قوله - تعالى -: ﴿ شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ ﴾:
أي: هذا الصوم يكون في شهر رمضان، وهذه فضيلة لهذا الشهر الكريم، وزاده فضيلة أخرى، وهي إنزال كتاب الله - تعالى - قال الشنقيطي: "لَم يبيِّن هنا هل أنزل في الليل منه أو النهار؟ ولكنَّه بيَّن في غير هذا الموضع أنَّه أنزل في ليلة القدر من رمضان في قوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1]، وقوله: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ ﴾ [الدخان: 3]؛ لأنَّ الليلة المباركة هي ليلة القدر على التحقيق، وفي معنى إنزاله وجهان: الأول: أنه أنزل فيها جملة إلى السماء الدنيا، كما ثبت عن ابن عباس، الثاني: أن معنى إنزاله فيها ابتداء نزوله، كما قال به بعضهم"[11].
قوله - تعالى -: ﴿ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾:
هدى هنا قد يكون حالاً، وقد يكون مفعولاً لأجله، وهنا الهدى ورد نكرة، والنكرة عند أهل العلم تعُمُّ، فهدايةُ القرآن عامة شاملة، والتنوين في هدًى للتعظيم، وهذا أسلوب معروف في القرآن أنَّ النكرةَ قد يُراد بها التعظيم، وقد يُراد بها التحقير، وكلاهما في كتاب الله - تعالى - أمَّا التعظيم فهنا مثاله، وأمَّا التحقير كما في قوله - تعالى -: ﴿ وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ ﴾ [البقرة: 96]؛ قال أهلُ العلم: النكرة هنا للتنويع، سواء كانت عزيزة أم ذليلة، المهم عندهم أنَّها حياة؛ قال السعدي: "هو القرآن الكريم المشتمل على الهداية لمصالحكم الدينية والدنيوية، وتبيين الحق بأوضح بيان، والفرقان بين الحقِّ والباطل، والهدى والضلال، وأهل السعادة وأهل الشقاوة، فحقيقٌ بشهر هذا فضله"[12].
قوله - تعالى -: ﴿ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ ﴾ [البقرة: 185]:
وهنا أعاد الرُّخصة؛ خشيةَ أنْ يظن أنَّها منسوخة بحكم ذكرها في الآية السابقة، وهي منسوخة على مَن قال بالنسخ، كما تقدم آنفًا، فقرر أنَّها ما زالت قائمة.
قوله - تعالى -: ﴿ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ ﴾ [البقرة: 185]:
وهذه قاعدةُ الشريعة في الحكمة من التشريع، فإنْ قصد الشارع في وضع الشريعة أنْ لا تكليفَ بما لا يطاق، ولا تكليف بما فيه حرج، وقد ذكر أهلُ العلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف لوجهين:
الأول: الخوف من الانقطاع في الطريق وبغض العبادة.
الثاني: خوف التقصير عند مزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع.
قال الشاطبي: "اعلم أنَّ الحرج مرفوع عن المكلف؛ لوجهين: أحدهما: الخوف من الانقطاع من الطريق، وبغض العبادة، وكراهة التكليف، وينتظم تحت هذا المعنى الخوف من إدخال الفساد عليه في جسمه أو عقله أو ماله أو حاله، والثاني: خوف التقصير عند مُزاحمة الوظائف المتعلقة بالعبد المختلفة الأنواع، مثل قيامه على أهله وولده إلى تكاليف أُخَر تأتي في الطريق، فربَّما كان التوغُّل في بعض الأعمال شاغلاً عنها، وقاطعًا بالمكلف دونها، وربَّما أراد الحمل للطرفين على المبالغة في الاستقصاء، فانقطع عنها"[13].
لذلك كانت الصفة التي اتَّسمت بها الشريعة هي الاعتدال لتناسب العباد.
قال ابن كثير في تفسيره معلقًا على هذه الآية: "أي: إنَّما أرخص لكم في الإفطار للمرض والسفر ونحوهما من الأعذار؛ لإرادته بكم اليسر، وإنَّما أمركم بالقضاء؛ لتكملوا عِدَّة شهركم"[14]؛ قال ابن الجوزي مُبينًا حقيقة المرض والسفر المبيحين للفطر: "ليس المرض والسفر على الإطلاق، فإنَّ المريضَ إذا لم يضر به الصوم، لم يَجز له الإفطار، وإنَّما الرحمة مَوقوفة على زيادة المرض بالصوم، واتفق العلماء على أنَّ السفر مقدر"[15].
قوله - تعالى -: ﴿ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾:
قال الآلوسي: "﴿ ولتكبروا الله ﴾ عِلَّة الأمر بالقضاء وبيان كيفيته، ﴿ ولعكم تشكرون ﴾ عِلَّة الترخيص والتيسير، وتغيير الأسلوب؛ للإشارة إلى هذا المطلوب بمنزلة المرجوِّ؛ لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله، وهو ظهور كون الترخيص نعمة، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فواتِ بَركات الشهر، وهذا نوعٌ من اللفِّ لطيف المسلك قَلَّما يُهتدى إليه؛ لأنَّ مُقتضى الظاهر ترك الواو؛ لكونها عللاً لما سبق؛ ولذا قال: مَن لَمْ يبلغ درجة الكمال إنَّها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره، أمَّا على الأول فظاهر، وأمَّا على الثاني، فلِمَا فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف؛ لأنَّ الفعل المقدر؛ لكونه مُشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل"[16].
قوله - تعالى -: ﴿ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ ﴾ [البقرة: 186]:
وَجْهُ جَعْلِ هذه الآية بعد آيات الصيام أنَّ فيها إشارةً إلى أن الصيام والدعاء متلازمان، فإنَّ العبد خلال صيامه وقيامه وطاعته وبعده عن المعاصي والسيئات يكون قريبًا من ربِّه - سبحانه - وإذا اقتربَ العبدُ من ربه، استجاب دُعاءَه، روى البخاري في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال[17]: قال رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((إنَّ الله قال: مَن عادى لي وليًّا، فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلَيَّ عبدي بشيء أَحَبَّ إِلََيَّ مِما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلَيَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سَمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يَمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)).
وقوله: ﴿ عبادي ﴾ إضافة تشريف وتكريم لهم؛ إذ أضافهم إلى نفسه - سبحانه - وكان الجواب بلا واسطة؛ إذ الغالبُ في السؤال في القرآن يكون جوابه: قل، إلاَّ في هذا الموضع، وذلك للإشعار بأنَّ الله قريب إلى العبد بلا واسطة.
قوله - تعالى -: ﴿ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ ﴾ [البقرة: 186]:
هنا حذف المعمول؛ ليدلَّ على العموم، فالرشادُ يَحصل لهم في أمورِ الدين والدُّنيا؛ قال الشوكاني في تفسيره: "قوله: ﴿ فليستجيبوا لي ﴾؛ أي: كما أجبتهم إذا دعوني، فليستجيبوا لي فيما دعوتهم إليه من الإيمان والطاعات، وقيل: معناه: يطلبون إجابة الله - سبحانه - لدُعائهم باستجابتهم له؛ أي: القيام بما أمرهم به، والترك لما نهاهم عنه"[18].
قوله - تعالى -: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187]:
هذه الآية استفاض في بيانِها المفسرون؛ لأنَّ فيها مسائلَ كثيرة؛ قال القرطبي في تفسيره: "فيه ست وثلاثون مسألة"[19]؛ قال الصابوني مُبينًا المعنى الإجمالي: "وقد يسر - تعالى - على عباده وأباح لهم التمتُّع بالنساء في ليالي رمضان، كما أباح لهم الطعام والشراب، وقد كان ذلك من قبلُ محرمًا عليهم، ولكنه - تعالى - أباح لهم الطعام والشراب، والشهوات الجنسية من الاستمتاع بالنساء؛ ليُظْهِرَ فضله عليهم، ورحمته بِهم، وقد شَبَّه المرأة باللباس الذي يستر البدن، فهي ستر للرجل وسكن له، وهو ستر لها؛ قال ابن عباس: معناه: "هن سكن لكم وأنتم سكن لهن"، وأباح معاشرتهن إلى طلوع الفجر، ثُمَّ استثنى من عموم إباحة المباشرة مباشرتهن وقتَ الاعتكاف؛ لأنَّه وقت تبتل وانقطاع للعبادة، ثُمَّ ختم - تعالى - هذه الآيات الكريمة بالتحذير من مُخالفة أوامره، وارتكاب المحرمات والمعاصي، التي هي حدود الله، وقد بيّنها لعباده؛ حتى يجتنبوها، ويلتزموا بالتمسك بشريعة الله؛ ليكونوا من المتقين"[20].
وأهم ما تتضمنه الآية من مسائل ما يأتي:
1- جواز مجامعة المرأة في أي جزء من أجزاء الليل:
ويلزم من ذلك أنْ يكونَ المكلف عند جماعه في آخر لحظة من الليل جُنُبًا أن يدخل عليه الفجر وهو جُنُب، وهذا لا يؤثر في الحكم، فقد ثبت عنه - عليه الصلاة والسلام - أنْ شرع في الصوم وهو جُنُب.
2- إباحة الأكل والشرب:
والآية وإن جاءت في سياق الأمر، إلاَّ أنَّه مُراد، وإنَّما المراد به الإباحة؛ لأنَّه أمر جاء بعد الحظر، والقاعدة عند الأصوليِّين: أنَّ الأمر بعد الحظر إباحة، أو أنَّه يعود إلى ما هو عليه قبل الحظر، وهنا يُنبِّه إلى أنَّ الفجرَ المقصود في الآية هو الفجر الصادق، الذي ينتشر أفقيًّا وليس عموديًّا، فإن الأخير يُعَدُّ كاذبًا، وقد جاء في الصحيح من حديث أنس: أنَّ النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((إنَّ بلالاً يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذّن ابن أم مكتوم))[21].
3- إن زمن الصيام ممتد من الفجر الصادق حتى غروب الشمس:
كما دَلَّ عليه الهدي النبوي، وعليه فإن المقصود من الليل في الآية التلبس بأول جزء من الليل وهو سقوط قرص الشمس وغيابه، وعند تَحقُّق ذلك شرع التعجل بالفطر؛ لأنَّه الهدي النبوي الكريم، وسبب للخيرية في الأمة، كما دل عليه قوله - عليه الصلاة والسلام -: ((لا يزال الناسُ بخير ما عجلوا الفطر))[22].
3- يشرع الاعتكاف ويتأكد في رمضان:
وخاصَّة في العشر الأواخر منه، كما دلَّت عليه النصوص النبوية، والاعتكاف شرعًا: لزوم المسجد؛ طاعةً لله، وله شروط وآداب مظانُّها كتب الفقه والأحكام، والآية دَلَّت على أن الاعتكاف إطارُه المسجد دون سواه، واختلف أهلُ العلم في المراد بالمساجد في الآية، فمن قائل: المراد بها جنس المساجد، فتكون (أل) التعريف فيها جنسيةً، وهو قولُ الجمهور، ومن قائل: إنَّ المرادَ بِها المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، والمسجد النبوي، والمسجد الأقصى، ومرجع الخلاف حديثٌ ثابت عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - رواه حذيفة بن اليمان - رضي الله عنه -: أنَّ النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم قال: ((لا اعتكافَ إلاَّ في المساجد الثلاثة))[23]، إلا أن الجمهور ردُّوا على هذا الاستدلال، وأجابوا عن حديث حذيفة بأنَّ المراد الأفضلية وليس الحصر، ومعناه: أنَّه لا اعتكافَ أفضلُ من المساجد الثلاثة.
[1] "التحرير والتنوير"، محمد الطاهر بن عاشور، ج1ص320.
[2] "إرشاد الفحول"، محمد بن علي الشوكاني، ج1ص222.
[3] رقم الحديث: 16.
[4] "فتح الباري شرح صحيح البخاري"، ابن حجر العسقلاني، ج1ص136.
[5] "سير أعلام النبلاء"، الذهبي، ج3ص222.
[6] "مجموع الفتاوى"، شيخ الإسلام ابن تيمية، ج19ص115.
[7] "تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان"، ص94.
[8] "زاد المعاد في هدي خير العباد"، ابن قيم الجوزية، ج2ص28.
[9] رقم الحديث: 1145.
[10] رقم الحديث: 4235.
[11] "أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن"، محمد الأمين الشنقيطي، ج1ص73.
[12] "تيسير الكريم الرحمن"، مرجع سابق، ص95.
[13] "الموافقات في أصول الشريعة"، أبو إسحاق الشاطبي، ج2ص136.
[14] "تفسير القرآن العظيم"، ابن كثير، ج1ص295.
[15] "زاد المسير في علم التفسير"، أبو الفرج ابن الجوزي، ج1ص185.
[16] "روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني"، ج2ص62.
[17] رقم الحديث: 6137.
[18] "فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير"، ج1ص185.
[19] "الجامع لأحكام القرآن"، شمس الدين القرطبي، ج2ص314.
[20] "روائع البيان في تفسير آيات الأحكام"، ج1ص193.
[21] أخرجه مسلم، برقم: 2588.
[22] أخرجه مسلم، برقم: 2608.
[23] أخرجه البيهقي في السنن الكبرى، برقم: 8357، وصححه الشيخ الألباني في "السلسلة الصحيحة"، برقم: 2786.