفة الملائكة أن يكون متلبسا بها فإن الملائكة صمد لا يأكلون ولا يشربون والبشر لهم أجواف يأكلون ويشربون؛ فكان الأمر إلى هذه الصفة وهذا بين إن شاء الله.
(وثانيها: أن الآخر أكمل في أمر من الأمور فنفى عن نفسه حال الملك في ذلك ولم يلزم أن يكون له فضيلة يمتاز بها وقد تقدم مثل هذا فيما ذكر من حال الملك وعظمته وأنه ليس للبشر من نوعه مثله؛ ولكن لم لا قلت من غير نوعه للبشر ما هو أفضل منه؟. ولهذا إذا سئل الإنسان عما يعجز عنه: قد يقول لست بملك وإن كان المؤمن أفضل من حال الجن والملك من الملوك. (وثالثها أن أقصى ما فيه تفضيل الملك في تلك الحال ولو سلم ذلك لم ينف أن يكون فيما بعد أفضل من الملك؛ ولهذا تزيد قدرته وعلمه وغناه في الآخرة وهذا كما لو قال الصبي:
لا أقول إني شيخ ولا أقول إني عالم ومن الممكن ترقيه إلى ذلك وأكمل منه. (الحجة الثالثة: قول إبليس لآدم وحواء: {إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} تقديره كراهة أن تكونا أو لئلا تكونا؛ فلولا أن كونهما ملكين حالة هي أكمل من كونهما بشرين: لما أغراهما بها ولما ظنا أنها هي الحالة العليا؛ ولهذا قرنها بالخلود والخالد أفضل من الفاني والملك أطول حياة من الآدمي فيكون أعظم عبادة وأفضل من الآدمي.
__________
Q (1) هكذا بالأصل

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|