
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثالث
الحلقة (186)
سُورَةُ الإسراء(3)
صـ 16 إلى صـ 20
قوله تعالى : وإن عدتم عدنا .
لما بين جل وعلا أن بني إسرائيل قضى إليهم في الكتاب أنهم يفسدون في الأرض مرتين ، وأنه إذا جاء وعد الأولى منهما : بعث عليهم عبادا له أولي بأس شديد ، فاحتلوا بلادهم وعذبوهم . وأنه إذا جاء وعد المرة الآخرة : بعث عليهم قوما ليسوءوا وجوههم ، وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة ، وليتبروا ما علوا تتبيرا .
وبين أيضا : أنهم إن عادوا للإفساد المرة الثالثة فإنه جل وعلا يعود للانتقام منهم بتسليط أعدائهم عليهم ، وذلك في قوله : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] ولم يبين هنا : هل عادوا للإفساد المرة الثالثة أو لا ؟
ولكنه أشار في آيات أخر إلى أنهم عادوا للإفساد بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم ، وكتم صفاته ونقض عهوده ، ومظاهرة عدوه عليه ، إلى غير ذلك من أفعالهم القبيحة . فعاد الله جل وعلا للانتقام منهم تصديقا لقوله : وإن عدتم عدنا [ 17 \ 8 ] فسلط عليهم نبيه صلى الله عليه وسلم والمسلمين ، فجرى على بني قريظة ، والنضير ، وبني قينقاع [ ص: 16 ] وخيبر ما جرى من القتل والسبي والإجلاء ، وضرب الجزية على من بقي منهم ، وضرب الذلة والمسكنة .
فمن الآيات الدالة على أنهم عادوا للإفساد قوله تعالى : ولما جاءهم كتاب من عند الله مصدق لما معهم وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به فلعنة الله على الكافرين بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله بغيا أن ينزل الله من فضله على من يشاء من عباده فباءوا بغضب على غضب وللكافرين عذاب مهين [ 2 \ 89 ، 90 ] ، وقوله : أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم الآية [ 2 \ 100 ] ، وقوله : ولا تزال تطلع على خائنة منهم الآية [ 5 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
ومن الآيات الدالة على أنه تعالى عاد للانتقام منهم ، قوله تعالى : هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم مانعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار ولولا أن كتب الله عليهم الجلاء لعذبهم في الدنيا ولهم في الآخرة عذاب النار ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاق الله فإن الله شديد العقاب [ 59 \ 2 - 3 ، 46 ] ، وتعالى : وأنزل الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم وقذف في قلوبهم الرعب فريقا تقتلون وتأسرون فريقا وأورثكم أرضهم وديارهم وأموالهم وأرضا لم تطئوها الآية [ 33 \ 26 ، 27 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
وتركنا بسط قصة الذين سلطوا عليهم في المرتين ، لأنها أخبار إسرائيلية ، وهي مشهورة في كتب التفسير والتاريخ . والعلم عند الله تعالى . قوله تعالى : وجعلنا جهنم للكافرين حصيرا
. في قوله : حصيرا [ 17 \ 8 ] في هذه الآية الكريمة وجهان من التفسير معروفان عند العلماء ، كل منهما يشهد لمعناه قرآن . وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك : أن الآية قد يكون فيها وجهان أو أوجه ، وكلها صحيح ويشهد له قرآن ; فنورد جميع ذلك لأنه كله حق :
الأول : أن الحصير : المحبس والسجن ; من الحصر وهو الحبس . قال الجوهري : يقال حصره يحصره حصرا : ضيق عليه ، وأحاط به . وهذا الوجه يدل له قوله [ ص: 17 ] تعالى : وإذا ألقوا منها مكانا ضيقا مقرنين دعوا هنالك ثبورا [ 25 \ 13 ] ، ونحو ذلك من الآيات .
الوجه الثاني : أن معنى حصيرا ; أي : فراشا ومهادا ، من الحصير الذي يفرش ; لأن العرب تسمي البساط الصغير حصيرا . قال الثعلبي : وهو وجه حسن . ويدل لهذا الوجه قوله تعالى : لهم من جهنم مهاد ومن فوقهم غواش الآية [ 7 \ 41 ] ، ونحو ذلك من الآيات . والمهاد : الفراش .
قوله تعالى : إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم
الآية ، ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة أن هذا القرآن العظيم الذي هو أعظم الكتب السماوية ، وأجمعها لجميع العلوم ، وآخرها عهدا برب العالمين جل وعلا ، يهدي للتي هي أقوم ; أي الطريقة التي هي أسد وأعدل وأصوب . ف التي نعت لموصوف محذوف . على حد قول ابن مالك في الخلاصة :
وما من المنعوت والنعت عقل يجوز حذفه وفي النعت يقل
وقال الزجاج والكلبي والفراء : للحال التي هي أقوم الحالات ، وهي توحيد الله والإيمان برسله .
وهذه الآية الكريمة أجمل الله جل وعلا فيها جميع ما في القرآن من الهدى إلى خير الطرق وأعدلها وأصوبها ، فلو تتبعنا تفصيلها على وجه الكمال لأتينا على جميع القرآن العظيم لشمولها لجميع ما فيه من الهدى إلى خيري الدنيا والآخرة . ولكننا إن شاء الله تعالى سنذكر جملا وافرة في جهات مختلفة كثيرة من هدى القرآن للطريق التي هي أقوم بيانا لبعض ما أشارت إليه الآية الكريمة ، تنبيها ببعضه على كله من المسائل العظام ، والمسائل التي أنكرها الملحدون من الكفار ، وطعنوا بسببها في دين الإسلام ، لقصور إدراكهم عن معرفة حكمها البالغة .
فمن ذلك توحيد الله جل وعلا ، فقد هدى القرآن فيه للطريق التي هي أقوم الطرق وأعدلها ، وهي توحيده جل وعلا في ربوبيته ، وفي عبادته ، وفي أسمائه وصفاته . وقد دل استقراء القرآن العظيم على أن توحيد الله ينقسم إلى ثلاثة أقسام :
الأول : توحيده في ربوبيته ، وهذا النوع من التوحيد جبلت عليه فطر العقلاء ، قال تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله الآية [ 43 \ 87 ] ، وقال : قل من [ ص: 18 ] يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ومن يدبر الأمر فسيقولون الله فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] ، وإنكار فرعون لهذا النوع من التوحيد في قوله : قال فرعون وما رب العالمين [ 26 \ 23 ] تجاهل عن عارف أنه عبد مربوب ; بدليل قوله تعالى : قال لقد علمت ما أنزل هؤلاء إلا رب السماوات والأرض بصائر الآية [ 17 \ 102 ] ، وقوله : وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا [ 27 \ 14 ] ، وهذا النوع من التوحيد لا ينفع إلا بإخلاص العبادة لله ، كما قال تعالى : وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون [ 12 \ 106 ] ، والآيات الدالة على ذلك كثيرة جدا .
الثاني : توحيده جل وعلا في عبادته ، وضابط هذا النوع من التوحيد هو تحقيق معنى " لا إله إلا الله " وهي متركبة من نفي وإثبات ، فمعنى النفي منها : خلع جميع أنواع المعبودات غير الله كائنة ما كانت في جميع أنواع العبادات كائنة ما كانت . ومعنى الإثبات منها : إفراد الله جل وعلا وحده بجميع أنواع العبادات بإخلاص ، على الوجه الذي شرعه على ألسنة رسله عليهم الصلاة والسلام . وأكثر آيات القرآن في هذا النوع من التوحيد ، وهو الذي فيه المعارك بين الرسل وأممهم أجعل الآلهة إلها واحدا إن هذا لشيء عجاب [ 38 \ 5 ] .
ومن الآيات الدالة على هذا النوع من التوحيد قوله تعالى : فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك الآية [ 47 \ 19 ] ، وقوله : ولقد بعثنا في كل أمة رسولا أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت [ 16 \ 36 ] ، وقوله : وما أرسلنا من قبلك من رسول إلا نوحي إليه أنه لا إله إلا أنا فاعبدون [ 21 \ 25 ] ، وقوله : واسأل من أرسلنا من قبلك من رسلنا أجعلنا من دون الرحمن آلهة يعبدون [ 43 \ 45 ] ، وقوله : قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون [ 21 \ 108 ] ، فقد أمر في هذه الآية الكريمة أن يقول : إنما أوحي إليه محصور في هذا النوع من التوحيد ، لشمول كلمة : " لا إله إلا الله " لجميع ما جاء في الكتب ; لأنها تقتضي طاعة الله بعبادته وحده . فيشمل ذلك جميع العقائد والأوامر والنواهي ، وما يتبع ذلك من ثواب وعقاب ، والآيات في هذا النوع من التوحيد كثيرة .
النوع الثالث : توحيده جل وعلا في أسمائه وصفاته . وهذا النوع من التوحيد [ ص: 19 ] ينبني على أصلين :
الأول : تنزيه الله جل وعلا عن مشابهة المخلوقين في صفاتهم ، كما قال تعالى : ليس كمثله شيء [ 42 \ 11 ] .
والثاني : الإيمان بما وصف الله به نفسه ، أو وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم على الوجه اللائق بكماله وجلاله ، كما قال بعد قوله : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير مع قطع الطمع عن إدراك كيفية الاتصاف ، قال تعالى : يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علما [ 20 \ 110 ] ، وقد قدمنا هذا المبحث مستوفى موضحا بالآيات القرآنية " في سورة الأعراف " .
ويكثر في القرآن العظيم الاستدلال على الكفار باعترافهم بربوبيته جل وعلا على وجوب توحيد في عبادته ; ولذلك يخاطبهم في توحيد الربوبية باستفهام التقرير ، فإذا أقروا بربوبيته احتج بها عليهم على أنه هو المستحق لأن يعبد وحده ، ووبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره ، مع اعترافهم بأنه هو الرب وحده ; لأن من اعترف بأنه هو الرب وحده لزمه الاعتراف بأنه هو المستحق لأن يعبد وحده .
ومن أمثلة ذلك قوله تعالى : قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار [ 10 \ 31 ] إلى قوله : فسيقولون الله [ 10 \ 31 ] . فلما أقروا بربوبيته وبخهم منكرا عليهم شركهم به غيره ، بقوله : فقل أفلا تتقون [ 10 \ 31 ] .
ومنها قوله تعالى : قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 84 ، 85 ] ، فلما اعترفوا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفلا تذكرون [ 23 \ 85 ] ، ثم قال : قل من رب السماوات السبع ورب العرش العظيم سيقولون لله [ 23 \ 86 - 87 ] ، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفلا تتقون [ 23 \ 87 ] ، ثم قال : قل من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه إن كنتم تعلمون سيقولون لله [ 23 \ 88 ، 89 ] ، فلما أقروا وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل فأنى تسحرون [ 23 \ 89 ] .
ومنها قوله تعالى : قل من رب السماوات والأرض قل الله [ 13 \ 16 ] ، فلما صح الاعتراف وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل أفاتخذتم من دونه أولياء لا يملكون لأنفسهم نفعا ولا ضرا [ 13 \ 16 ] .
[ ص: 20 ] ومنها قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله [ 43 \ 87 ] ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : فأنى يؤفكون [ 43 \ 87 ] .
ومنها قوله تعالى : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض وسخر الشمس والقمر ليقولن الله [ 29 \ 61 ] ، فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا شركهم بقوله : فأنى يؤفكون [ 29 \ 61 ] وقوله تعالى : ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله [ 29 \ 63 ] ، فلما صح إقرارهم وبخهم منكرا عليهم شركهم بقوله : قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعقلون [ 29 \ 63 ] ، وقوله : ولئن سألتهم من خلق السماوات والأرض ليقولن الله [ 31 \ 25 ] ، فلما صح اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : قل الحمد لله بل أكثرهم لا يعلمون [ 31 \ 25 ] ، وقوله تعالى : آلله خير أم ما أمن خلق السماوات والأرض وأنزل لكم من السماء ماء فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ما كان لكم أن تنبتوا شجرها [ 27 \ 59 - 60 ] ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم البتة غيره : هو أن القادر على خلق السماوات والأرض وما ذكر معها ، خير من جماد لا يقدر على شيء . فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله بل هم قوم يعدلون [ 27 \ 60 ] ، ثم قال تعالى : أمن جعل الأرض قرارا وجعل خلالها أنهارا وجعل لها رواسي وجعل بين البحرين حاجزا [ 27 \ 61 ] ولا شك أن الجواب الذي لا جواب غيره كما قبله ، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله بل أكثرهم لا يعلمون [ 27 \ 61 ] ، ثم قال جل وعلا : أمن يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ويجعلكم خلفاء الأرض [ 27 \ 62 ] ولا شك أن الجواب كما قبله . فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله قليلا ما تذكرون [ 27 \ 62 ] ، ثم قال تعالى : أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [ 27 \ 63 ] ، ولا شك أن الجواب كما قبله ، فلما تعين إقرارهم بذلك وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله تعالى الله عما يشركون [ 27 \ 63 ] ، ثم قال جل وعلا : أمن يبدأ الخلق ثم يعيده ومن يرزقكم من السماء والأرض [ 27 \ 64 ] ، ولا شك أن الجواب كما قبله ، فلما تعين الاعتراف وبخهم منكرا عليهم بقوله : أإله مع الله قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين [ 27 \ 64 ] ، وقوله : الله [ ص: 21 ] الذي خلقكم ثم رزقكم ثم يميتكم ثم يحييكم هل من شركائكم من يفعل من ذلكم من شيء [ 30 \ 40 ] ، ولا شك أن الجواب الذي لا جواب لهم غيره هو : لا ، أي : ليس من شركائنا من يقدر على أن يفعل شيئا من ذلك المذكور من الخلق والرزق والإماتة والإحياء ، فلما تعين اعترافهم وبخهم منكرا عليهم بقوله : سبحانه وتعالى عما يشركون [ 30 \ 40 ] .
والآيات بنحو هذا كثيرة جدا ، ولأجل ذلك ذكرنا في غير هذا الموضع أن كل الأسئلة المتعلقة بتوحيد الربوبية استفهامات تقرير ، يراد منها أنهم إذا أقروا رتب لهم التوبيخ والإنكار على ذلك الإقرار ; لأن المقر بالربوبية يلزمه الإقرار بالألوهية ضرورة ; نحو قوله تعالى : أفي الله شك [ 14 \ 10 ] ، وقوله : قل أغير الله أبغي ربا [ 6 \ 164 ] ، وإن زعم بعض العلماء أن هذا استفهام إنكار ; لأن استقراء القرآن دل على أن الاستفهام المتعلق بالربوبية استفهام تقرير وليس استفهام إنكار ، لأنهم لا ينكرون الربوبية ، كما رأيت كثرة الآيات الدالة عليه .
والكلام على أقسام التوحيد ستجده إن شاء الله في مواضع كثيرة من هذا الكتاب المبارك ، بحسب المناسبات في الآيات التي نتكلم على بيانها بآيات أخر .