عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 06-01-2022, 01:55 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,481
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تقرير: فساد الأمة.. بوابة نحو السقوط

- الحملة الصليبية السادسة 625هـ:
ضعف أمر الدولة الأيوبية بعد أن دب الخلاف بين أبناء الملك العادل أخي صلاح الدين، فخاف السلطان الكامل من أخويه الأشرف والمعظم، فاستنجد الكامل بإمبراطور ألمانيا فريدريك الثاني، وعرض عليه تسليمه القدس في مقابل إعانته على أخويه، وسار فريدريك إلى الشام 625هـ على رأس الحملة الصليبية السادسة، وبينما هو في الطريق إلى الشام مات المعظم أخو الكامل، وأمن الكامل على ملكه، لكنه لم يرغب في قتال الصليبيين، فعقد الصلح بينه وبين فريدريك وكانت المصيبة العظمى بتسليم بيت المقدس للصليبيين.

وهكذا أضاع الكامل كل ما بذله عمه صلاح الدين رحمه الله في مقابل ملك دنيوي سرعان ما زال بموته عام 635هـ.

وكان للكامل ولدان: العادل الصغير، والصالح نجم الدين أيوب.

أما العادل الصغير فتولى مصر بعد أبيه، لكنه شرع في اللهو والفساد، وأعلى منزلة أهل الطرب، فتحالف عليه الأمراء وقبضوا عليه ثم خلعوه، واستدعوا أخاه الصالح أيوب وبايعوه واستقر ملك الأيوبيين في مصر.

- الحملة الصليبية السابعة 637هـ:
مع استمرار ضعف الأيوبيين ووقوع القتال بينهم وبين خوارزمشاه وسلاجقة الروم، دعت الكنسية إلى حملة صليبية جديدة، فسار الفرنسيون بقيادة ثيبوب الرابع عام 637هـ، ووصلوا إلى عكا، ثم ساروا إلى عسقلان فهزمهم المسلمون فهربوا إلى عكا، وفي هذه الأثناء جاءت الأخبار بخلع العادل الصغير وتولي الملك الصالح أيوب بمصر، فغضب عمهما الصالح إسماعيل أمير دمشق، وتحالف مع الصليبيين، ثم سلمهم حصن الشقيف ليساعدوه على ابن أخيه الصالح أيوب، فلما رأى العز بن عبد السلام وابن الحاجب هذه الخيانة تصديا للإنكار على إسماعيل وانسحبا من الجيش ومعهما عدد كبير. ثم أفتى ابن العز بتحريم إعانة الصليبيين، وعرّض بالسلطان في الخطبة. ونقلت الاستخبارات الأخبار إلى إسماعيل، فأمر بعزل العز عن الخطابة واعتقاله هو وابن الحاجب.

وفي أحد الاجتماعات قال إسماعيل لملوك الفرنج: هل تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟، قالوا: نعم. قال: هذا أكبر قسوس المسلمين، وقد حبسته لإنكاره علي تسليمي حصون المسلمين لكم، وفعلت به كذا وكذا لأجلكم. فقالوا له: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه وشربنا مرقتها.

وهكذا نجد بعض الكفار اليوم يعرفون قدر العلماء والمصلحين، بينما تتقرب بعض الحكومات العربية في فلسطين وغيرها إلى أعداء الله بحرب الدين، واعتقال الدعاة، وضرب الجماعات الإسلامية.

- حملة هولاكو من 651 ـ 656هـ:
بعد انهيار الدولة الخوارزمية اتسعت حدود الدولة التترية غرباً حتى توقفت على حدود أراضي الطائفة الإسماعيلية في إيران.

وفي عام 651هـ تحرك المغول بقوات كبيرة ومعدات ضخمة نحو المغرب لغزو الأراضي الإسماعيلية والخلافة في بغداد، وكانت هذه الحملة العسكرية بقيادة هولاكو بن جنكيز خان، فعبروا الأرضي التركستانية ثم ساروا إلى بلاد ما وراء النهر. وكانوا يسيرون سيراً بطيئاً ويتوقفون كثيراً، نظراً لضخامة أعدادهم وثقل معداتهم.

وبعد سنتين أي في عام 653هـ وصل هولاكو وجيشه إلى بلاد ما وراء النهر، وهناك أرسل هولاكو إلى الخليفة المستعصم ببغداد يدعو فيها الخليفة إلى الاستسلام دون قيد أو شرط، فإن أجاب واستسلم فعليه أن يرسل قوات بغدادية لتنظم إلى التتار لقتال الإسماعيلية.

ومما جاء في نص الرسالة من التهديد أنه قال: "فإذا فعلت ذلك فإن موافقتَكم ستحمد، وخدماتِكم سوف تقدر جيداً، ولسوف تبقى لكم أراضيكم وأسلحتكم، ولكنكم إذا تهاونتم في امتثال الأوامر، ولم تبدِ احتراماً للغرض الذي طالبَتْكم به هذه الرسالة فإننا عندما نفرغ من أمر الملاحدة (يعني الإسماعيلية) سنعود ونتوجه إليكم، وسيقع عليكم وعلى أراضيكم ومساكنكم ما سبق وجرى عليهم".

وصلت الرسالة إلى بغداد، فرد عليها الخليفة برسالة اعتذار عن عدم إرسال الجنود وبعث إلى هولاكو بعض الهدايا.

وهذه الرسالة تدل على أمرين:
الأول: الضعف والهوان الكبير الذي حل بالخلافة العباسية.
الثاني: أن غزو التتار للبلاد الإسلامية لم يكن مفاجئاً بل كانت إرهاصاته ومؤشراته واضحة المعالم كما في هذه الرسالة التي وصلت إلى الخليفة قبل سقوط بغداد بأكثر من سنتين، ومع هذا لم تكن استعدادات بغداد الهزيلة خلال السنتين بحجم هذا الخطر العظيم.

حال الخلافة في بغداد قبل السقوط

كان يتعاقب علىحكم المسلمين في العراق خلفاء من بني العباس.. حملوا الاسم العظيم الجليل "الخليفة"، ولكنهم (في هذه الفترة من القرن السابع الهجري) ما اتصفوا بهذا الاسم أبداً، ولا رغبوا أصلاً في الاتصاف به؛ فلم يكن لهم من همّ إلا جمع المال، وتوطيد أركان السلطان في هذه الرقعة المحدودة من الأرض.. ولم ينظروا نظرة صحيحة أبداً إلى وظيفتهم كحكام.. لم يدركوا أن من مسؤولية الحاكم أن يوفر الأمان لدولته، ويقوي من جيشها، ويرفع مستوى المعيشة لأفراد شعبه، ويحكم في المظالم، ويرد الحقوق لأهلها، ويجير المظلومين، ويعاقب الظالمين، ويقيم حق الله عز وجل على العباد، ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويدافع عن كل ما يتعلق بالإسلام، ويوحد الصفوف والقلوب.

لم يدركوا هذه المهام الجليلة للحاكم المسلم، كل ما كانوا يريدونه فقط هو البقاء أطول فترة ممكنة في كرسي الحكم، وتوريث الحكم لأبنائهم، وتمكين أفراد عائلتهم من رقاب الناس، وكذلك كانوا يحرصون على جمع الأموال الكثيرة، والتحف النادرة، ويحرصون على إقامة الحفلات الساهرة، وسماع الأغاني والموسيقى والإسراف في اللهو والطرب.

حياة الحكام كانت حياة لا تصلح أن تكون لفرد من عوام أمة الإسلام فضلاً عن أن تكون لحاكم أمة الإسلام.. لقد ضاعت هيبة الخلافة، وتضاءلت طموحات الخليفة، حسب تعبير الدكتور راغب السرجاني.
كانت الخلافة العباسية في بغداد تعاني من الضعف الشديد على مختلف الجوانب السياسية والعسكرية والاجتماعية والاقتصادية.

أما من حيث الجانب السياسي: فقد أقفل الخلفاء العباسيون على أنفسهم أبواب القصور، وأحاطوها بالحرس، وأصبحت مقابلة الخليفة أمراً بالغ الصعوبة للخاصة قبل عامة الناس، وكان الخليفة يعيش في عزلة عن الناس، حتى إن المستنصر والد المستعصم لما مات لم يدر أحد من الناس ولا أهلِ بيته بموته يومين كاملين سوى الحاشية الذين نصبوا ولده المستعصم.

وشهدت هذه الفترة تسلطاً من الحاشية ورجال البلاط، لدرجة أنهم هم الذين اختاروا الخليفة المستعصم لما مات أبوه ونصبوه في الخلافة، ولما اختير للخلافة اعترض بعض أقاربه لعلمهم بضعفه وعدم كفاءته، لكن الوزراء والحاشية أجبروهم على البيعة، وسجنوا من امتنع منهم وحبسوا منهم الطعام والشراب حتى بايعوه مكرهين.

وكان الخليفة المستعصم ضعيفاً قليل الخبرة بأمور الملك، وكان زمانه ينقضي بسماع الأغاني والتفرج على الأمور التافهة.

وأما من حيث الجانب العسكري: فقد كان للوزير الرافضي ابن العلقمي دور كبير في تقليص عدد الجيش وإهماله بحجة توفير الأموال لخزينة الدولة، حتى صار الجيش في عهد المستعصم عشرة آلاف، بعد أن بلغ المائة ألف في عهد والده المستنصر.

أما من حيث الجانب الاجتماعي: فقد شهد المجتمع العديد من الثورات والنزاعات الطائفية الداخلية، وصل بعضها إلى القتال المسلح وسفك الدماء بسبب وجود الرافضة في بغداد وممالأة الوزير ابن العلقمي لهم، مما أضعف بنية المجتمع، وأدى إلى وقوع خيانات مختلفة ضد الخليفة.

وأما الجانب الاقتصادي: فقد شهد عصر المستعصم أعنف الكوارث الطبيعية التي لم تشهد مثلها الخلافة العباسية، فكثرت الفيضانات التي أتلفت المحاصيل، وارتفعت الأسعار وتعذرت الأقوات، مما أدى إلى ضعف الحكم في البلاد.

آفة الترف

}وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا{ [الإسراء: 16].

والمترفون – كما يقول سيد قطب - في كل أمة هم طبقة الكبراء الناعمين الذين يجدون المال ويجدون الخدم ويجدون الراحة، فينعمون بالدعة وبالراحة وبالسيادة، حتى تترهل نفوسهم وتأسن، وترتع في الفسق والمجانة، وتستهتر بالقيم والمقدسات والكرامات، وتلغ في الأعراض والحرمات، وهم إذا لم يجدوا من يضرب على أيديهم عاثوا في الأرض فساداً، ونشروا الفاحشة في الأمة وأشاعوها، وأرخصوا القيم العليا التي لا تعيش الشعوب إلا بها ولها؛ ومن ثم تتحلل الأمة وتسترخي، وتفقد حيويتها وعناصر قوتها وأسباب بقائها؛ فتهلك وتطوى صفحتها.

والآية تقرر سنة الله هذه، فإذا قدر الله لقرية أنها هالكة لأنها أخذت بأسباب الهلاك، فكثر فيها المترفون، فلم تدافعهم ولم تضرب على أيديهم، سلط الله هؤلاء المترفين ففسقوا فيها، فعم فيها الفسق، فتحللت وترهلت، فحقت عليها سنة الله، وأصابها الدمار والهلاك. وهي المسؤولة عما يحل بها؛ لأنها لم تضرب على أيدي المترفين، ولم تصلح من نظامها الذي يسمح بوجود المترفين. فوجود المترفين ذاته هو السبب الذي من أجله سلطهم الله عليها ففسقوا، ولو أخذت عليهم الطريق فلم تسمح لهم بالظهور فيها ما استحقت الهلاك، وما سلط الله عليها من يفسق فيها ويفسد فيقودها إلى الهلاك.

إن إرادة الله قد جعلت للحياة البشرية نواميس لا تتخلف، وسنناً لا تتبدل، وحين توجد الأسباب تتبعها النتائج فتنفذ إرادة الله وتحق كلمته. والله لا يأمر بالفسق؛ لأن الله لا يأمر بالفحشاء. لكن وجود المترفين في ذاته، دليل على أن الأمة قد تخلخل بناؤها، وسارت في طريق الانحلال، وأن قدر الله سيصيبها جزاء وفاقاً. فهي التي تعرضت لسنة الله بسماحها للمترفين بالوجود والحياة.

فالإرادة هنا ليست إرادة للتوجيه القهري الذي ينشئ السبب، ولكنها ترتب النتيجة على السبب. الأمر الذي لا مفر منه؛ لأن السنة جرت به. والأمر ليس أمراً توجيهياً إلى الفسق، ولكنه إنشاء النتيجة الطبيعية المترتبة على وجود المترفين وهي الفسق.

وهنا تبرز تبعة الجماعة في ترك النظم الفاسدة تنشئ آثارها التي لا مفر منها. وعدم الضرب على أيدي المترفين فيها كي لا يفسقوا فيها فيحق عليها القول فيدمرها تدميراً.
هذه السنة قد مضت في الأولين من بعد نوح، قرناً بعد قرن، كلما فشت الذنوب في أمة انتهت بها إلى ذلك المصير، والله هو الخبير بذنوب عباده البصير: {وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا} [الإسراء: 17].

وكانت مظاهر الترف قد ظهرت في الأمة الإسلامية بعد عصر الخلافة الراشدة، وكانت البداية في عهد الدولة الأموية، وكما يقول الدكتور الصلابي فإن الحديث عن ترف الأمويين وبذخهم يحتل مكانة واسعة عند المؤرخين، والحق أنه كان عندهم لون من ألوان البذخ في سكناهم وفي لباسهم وفي عطائهم ونفقاتهم، وقد لفت معاوية نظر عمر بن الخطاب رضي الله عنهم إليه، وهو أحد ولاة الشام، يغدو في موكب ويروح في آخر، ولكن من الحق أيضاً ألا ننظر إلى حياة الأمويين بمعزل عن حياة المجتمع العربي والإسلامي آنذاك، فهي جزء منه، تتأثر به، كما تؤثر فيه، وفي ذلك العصر كان التطور الاجتماعي يتلاحق، ومظاهر الغنى وانتشار الأموال والرغبة في التمتع الحلال به تصبح أمراً ظاهراً يدفع الذوق العام والقيم الاجتماعية الحاكمة آنذاك إلى مزيد من التفتح والاتساع.. وهذه السمة الظاهرة لا تنفيها ورود أخبار مؤكدة في زهد معاوية ورقة ثيابه، أو زهد عامله زياد ولباسه المرقوع، فلا تناقض بين هذه الروايات وما عرف من التلبس بمظاهر الملك، بل هي دليل على نفوس عالية لا ترى الزهادة نقصاً ولا ترى التنعم حراماً.

وهكذا إذا نظرنا نظرة شاملة في وجوه الإنفاق المالي في ذلك العصر لا نجد مظاهر الترف والبذخ قصراً على بني أمية، خلفائهم وولاتهم، فبعض بني هاشم وبني الزبير وغيرهم من معارضي الأمويين لم يكونوا أقل سماحة بالمال من بني أمية، ولا أكثر حرصاً عليه. وإذا كان بنو أمية قد ابتنوا القصور فقد بنى رجال من أشراف العرب قصوراً كان لها ذكر وبهاء، وكان العرب يعدون ذلك كرماً، ويتفاخرون به، ويتوقعون مثله من كل شريف من أشرافهم، وإن لم يكن حاكماً.

والترف في المجتمعات الإسلامية ظاهرة سلبية لها ما بعدها، إن بحبحة الأمويين في الإنفاقات المالية أدت إلى ظهور الترف ثم تعمق وتجذر في الأمة حتى أصبح ترفاً مدمراً، ظهرت معالمه وآثاره في سقوط بلاد الشام في الصليبيين ثم سقوط بغداد في يد المغول وزوال الدولة العباسية.

إنه كالحمض الأكال الذي ينخر في جسم المادة فيذهب بصلابتها، فتصبح هشة سهلة القصف، أو تصبح لينة لا قوام لها في الصدام، وقد كانت وفرة المال في أيدي الناس هي الباب المؤدي إلى الترف بطبيعة الحال، ولكن هذا يفسر ولا يبرر، فإنه لا يوجد تبرير لمعصية الله، وقد جاء المال بوفرة نسبية على أيام عمر رضي الله عنه، ولكنه تصرف بشأنه بمنع الفساد، فمنع الصحابة - رضوان الله عليهم - من الخروج من المدينة للضياع والتجارة؛ حتى لا تتكون منهم طبقة تملك المال في أيديها وتملك السلطان الأدبي على الناس؛ فيحدث التميز وتفسد الأحوال، فضلاً عن احتمال إصابتهم هم أنفسهم بالترف وهم هيئة المشورة إلى جانب الخليفة؛ فتفسد مشورتهم حين تترهل نفوسهم، وقبل ذلك أخذ عمر رضي الله عنه نفسه وأهل بيته بالشدة الحازمة، حتى لا يكونوا قدوة سيئة أمام الناس؛ فيفسد الناس، أما حين يترك المال بدون تصرف معين من ولي الأمر، يسمح بالنفع ويمنع الضرر، فإنه لا بد أن يؤدي إلى نتائجه المحتومة حسب السنة الإلهية، لا لأن المال في ذاته هكذا يضع، ولكن لأن الجهد البشري المطلوب لإصلاح الآفة لم يبذل فتنفرد الآفة وحدها بالسلطان، وآفة المال الترف، وعلاجها في يد ولي الأمر بنشر روح الجد في المجتمع وبإعطاء القدوة من نفسه لبقية الناس. أما حين يترك في أيدي الناس بلا ضابط مع وجود فئة تعمل جاهدة في إفساد أخلاق المجتمع وروحه، فالنتيجة هي ما قررته السنة الربانية التي جاء بيانها في كتاب الله: }ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ{ [الروم: 41].

والترف مُعْد ككل آفة.. فحين لا يعالج، ولا يوقف فإنه ينتشر ولا بد، وحين يكون مبتدؤه في قصور الخلافة فأمره أسوأ؛ لأن الحكام دائماً قدوة، وقد كان الأمويون برغم وجود الترف بينهم أقل فساداً بالمال من العباسيين؛ لأنهم كانوا أكثر انشغالاً بتثبيت دولتهم من ناحية، وبالجهاد في سبيل الله من ناحية أخرى، فأما العباسيون فبعد أن استتب لهم الملك أخذ الترف يسري بينهم سريعاً، خاصة بفعل الحاشية الفارسية المفسدة المتعمدة للفساد. ومن قصور الخلافة انتقل الترف بالعدوى إلى قصور الأمراء والوزراء، ثم قصور التجار الذين وصل دخلهم في التجارة العالمية إلى ملايين الدنانير، وشيئاً فشيئاً غلب الفساد على عاصمة الخلافة بغداد ثم العواصم الإسلامية الأخرى.

الخلاصة

هذه نظرة سريعة في حال الأمة الإسلامية في ذلك الوقت.. ويلاحظ أنه قد انتشرت فيها الفتن والمؤامرات، وتعددت فيها الحروب بين المسلمين وإخوانهم في الدين، وكثرت فيها المعاصي والذنوب، وعم الترف والركون إلى الدنيا، وهانت الكبائر على قلوب الناس، حتى كثر سماع أن هذا ظلم هذا، وأن هذا قتل هذا، وأن هذا سفك دم هذا، يقال هذا الكلام بدم بارد وكأن الأرواح التي تزهق ليست بأرواح بشر.

وكما يقول سامي بن خالد الحمود فقد انكسرنا لما عظمت الدنيا في نفوسنا، وركنا إلى شهواتها وملذاتها، وتركنا الجهاد في سبيل الله، والتضحية لدين الله، وأنى لأمةٍ أن تنتصر، وأبناؤها بل كبارها.

ولهذا عندما عجز أحفاد صلاح الدين الذين تربوا في القصور عن حمل لواء الجهاد، قيض الله للأمة المماليك فنصر الله بهم دينه.

وانكسرنا لما دب الضعف في الخلافة العباسية، وأغلق الخلفاء على أنفسهم أبواب القصور، ولم يأبهوا بما يجري للناس من الظلم على أيدي الأمراء والحاشية.

وانكسرنا لما تكاسل العلماء عن أداء واجبهم في نصح الأمة، والاهتمام بقضاياها، والأخذ على يد الظالم، وانطوى كثير منهم على نفسه، ونسي الميثاق العظيم الذي أخذه الله على أهل العلم، ورضي بعرض من الدنيا قليل.

وانكسرنا لما افترقنا إلى دويلات متنافرة، فعادى الأخ أخاه، وقتل أباه، طمعاً في حطام الدنيا، وكان التتار يحيطون ببلاد الإسلام، بينما المسلمون يقاتل بعضهم بعضاً، وينهب بعضهم بعضاً، فأذاق الله بعضَنا بأس بعض، وأُهدرت مقدرات الأمة في هذه الحروب الداخلية.

وانكسرنا بالخيانة، عندما قام بعض بني جلدتنا بخيانة الأمة، وفي بعض الأحداث كانت الأمة قاب قوسين أو أدنى من الانتصار، فإذا بمسلسل الخيانات يقلب الموازين، ويحطم ما بقي من قوة المسلمين.

لقد قام بعض الخونة بإرشاد التتار إلى العورات ومواطن الضعف في بغداد، وقام آخرون بتسليم البلاد لأمراء التتار، وقام آخرون بالتجسس لصالحهم، وقام آخرون بمراسلة التتار وتحريضهم على إخوانهم، وقام آخرون بتسليم إخوانهم المجاهدين إلى التتار، خوفاً على أنفسهم من قاعدة (من لم يكن معنا فهو ضدنا)، وتاجر بعض ملوك بني أيوب بقضية القدس وسلم بيت المقدس للصليبيين في مقابل الإبقاء على ملكه والقضاء على أخيه، وقدم حاكم الموصل للتتار المدد والدعم اللوجستي كما يقال، ثم وقف هو وجيشه مع التتار ضد إخوانه المسلمين، وها نحن نجد تلك المآسي نفسها تتكرر بين المسلمين اليوم.

وانكسرنا عندما غفلنا عن أعدائنا ومخططاتهم، وانخدعنا بشعاراتهم الزائفة، وتشدقهم بدعاوى الأمان والسلام، فكان التتار يعطون أهل البلاد الأمان اليوم ويغدرون بهم في الغد، ثم يسيرون إلى البلاد الأخرى فيصدقونهم، فيفعل التتار بهم مثل ما فعلوا بإخوانهم، كما هو حاصل اليوم في العالم الإسلامي.

وانكسرنا عسكرياً بعد أن انكسرنا نفسياً، فكان للحرب الإعلامية دور كبير في فشل المسلمين وهزيمتهم النفسية وأصبح المجتمع يردد ما يبثه الإعلام التتري من العبارات مثل: جيش التتار لا يهزم، ليس هناك خيار سوى الاستسلام.. واليوم تتكرر على مسامعنا مثل تلك الأوصاف، كالقول بأن "جيش إسرائيل لا يقهر"، وكان لهذه الحرب النفسية أثر كبير في الإحباط المعنوي والانهيار الميداني.

وانكسرنا عندما أُهمل الجيش المسلم، ووُلِّي عليه الخونة أمثالُ الوزير الرافضي ابنِ العلقمي، الذي سرح الجيش وأهدر قوة الأمة التي أمر الله أن تعدها لأعدائها، فلما هجم التتار وحل البلاء بالمؤمنين، انكشفت هذه القوة الهزيلة، ولم تغن عنهم شيئاً.

ففي هذه الحالة أصبح العالم الإسلامي ينتظر كارثة تقضي على كل الضعفاء في كل هذه الأقطار، ليأتي بعد ذلك جيل من المسلمين يغير الوضع، ويعيد للإسلام هيبته، وللخلافة قوتها ومجدها.
ولم يتحقق ذلك إلا بعد عملية تطهير للمجتمع الإسلامي من الأوبئة والأمراض السياسية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية، وإزالة عوامل التفكك والنزاع بين المسلمين، كل ذلك حصل وتحقق قبل دحر التتار في عين جالوت على يد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

وهذا ما نحتاج إليه في حاضرنا "المستعصمي" البائس التعيس، والبداية بطهارة القلوب وصواب السلوك في الفرد والمجتمع، حذو القذة بالقذة على منهج من نصروا الإسلام وصنعوا مجد الأمة عبر تاريخها العظيم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر

- (في ظلال القرآن)، سيد قطب.

- (كيف دخل التتار بلاد المسلمين؟.. الأدوار الخفية في سقوط الخلافة العباسية)، سليمان بن حمد العودة.

- (الانتصار على التتار.. دراسة تربط ماضي الأمة بحاضرها)، سامي بن خالد الحمود.

- (الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار)، د.علي محمد الصلاَّبي.

- (قصة التتار من البداية.. إلى عين جالوت)، د. راغب السرجاني.

- (الفخري في الآداب السلطانية)، ابن الطقطقي.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.82 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.19 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.80%)]