
05-01-2022, 04:38 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,842
الدولة :
|
|
رد: تقرير: موقعة القادسية.. دروس وعبر في مواجهة المحن
يوم أغواث
كان يوم أغواث هو اليوم الثاني من أيام القادسية، وفي ليلة هذا اليوم قدمت طليعة جيش الشام يقودهم القعقاع بن عمرو التميمي، وقد كان أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه قد أمر أمير الشام، أبا عبيدة بإعادة جيش خالد بن الوليد إلى العراق مدداً للمسلمين في القادسية، فأعادهم وأبقى خالداً عنده لحاجته إليه، وولَّى على هذا الجيش هاشم بن عتبة بن أبي وقاص ابن أخي سعد، وكان هذا الجيش تسعة آلاف حين قدم من العراق إلى الشام بقيادة خالد بن الوليد، وعاد منهم إلى العراق ستة آلاف، وقد ولَّى هاشم بن عتبة القعقاع بن عمرو على المقدمة وعددهم ألف مجاهد.
مواقف فدائية لأبناء الخنساء الأربعة
كان لأبناء الخنساء الأربعة مواقف فدائية في ذلك اليوم فقد اندفعوا إلى القتال بحماس، وقال كل واحد منهم شعراً حماسياً يقوِّي به نفسه وإخوانه، فقال أولهم:
يـا إخوتـي إن العجـوز الناصحـة
مـقـالــةً ذات بــيــان واضــحـــة
وإنـمـا تلـقـون عـنــد الصـائـحـة
قـد أيقنـوا منكـم بـوقـع الجائـحـة
قـد نصحَتْـنـا إذ دعتـنـا البـارحـة
فباكروا الحرب الضَّروس الكالحة
مـن آل ساسـان الكـلاب النابـحـة
وأنتـم بيـن حيـاة وحيـاة صالحـة
وتقدم فقاتل حتى قتل، فحمل الثاني وهو يقول:
إن الـعـجـوز ذات حـــزم وجـلــد
قــد أمرتـنـا بـالـسـداد والـرّشــد
فباكروا الحـرب حمـاة فـي العـدد
أو ميـتـة تـورثـكـم عـــز الأبـــد
والنظـر الأوفـق والـرأي الـسَّـدد
نصـيـحـة مـنـهـا وبـــرّاً بـالـولـد
إمــا لـفـوز بــارد عـلــى الـكـبـد
في جنة الفردوس والعيش الرغد
وقاتل حتى استشهد. وحمل الثالث وهو يقول:
والله لا نعصـي العجـوز حـرفـاً
نصـحـاً وبــراً صـادقـاً ولـطـفـاً
حـتـى تلـفـوا آل كـسـرى لـفــا
إنا نرى التقصيـر عنكـم ضعفـاً
قـــد أمـرتـنـا حـدبــاً وعـطـفــاً
فبادروا الحرب الضروس زحفاً
أو يكشفوكم عـن حماكـم كشفـاً
والقـتـل فيـكـم نـجـدة وزُلـفــى
وقاتل حتى استشهد، وحمل الرابع وهو يقول:
لــســت لـخـنـســاء ولا لــلأخْـــرَمِ
إن لم أرِدْ في الجيش جيش الأعجم
إمــــا لــفــوز عــاجـــل ومـغــنــم
ولا لـعـمـرو ذي الـسـنـاء الأقـــدم
مـاض علـى الهـول خضـمِّ خضـرم
أو لـوفــاة فـــي السـبـيـل الأكـــرم
فقاتل حتى استشهد، وبلغ الخنساء خبر بنيها الأربعة، فقالت: الحمد لله الذي شرّفني بقتلهم، وأرجو من ربي أن يجمعني بهم في مستقر رحمته.
أبو محجن الثقفي في قلب المعركة
استمر القتال يوم أغواث إلى منتصف الليل، وسميت تلك الليلة ليلة السواد، ثم وقف القتال بعد أن تحاجز الفريقان، وكان لوقف القتال منفعة كبيرة للمسلمين، حيث كانوا ينقلون شهداءهم إلى مقر دفنهم في وادي مُشرِّق، وينقلون الجرحى إلى العُذَيب حيث تقوم النساء بتمريضهم، ولقد شارك في القتال في هذه الليلة لأول مرة أبو محجن الثقفي، وكان أبو محجن قد حُبس وقُيّد، فهو في القصر، فصعد حين أمسى إلى سعد يستعفيه ويستقيله، فزبره وردّه فنزل فأتى سلْمى بنت خَصَفة، فقال: يا سلمى يا بنت آل خَصفة، هل لك إلى خير؟ قالت: وما ذاك؟ قال: تخلِّين عنِّي وتُعيرينني البلقاء، فلله علي إن سلمني الله أن أرجع إليك حتى أضع رجلي في قَيْدي، فقالت، وما أنا وذاك، فرجع يرسف في قيوده ويقول:
كفى حزناً أن تردي الخيل بالقنا
وأتـرك مـشـدوداً عـلـي وثاقـيـا
إذا قمت عناني الحديد وأغلقـت
مصاريع دوني قد تصم المناديـا
وقـد كنـت ذا مـالٍ كثيـرٍ وإخـوةٍ
فقـد تركونـي واحـداً لا أخـا ليـا
ولله عـهــدٌ لا أخـيــس بـعـهـده
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيـا
فقالت سَلْمى: إني استخرت الله ورضيت بعهدك، فأطلقته، وقالت: أمّا الفَرَس فلا أعيره، ورجعت إلى بيتها، فاقتادها، فأخرجها من باب القصر الذي يلي الخندق فركبها، ثم دبّ عليها، حتى إذا كان بحيال الميمنة كبَّر، ثم حمل على ميسرة القوم يلعب برمحه وسلاحه بين الصّفَّين، فقالوا: بسرجها، وقال سعيد والقاسم عُزْياً، ثم رجع من خلف المسلمين إلى الميسرة فكبَّر وحمل على ميمنة القوم يلعب الصّفَّين برمحه وسلاحه، ثم رجع من خلف المسلمين إلى القلب فندر أمام الناس، فحمل على القوم يلعب بين الصّفين برمحه وسلاحه، وكان يقصف الناس ليلتئذ قصفاً منكراً، وتعجب الناس منه وهم لا يعرفونه ولم يروه من النَّهار، فقال بعضهم: أوائل أصحاب هاشم أو هاشم نفسه، وجعل سعد يقول وهو مشرف على الناس مُكِبّ من فوق القصر: "والله لولا محبس أبي مِحْجَن لقلت: هذا أبو محجن وهذه البلقاء"، وتعددت الأقوال فلما انتصف الليل حاجز أهل فارس، وتراجع المسلمون، وأقبل أبو محْجن حتى دخل من حيث خرج، وأعاد رجليه في قيديه، وقال:
لقد علمت ثقيفٌ غيـر فخـرٍ
بأنـا نحـن أكرمـهـم سيـوفـا
وأكثرهـم دروعــاً سابـغـاتٍ
وأصبرهم إذا كرهوا الوقوفا
وأنـا وفدهـم فــي كــل يــومٍ
فإن عموا فسل بهـم عريفـا
وليلة قادسٍ لم يشعـروا بـي
ولم أشعر بمخرجي الزحوفا
فـإن أحـبـس فذلـكـم بـلائـي
وإن أتـرك أذيقهـم الحتـوفـا
فقالت له سلمى: يا أبا محْجَن، في أي شيء حبسك هذا الرجل؟ قال: أما والله ما حبسني بحرام أكلته ولا شربته، ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية، وأنا امرؤ شاعر يدبّ الشعر على لساني، يبعثه على شفتي أحياناً، فيساء لذلك ثنائي، ولذلك حبسني حين قلت:
إذا مت فادفني إلى أصل كرمةُ ... تُرَويِّ عظامي بعد موتي عُرُوقها
ولا تدفنِّي بالفلاة فإنني ... أخاف إذا ما متّ ألا أذوقها
وتُروي بخمر الحُصِّ لَحدي فإنني ... أسيرُ لها من بعد ما قد أسوقُها
فلما أصبحت سلمى أخبرت سعد بن أبي وقاص عن خبرها وخبر أبي محجن، فدعا به فأطلقه، وقال: أذهب فما أنا مؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله، قال: لا جرم لا أجيب لساني إلى صفة قبيح أبداً.
يوم عماس
يوم عِمَاس هو اليوم الثالث من المعركة، ومن ضمن المواقف فيه قول قيس بن المكشوح: "يا معشر العرب، إن الله قد من عليكم بالإسلام، وأكرمكم بمحمد، فأصبحتم بنعمة الله إخواناً، دعوتكم واحدة، وأمركم واحد، بعد إذ أنتم يعدو بعضكم على بعض عدو الأسد، ويختطف بعضكم بعضاً اختطاف الذئاب، فانصروا الله ينصركم، وتنجزوا من الله فتح فارس، فإن إخوانكم من أهل الشام قد أنجز الله لهم فتح الشام وانتشال القصور الحمر والحصون الحمر".
ومما قيل من الشعر ذلك اليوم قول القعقاع بن عمرو:
حضض قومي مضرحي بن يعمـر
فلله قومـي حيـن هــزوا العوالـيـا
وما خام عنها يوم سارت جموعنا
لأهــل قـديـس يمنـعـون الموالـيـا
فــإن كـنـت قاتـلـت الـعـدو فللـتـه
فإني لألقى في الحـروب الدواهيـا
فـيـولا أراهــا كالـبـيـوت مـغـيـرة
أسـمــل أعـيـانــا لــهــا ومـآقـيــا
وقال آخر:
أنا ابن حرب ومعي مخراقي أضربهم بصارم رقراق إذ كره الموت أبو إسحاق وجاشت النفس على التراقي صبرا عفاق إنه الفراق ليلة الهرير
بدأ القتال ليلة الهرير في اليوم الرابع، وقد غيّر الفرس هذه الليلة طريقتهم في القتال، فقد أدرك رستم أن جيشه لا يصل إلى مستوى فرسان المسلمين في المطاردة ولا يقاربهم، فعزم على أن يكون القتال زحفاً بجميع الجيش حتى يتفادى الانتكاسات السابقة التي تسببت في تحطيم معنويات جيشه، فلم يخرج أحد من الفرس للمبارزة والمطاردة بعدما انبعث لذلك أبطال المسلمين، وجعل رستم جيشه ثلاثة عشر صفاً في القلب والمجنَّبتين. وبدأ القعقاع بن عمرو القتال وتبعه أهل النجدة والشجاعة قبل أن يكبر سعد، فسمح لهم بذلك واستغفر لهم، فلما كبر ثلاثاً زحف القادة وسائر الجيش، وكانوا ثلاثة صفوف، صفاً فيه الرماة وصفاً فيه الفرسان وصفاً فيه المشاة، وكان القتال في تلك الليلة عنيفاً، وقد اجتلدوا من أول الليل حتى الصباح لا ينطقون، كلامهم الهرير، فسمّيت ليلة الهرير، وقد أوصى المسلمون بعضهم بعضاً على بذل الجهد في القتال لما يتوقعونه من عنف الصراع، ومما رُوي من الأقوال في ذلك قول دريد بن كعب النخعي لقومه: "إن المسلمين تهيئوا للمزاحفة فاسبقوا المسلمين الليلة إلى الله والجهاد فإنه لا يسبق الليلة أحد إلا كان ثوابه على قدر سبقه، نافسوهم في الشهادة وطيبوا بالموت نفساً، فإنه أنجى من الموت إن كنتم تريدون الحياة، وإلا فالآخرة ما أردتم".
وقال الأشعث بن قيس: يا معشر العرب إنه لا ينبغي أن يكون هؤلاء القوم أجرأ على الموت ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، تنافسوا الأزواج والأولاد، ولا تجزعوا من القتل فإنه أماني الكرام ومنايا الشهداء.
وقال حميضة ين النعمان البارقي: "كان بإزاء قبيلة (جُعْفى) ليلة الهرير كتيبة من كتائب العجم عليهم السلاح التام، فازدلفوا لهم فجالدوهم بالسيوف، فرأوا أن السيوف لا تعمل مع الحديد فارتدعوا، فقال لهم حميضة بن النعمان البارقي: مالكم؟ قالوا لا يجوز فيهم السلاح، قال: كما أنتم حتى أريكم، انظروا، فحمل على رجل منهم فاستدار خلفه فدق ظهره بالرمح، ثم التفت إلى أصحابه فقال: ما أراهم إلا يموتون دونكم، فحملوا عليهم وأزالوهم إلى صفهم.
وكان بإزاء قبيلة كندة، ترك الطبري (أحد قادة الفرس)، فقال الأشعث بن قيس الكندي: ياقوم ازحفوا لهم، فزحف لهم في سبعمائة فأزالهم وقتل قائدهم ترك، وكان القتال في تلك الليلة شديداً متواصلاً، وقام زعماء القبائل يحثون قبائلهم على الثبات والصبر. ومما يبين عنف القتال في تلك الليلة، ما أخرجه الطبري عن أنس بن الحليس قال: شهدت ليلة الهرير، فكان صليل الحديد فيها كصوت القيون ليلتهم حتى الصباح، أفرغ عليهم الصبر إفراغاً وبات سعد بليلة لم يبت بمثلها، ورأى العرب والعجم أمراً لم يروا مثله قط، وانقطعت الأصوات والأخبار عن رستم وسعد، وأقبل سعد على الدعاء حتى إذا كان نصف الليل الباقي سمع القعقاع بن عمرو وهو يقول:
نحن قتلنا معشراً وزائداً أربعةً وخمسةً وواحدا نحسب فوق اللبد الأساودا حتى إذا ماتوا دعوت جاهدا الله ربي واحترست عامداً فاستدل سعد بذلك على الفتح، وهكذا بات سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه يدعو الله تعالى تلك الليلة ويستنزل نصره، ومما ينبغي الإشارة إليه أن سعداً كان مستجاب الدعوة.
يوم القادسية
أصبح المسلمون في اليوم الرابع وهم يقاتلون، فسار القعقاع بن عمرو في الناس فقال: إن الدَّبرة بعد ساعة لمن بدأ القوم، فاصبروا ساعة واحملوا، فإن النصر مع الصبر، فآثروا الصبر على الجزع". فاجتمع إليه جماعة من الرؤساء، وصمدوا لرستم حتى خالطوا الذين دونه مع الصبح ولما رأت ذلك القبائل قام فيها رجال، فقام قيس بن عبد يغوث والأشعث بن قيس، وعمرو بن معد يكرب وابن ذي السَّهمين الخشعمي وابن ذي البُردين الهلالي، فقالوا: لا يكونن هؤلاء (يعني أهل فارس) أجرأ على الموت منكم، ولا أسخى أنفساً عن الدنيا، وقام في ربيعة رجال فقالوا: أنتم أعلم الناس بفارس وأجرؤهم عليهم فيما مضى، فما يمنعكم اليوم أن تكونوا أجرأ مما كنتم.
وتقدم القعقاع ومن معه حتى عثروا على سرير رستم وهم لا يرونه من الغبار، وكان رستم قد تركه واستظل ببغل فوقع على رستم وهو لا يشعر به فأزال من ظهره فقاراً، وهرب رستم نحو نهر العتيق لينجو بنفسه، ولكن هلالاً أدركه فأمسك برجله وسحبه ثم قتله، وصعد السرير ثم نادى: قتلت رستم ورب الكعبة، إليَّ، فأطافوا به وما يرون السرير وكبَّروا وتنادوا، وانهزم قلب الفرس، أما بقية قادة المسلمين فإنهم تقدموا أيضاً فيمن يقابلهم وتقهقر الفرس أمامهم، ولما علم الجالينوس بمقتل رستم قام على الرّدم المُقام على النهر ونادى أهل فارس إلى العبور فراراً من القتل فعبروا، أما المقترنون بالسلاسل وعددهم ثلاثون ألفاً فإنهم تهافتوا في نهر العتيق فوخزهم المسلمون برماحهم، فما أفلت منهم أحد.
خطبة عمرية بعد فتح القادسية
لما أتى عمر رضي الله عنه خبر الفتح قام في الناس فقرأ عليهم الفتح، وقال:
"إني حريص على أن لا أدع حاجة إلا سددتها ما اتسع بعضنا لبعض، فإذا عجز ذلك منا تآسينا في عيشنا حتى نستوي في الكفاف، ولوددت أنكم علمتم من نفسي مثل الذي وقع فيها لكم ولست معلمكم إلا بالعمل، إني والله ما أنا بملك فأستعبدكم، وإنما أنا عبد الله عُرض عليَّ الأمانة، فإن أبيتها (يعني أعففت نفسي من أموال الرعية) ورددتها عليكم واتبعتكم حتى تشبعوا في بيوتكم وترووا سعدت، وإن أنا حملتها واستتبعتها إلى بيتي شقيت، ففرحت قليلاً وحزنت طويلاً، وبقيت لا أقال ولا أرد فأستعتب".
الوفاء عند المسلمين، والعدل لا رخصة فيه
كتب سعد رضي الله عنه إلى أمير المؤمنين رضي الله عنهما كتاباً آخر، يطلب فيه أمره في أهل الذمة من عرب العراق الذين نقضوا عهدهم في حال ضعف المسلمين فقام عمر رضي الله عنه في الناس فقال: "إنه من يعمل بالهوى والمعصية يسقط حظه ولا يضر إلا نفسه، ومن يتبع السنة وينته إلى الشرائع ويلزم السبيل النهج ابتغاء ما عند الله لأهل الطاعة أصاب أمره وظفر بحظه، وذلك بأن الله عز وجل يقول: }وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا{ [الكهف:49]، وقد ظفر أهل الأيام والقوادس بما يليهم، وجلا أهله، وأتاهم من أقام على عهدهم، فما رأيكم فيمن زعم أنه استكره وحشر وفيمن لم يدع ذلك ولم يقم وجلا، وفيمن أقام ولم يدع شيئاً ولم يجل، وفيمن استسلم؟، فاجتمعوا على أن الوفاء لمن أقام وكف ولم يزده غلبه إلا خيراً، وأن من ادعى فصُدِّق أو وفى فمنزلتهم، وإن كُذِّب نبذ إليهم وأعادوا صلحهم، وأن يجعل أمر من جلا إليهم فإن شاءوا وادعوهم وكانوا لهم ذمة، وإن شاءوا تموا على منعهم من أرضهم ولم يعطوهم إلا القتال، وأن يُخَيَّروا من أقام واستسلم الجزاء إلاّ القتال، وأن يخيّروا من أقام واستسلم الجزاء أو الجلاء وكذلك الفلاحين".
وفي هذه الخطبة دروس وعبر منها:
- تطبيق عمر رضي الله عنه مبدأ الشورى حيث كان يستشير أهل الرأي في كل أموره المهمة بالرغم مما عرف عنه من غزارة العلم وسداد الرأي، وإن هذا السلوك الرفيع كان من أسباب نجاحه الكبير في سياسة الأمة.
- الاستفادة من هذه المقدمة التي قدمها عمر رضي الله عنه بين يدي استشارته حيث ذكر الصحابة رضي الله عنهم بلزوم التجرد من الهوى وإخلاص النية لله عز وجل، والاستقامة على المنهج القويم الذي سنه رسول الله، فمن فعل ذلك عصم من الذل في الحكم وأصاب الحق وظفر بثواب الله تعالى.
وقد لخص عمر رضي الله عنه هذه المشورة بخطاب وجّهه إلى سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه جاء فيه: "أما بعد فإن الله جل وعلا أنزل في كل شيء رخصة في بعض الحالات إلا في أمرين: العدل في السيرة والذكر، فأما الذكر فلا رخصة فيه في حالة، ولم يرض منه إلا بالكثير، وأما العدل فلا رخصة فيه في قريب ولا بعيد، ولا في شدة ولا رخاء، والعدل - وإن رئي ليناً - فهو أقوى وأطفأ للجور، وأقمع للباطل من الجور، وإن رئي شديداً فهو أنكش للفكر، فمن تم على عهده من أهل السواد (يعني عرب العراق) ولم يُعِنْ عليكم بشيء فلهم الذمة وعليهم الجزية، وأما من ادعى أنه استُكره ممن لم يخالفهم إليكم أو يذهب في الأرض فلا تصدقوهم بذلك إلا أن تشاءوا، وإن لم تشاءوا فانبذوا إليهم، وأبلغوهم مأمنهم".
وفي هذا الرد دروس وعبر، منها:
أن العدل في الحكم هو الدعامة الكبرى لبقاء حكم الإسلام وسيادته وانتشار الأمن والرخاء في بلاد المسلمين، هذا في الدنيا وأما في الآخرة فلا مفر من العقاب للظالمين، لأن حقوق الله تعالى قد يغفرها لعبده ويتجاوز عنه، أما حقوق الناس فإن الله تعالى يوقف الظالمين والمظلومين يوم القيامة فيقتصّ بعضهم من بعض وأما ذكر الله تعالى فلا بد أن يسود حياة المسلم في قلبه ولسانه وجوارحه، فيكون تفكيره خالصاً لله تعالى، ومنطقه فيما يرضيه وعمله من أجله، ويكون همه الأكبر إقامة ذكر الله جل وعلا في الأرض قولاً وعملاً واعتقاداً فإذا كان كذلك عصمه الله سبحانه من فتنة الشبهات والشهوات وقد أخذ سعد ومن معه من المسلمين بتوجيهات أمير المؤمنين فعرضوا على من حولهم ممن جلا عن بلاده أن يرجعوا ولهم الذمة وعليهم الجزية، وهكذا نجد أمامنا نموذجاً من نماذج الرحمة وتأليف القلوب، وقد أثرت هذه المعاملة الكريمة وحبَّبت المسلمين والإسلام لهؤلاء الناكثين فدخلوا بعد ذلك على مراحل في الإسلام وصاروا من أتباعه المخلصين.
واختلف المؤرخون في تحديد تاريخ المعركة، ولأحمد عادل كمال تحقيق جيد توصل فيه إلى أنها في شهر شعبان من العام الخامس عشر، حسب قول الصلابي الذي رجح هذا القول.
الخلاصة
انتهت المعركة بتوفيق الله تعالى، ثم بجهود أبطال المسلمين وحكمة قائدهم سعد بن أبي وقاص، وكانت معركة عنيفة قاسية ثبت فيها الأعداء للمسلمين ثلاثة أيام حتى هزمهم الله في اليوم الرابع، بينما كان المسلمون يهزمون أعداءهم غالباً في يوم واحد، وكان من أسباب هذا الثبات أن الفرس كانوا يعتبرون هذه المعركة معركة مصير، فإما أن تبقى دولتهم مع الانتصار، وإما أن تزول دولتهم مع الهزيمة والاندحار ولا تقوم لهم قائمة، كما أن من أسباب ثباتهم وجود أكبر قادتهم رستم، على رأس القيادة، وهو قائد له تاريخ حافل بالانتصارات على أعدائه إضافة إلى تفوق الفرس في العدد والعُدد، حيث كان عدد الفرس عشرين ومائة ألف من المقاتلين من غير الأتباع، مع من كان يبعثهم يزدجرد مدداً كل يوم بينما كان عدد المسلمين بضعة وثلاثين ألفاً، ومع هذا كله انتصر المسلمون عليهم بعد أن قدموا ثمانية آلاف وخمسمائة من الشهداء، وهذا العدد من الشهداء هو أكبر عدد قدمه المسلمون في معاركهم في الفتوح الإسلامية الأولى، وكونهم قدموا هذا العدد من الشهداء دليل على عنف المعركة وعلى استبسال المسلمين وتعرضهم للشهادة رضي الله عنهم أجمعين.
وكتب سعد إلى أمير المؤمنين عمر رضي الله عنهما يخبره بالفتح مع سعد بن عُميْلة الفزاري وجاء في كتابه: أما بعد فإن الله نصرنا على أهل فارس، ومنحهم سنن من كانوا قبلهم من أهل دينهم، بعد قتال طويل، وزلزال شديد، وقد لقوا المسلمين بعُدة لم ير الراؤون مثل زهائها (يعني مقدارها) فلم ينفعهم الله بذلك بل سلبهموه ونقله عنهم إلى المسلمين، واتبعهم المسلمون على الأنهار وعلى طفوف الآجام، وفي الفجاج، وأصيب من المسلمين سعد بن عبيد القارئ وفلان وفلان، ورجال من المسلمين لا نعلمهم، والله بهم عالم، كانوا يُدَوون بالقرآن إذا جن عليهم الليل دَويَّ النحل، وهم آساد الناس لا يشبههم الأسود، ولم يفضل من مضى منهم من بقي إلا بفضل الشهادة إذ لم تكتب لهم.
وفي هذه الرسالة دروس وعبر منها:
ما تحلى به سعد رضي الله عنه من توحيد الله تعالى وتعظيمه والبراءة من حول النفوس وقوتها، فالنصر على الأعداء إنما هو من الله تعالى وحده وليس بقوة المسلمين، بالرغم مما بذلوه من الجهاد المضني والتضحية العالية.
وقوة الأعداء الضخمة، ليس بقاؤها أو سلبها للبشر، بل ذلك كله لله تعالى، فهو الذي حرم الأعداء من الانتفاع بقوتهم، وهو الذي منحها للمسلمين، وإنما البشر مجرد وسائط يجري الله النفع والضرر على أيديهم، وهو وحده الذي يستطيع دفع الضرر وجلب المنفعة سبحانه وتعالى، وهكذا فهم سعد رضي الله عنه معنى التوحيد، وحققه مع جنوده في حياته.
ونلاحظ سعداً في رسالته يصف الصحابة رضي الله عنهم ومن معهم من التابعين بالتفوق في العبادة والشجاعة، فهم عُبَّاد في الليل لهم أصوات مدوِّية بالقرآن كأصوات النحل لا تكلُّ ولا تمل، وفرسان في النهار لا تصل الأسود الضارية إلى مستواهم في الإقدام والثبات، وكان عمر رضي الله عنه يستخبر الركبان عن أهل القادسية من حين يصبح إلى انتصاف النهار، ثم يرجع إلى أهله ومنزله، فلما لقي البشير سأله من أين؟ فأخبره، قال: يا عبد الله حدثني قال: هَزم الله العدو، وعمر يخُبُّ معه - يعني يسرع - ويستخبره، والآخر على ناقته ولا يعرفه، حتى دخل المدينة فإذا الناس يسلِّمون عليه بإمرة المؤمنين فقال: فهلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين، وجعل عمر يقول لا عليك يا أخي.
وفي هذا الخبر دروس وعبر منها:
- الاهتمام الكبير من عمر رضي الله عنه الذي دفعه إلى أن يخرج إلى البرِّية كل يوم لعله يجد الركبان القادمين من العراق فيسألهم عن خبر المسلمين مع أعدائهم، وقد كان بإمكانه أن يوكل بهذه المهمة غيره ممن يأتيه بالخبر ولكن الهمَّ الكبير الذي كان يحمله للمسلمين لا يتيح له أن يفعل ذلك، وهنا منتهى الرحمة والشعور بالمسؤولية.
- التواضع الجمِّ من عمر رضي الله عنه، فقد ظل يسير ماشياً مع الراكب، ويطلب منه خبر المعركة، وذلك الرسول لا يريد أن يخبره بالتفاصيل حتى يصل إلى أمير المؤمنين، ولا يدري أنه الذي يخاطبه ويعدو معه، حتى عرف ذلك من الناس في المدينة وهذه أخلاق رفيعة يحق للمسلمين أن يفاخروا بها العالم في تاريخهم الطويل، وأن يستدلوا بها على عظمة هذا الدين الذي أنجب رجالاً مثل عمر في عدله ورحمته وحزمه وتواضعه.
ولا شك أن القادسية تقع على قمة قائمة المعارك الحاسمة في تاريخ العالم؛ فهي تبين أنواعاً من التمكين الرباني لأهل الإيمان الصحيح، فقد انفتحت على آثارها أبواب العراق، ومن وراء العراق فارس كلها، وهي التي من عندها استطرد نصر المسلمين، فاستطرد معه السقوط الساساني من الناحيتين الحربية والسياسية، والسقوط المجوسي من الناحية الدينية العقائدية، ومن هنا انساح دين الإسلام في بلاد فارس وما وراءها، ففي القادسية كسر المسلمون شوكة المجوس كسرة لم ينجبر شأنهُم بعدها أبداً، وبهذا استحقت القادسية مكانها على قمة المعارك الحاسمة في تاريخ البشر.
المصادر
- (تاريخ الأمم والرسل والملوك)، محمد بن جرير الطبري.
- (الكامل في التاريخ)، ابن الأثير.
- (أمير المؤمنين عمر بن الخطاب)، د. علي محمد الصلابي.
- موقع (قصة الإسلام).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|