
17-12-2021, 12:00 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,786
الدولة :
|
|
رد: تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى ____ متجدد

تفسير القرآن " زَادُ الْمَسِيرِ فِي عِلْمِ التَّفْسِيرِ" لابن الجوزى
جمال الدين أبو الفرج عبد الرحمن بن علي الجوزي
سُورَةُ الْبَقَرَةِ
الحلقة (18)
صــ91 إلى صــ 96
قَوْلُهُ تَعَالَى: بِغَيْرِ الْحَقِّ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّ مَعْنَاهُ: بِغَيْرِ جُرْمٍ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ تَوْكِيدٌ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ خَارِجٌ مَخْرَجَ الصِّفَةِ لِقَتْلِهِمْ أَنَّهُ ظُلْمٌ ، فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: [ ص: 91 ] رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ فَوَصَفَ حُكْمَهُ بِالْحَقِّ ، وَلَمْ يَدُلَّ عَلَى أَنَّهُ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَكَانُوا يَعْتَدُونَ الْعُدْوَانُ: أَشَدُّ الظُّلْمِ . وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الِاعْتِدَاءُ: مُجَاوَزَةُ الْقَدْرِ فِي كُلٍّ شَيْءٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا فِيهِمْ خَمْسَةُ أَقْوَالٍ .
أَحَدُهَا: أَنَّهُمْ قَوْمٌ كَانُوا مُؤْمِنِينَ بِعِيسَى قَبْلَ أَنْ يُبْعَثَ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمُ الَّذِينَ آَمَنُوا بِمُوسَى ، وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ عِيسَى ، فَآَمَنُوا بِهِ وَعَمِلُوا بِشَرِيعَتِهِ إِلَى أَنْ جَاءَ مُحَمَّدٌ ، وَهَذَا قَوْلُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمُ الْمُنَافِقُونَ ، قَالَهُ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهُمُ الَّذِينَ كَانُوا يَطْلُبُونَ الْإِسْلَامَ ، كَقِسِّ بْنِ سَاعِدَةَ ، وَبُحَيْرَا ، وَوَرَقَةَ بْنِ نَوْفَلٍ ، وَسَلْمَانَ . وَالْخَامِسُ: أَنَّهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَالَّذِينَ هَادُوا قَالَ الزَّجَّاجُ: أَصْلُ هَادَوْا فِي اللُّغَةِ: تَابُوا . وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ الْيَهُودَ سُمُّوا بِذَلِكَ ، لِقَوْلِ مُوسَى : هُدْنَا إِلَيْكَ ، وَالنَّصَارَى لِقَوْلِ عِيسَى: مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ . وَقِيلَ سُمُّوا النَّصَارَى لِقَرْيَةٍ ، نَزَلَهَا الْمَسِيحُ ، اسْمُهَا: نَاصِرَةُ ، وَقِيلَ: لِتَنَاصُرِهِمْ .
فَأَمَّا "الصَّابِئُونَ" فَقَرَأَ الْجُمْهُورُ بِالْهَمْزِ فِي جَمِيعِ الْقُرْآَنِ . وَكَانَ نَافِعٌ يَهْمِزُ كُلَّ الْمَوَاضِعِ . قَالَ الزَّجَّاجُ: مَعْنَى الصَّابِئِينَ: الْخَارِجُونَ مِنْ دِينٍ إِلَى دِينٍ ، يُقَالُ: صَبَأَ فَلَانٌ: إِذَا خَرَجَ مِنْ دِينِهِ . وَصَبَأَتِ النُّجُومُ: إِذَا طَلَعَتْ [وَصَبَأَ نَابُهُ: إِذَا خَرَجَ ] .
وَفِي الصَّابِئِينَ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ [ ص: 92 ] أَحَدُهَا: أَنَّهُ صِنْفٌ مِنَ النَّصَارَى أَلْيَنُ قَوْلًا مِنْهُمْ ، وَهُمُ السَّائِحُونَ الْمُحَلِّقَةُ أَوْسَاطُ رُؤُوسِهِمْ ، رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ .
وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ النَّصَارَى وَالْمَجُوسِ ، لَيْسَ لَهُمْ دِينٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَالثَّالِثُ: أَنَّهُمْ قَوْمٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، قَالَهُ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ .
وَالرَّابِعُ: قَوْمٌ كَالْمَجُوسِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَالْحَكَمُ .
وَالْخَامِسُ: فِرْقَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ يَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ .
وَالسَّادِسُ: قَوْمٌ يُصَلُّونَ إِلَى الْقِبْلَةِ ، وَيَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ ، وَيَقْرَؤُونَ الزَّبُورَ ، قَالَهُ قَتَادَةُ .
وَالسَّابِعُ: قَوْمٌ يَقُولُونَ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، فَقَطْ ، وَلَيْسَ لَهُمْ عَمَلٌ وَكِتَابٌ وَنَبِيٌّ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: مَنْ آمَنَ فِي إِعَادَةِ ذِكْرِ الْإِيمَانِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ طَوَائِفَ مِنَ الْكُفَّارِ رَجَعَ قَوْلُهُ: (مَنْ آمَنَ) إِلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمَعْنَى مَنْ أَقَامَ عَلَى إِيمَانِهِ . وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْإِيمَانَ الْأَوَّلَ نُطْقُ الْمُنَافِقِينَ بِالْإِسْلَامِ . وَالثَّانِي: اعْتِقَادُ الْقُلُوبِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَعَمِلَ صَالِحًا .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: أَقَامَ الْفَرَائِضَ .
فَصْلٌ
وَهَلْ هَذِهِ الْآَيَةُ مُحْكَمَةٌ أَمْ مَنْسُوخَةٌ؟ فِيهِ قَوْلَانِ .
أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا مُحْكَمَةٌ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ وَالضَّحَّاكُ فِي آَخَرِينَ ، وَقَدَّرُوا فِيهَا: إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ، وَمَنْ آَمَنَ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا . وَالثَّانِي: أَنَّهَا مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ: وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ ، ذَكَرَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
الْخِطَابُ بِهَذِهِ الْآَيَةِ لِلْيَهُودِ . وَالْمِيثَاقُ: مِفْعَالٌ مِنَ التَّوَثُّقِ بِيَمِينٍ أَوْ عَهْدٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُؤَكِّدُ الْقَوْلَ .
وَفِي هَذَا الْمِيثَاقِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ أَنْ يَعْمَلُوا بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَكَرِهُوا الْإِقْرَارَ بِمَا فِيهَا ، فَرَفَعَ عَلَيْهِمُ الْجَبَلَ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . قَالَ أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيُّ: أَعْطُوا اللَّهَ عَهْدًا لِيَعْمَلُنَّ بِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، فَلَمَّا جَاءَ بِهَا مُوسَى قَرَءُوا مَا فِيهَا مِنَ التَّثْقِيلِ ، امْتَنَعُوا مِنْ أَخْذِهَا ، فَرَفَعَ الطُّورَ عَلَيْهِمْ . وَالثَّانِي: أَنَّهُ مَا أَخَذَهُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى الرُّسُلِ وَتَابِعِيهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ . وَالثَّالِثُ: ذَكَرَهُ الزَّجَّاجُ أَيْضًا ، فَقَالَ: يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمِيثَاقُ يَوْمَ أَخَذَ الذُّرِّيَّةَ مِنْ ظَهْرِ آَدَمَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ قَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ: الطَّوْرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْجَبَلُ . وَقَالَ ابْنُ قُتَيْبَةَ: الطَّوْرُ: الْجَبَلُ بِالسُّرْيَانِيَّةِ . وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: مَا أُنْبِتَ مِنَ الْجِبَالِ فَهُوَ طُورٌ ، وَمَا لَمْ يَنْبُتْ فَلَيْسَ بِطُورٍ .
وَأَيُّ الْجِبَالِ هُوَ؟ فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهُمَا: جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ فِلِسْطِينَ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: جَبَلٌ نَزَلُوا بِأَصْلِهِ ، قَالَهُ قَتَادَةُ . وَالثَّالِثُ: الْجَبَلُ الَّذِي تَجَلَّى لَهُ رَبُّهُ قَالَهُ مُجَاهِدٌ .
وَجُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا رَفَعَ الْجَبَلَ عَلَيْهِمْ لِإِبَائِهِمُ التَّوْرَاةَ . وَقَالَ السُّدِّيُّ: لِإِبَائِهِمُ دُخُولَ الْأَرْضِ الْمُقَدَّسَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ .
وَفِي الْمُرَادِ بِالْقُوَّةِ أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: الْجِدُّ وَالِاجْتِهَادُ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَقَتَادَةُ ، وَالسُّدِّيُّ . وَالثَّانِي: الطَّاعَةُ ، قَالَهُ أَبُو الْعَالِيَةِ . وَالثَّالِثُ: الْعَمَلُ بِمَا فِيهِ ، قَالَهُ مُجَاهِدٌ . وَالرَّابِعُ: الصِّدْقُ ، قَالَهُ ابْنُ زَيْدٍ .
[ ص: 94 ] قَوْلُهُ تَعَالَى: وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ فِيهِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: اذْكُرُوا مَا تَضَمَّنَهُ مِنَ الثَّوَابِ وَالْعِقَابِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: مَعْنَاهُ: ادْرُسُوا مَا فِيهِ ، قَالَهُ الزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: تَتَّقُونَ الْعُقُوبَةَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنْ الْخَاسِرِينَ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أَيْ: أَعْرَضْتُمْ عَنِ الْعَمَلِ بِمَا فِيهِ مِنْ بَعْدِ إِعْطَاءِ الْمَوَاثِيقِ لَتَأْخُذُنَّهُ بِجِدٍّ ، فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ بِالْعُقُوبَةِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ السَّبْتُ: الْيَوْمُ الْمَعْرُوفُ ، قَالَهُ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ: وَمَعْنَى السَّبْتِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْقَطْعُ يُقَالُ: قَدْ سَبَتَ رَأْسَهُ: إِذَا حَلَقَهُ وَقَطَعَ الشَّعْرَ مِنْهُ ، وَيُقَالُ: نَعْلٌ سَبْتِيَّةٌ: إِذَا كَانَتْ مَدْبُوغَةً بِالْقَرْظِ مَحْلُوقَةَ الشَّعْرِ ، فَسُمِّيَ السَّبْتُ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ابْتَدَأَ الْخَلْقَ فِيهِ ، وَقَطَعَ فِيهِ بَعْضَ خَلْقِ الْأَرْضِ ، أَوْ: لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ فِيهِ بِقَطْعِ الْأَعْمَالِ وَتَرْكِهَا . قَالَ: وَقَالَ بَعْضُهُمْ: سُمِّيَ سَبْتًا ، لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَمَرَهُمْ بِالْاسْتِرَاحَةِ فِيهِ مِنَ الْأَعْمَالِ ، وَهَذَا خَطَأٌ ، لِأَنَّهُ يُعْرَفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: سَبَتَ بِمَعْنَى: اسْتَرَاحَ .
وَفِي صِفَةِ اعْتِدَائِهِمْ فِي السَّبْتِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ أَخَذُوا الْحِيتَانَ يَوْمَ السَّبْتِ ، قَالَهُ الْحَسَنُ وَمُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ حَبَسُوهَا يَوْمَ السَّبْتِ وَأَخَذُوهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، وَذَلِكَ أَنَّ الرَّجُلَ كَانَ يَحْفِرُ الْحَفِيرَةَ; وَيَجْعَلُ لَهَا نَهْرًا إِلَى الْبَحْرِ ، فَإِذَا كَانَ يَوْمَ السَّبْتِ فَتَحَ النَّهْرَ ، وَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْعَمَلَ يَوْمَ السَّبْتِ ، فَيُقْبِلُ الْمَوْجُ بِالْحِيتَانِ حَتَّى يُلْقِيَهَا فِي الْحَفِيرَةِ ، فَيُرِيدُ الْحُوتُ الْخُرُوجَ فَلَا يُطِيقُ ، فَيَأْخُذُهَا يَوْمَ الْأَحَدِ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ .
[ ص: 95 ] الْإِشَارَةُ إِلَى قِصَّةِ مَسْخِهِمْ .
رَوَى عُثْمَانُ بْنُ عَطَاءٍ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: نُودِيَ الَّذِينَ اعْتَدَوْا فِي السَّبْتِ ثَلَاثَةَ أَصْوَاتٍ . نُودُوا يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَتْ طَائِفَةٌ أَكْثَرُ مِنَ الْأُولَى ، ثُمَّ نُودُوا: يَا أَهْلَ الْقَرْيَةِ ، فَانْتَبَهَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ ، فَقَالَ اللَّهُ لَهُمْ: كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلَ الَّذِينَ نَهَوْهُمْ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ فَيَقُولُونَ: يَا فُلَانُ أَلَمْ نَنْهَكُمْ؟ فَيَقُولُونَ بِرُؤُوسِهِمْ: بَلَى . قَالَ قَتَادَةُ: فَصَارَ الْقَوْمُ قِرَدَةً تَعَاوَى ، لَهَا أَذْنَابٌ بَعْدَمَا كَانُوا رِجَالًا وَنِسَاءً .
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْ قَتَادَةَ: صَارَ الشُّبَّانُ قِرَدَةً ، وَالشُّيُوخُ خَنَازِيرَ ، وَمَا نَجَا إِلَّا الَّذِينَ نَهَوْا ، وَهَلَكَ سَائِرُهُمْ . وَقَالَ غَيْرُهُ: كَانُوا نَحْوًا مِنْ سَبْعِينَ أَلْفًا ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْعُلَمَاءُ ، غَيْرَ مَا رُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ أَنَّهُ قَالَ: مُسِخَتْ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ تُمْسَخْ أَبْدَانُهُمْ ، وَهُوَ قَوْلٌ بَعِيدٌ ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: لَمْ يُحْيَوْا عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَحْيَاْ مَسْخٌ فِي الْأَرْضِ فَوْقَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ، وَلَمْ يَأْكُلْ وَلَمْ يَشْرَبْ وَلَمْ يَنْسِلْ . وَزَعَمَ مُقَاتِلٌ أَنَّهُمْ عَاشُوا سَبْعَةَ أَيَّامٍ ، وَمَاتُوا فِي الْيَوْمِ الثَّامِنِ ، وَهَذَا كَانَ فِي زَمَانِ دَاوُدَ عَلَيْهِ السَّلَامُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: خَاسِئِينَ : الْخَاسِئُ فِي اللُّغَةِ: الْمُبْعَدُ ، يُقَالُ لِلْكَلْبِ اخْسَأْ ، أَيْ: تَبَاعَدْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَجَعَلْنَاهَا نَكَالا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ .
فِي الْمُكَنَّى عَنْهَا أَرْبَعَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْخَطِيئَةُ ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: الْعُقُوبَةُ ، رَوَاهُ الضَّحَّاكُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَقَالَ الْفَرَّاءُ: الْهَاءُ: كِنَايَةٌ عَنِ الْمُسْخَةِ الَّتِي مُسِخُوهَا . وَالثَّالِثُ: أَنَّهَا الْقَرْيَةُ ، وَالْمُرَادُ أَهْلُهَا ، قَالَهُ قَتَادَةُ وَابْنُ قُتَيْبَةَ . وَالرَّابِعُ: أَنَّهَا الْأُمَّةُ الَّتِي مُسِخَتْ ، قَالَهُ الْكِسَائِيُّ ، وَالزَّجَّاجُ .
وَفِي النَّكَالِ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ الْعُقُوبَةُ ، قَالَهُ مُقَاتِلٌ . وَالثَّانِي: الْعِبْرَةُ ، قَالَهُ ابْنُ قُتَيْبَةَ وَالزَّجَّاجُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ . أَحَدُهَا: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا [ ص: 96 ] مِنَ الْقُرَى وَمَا خَلْفَهَا ، رَوَاهُ عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ الذُّنُوبِ ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا عَمِلُوا بَعْدَهَا ، رَوَاهُ عَطِيَّةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ . وَالثَّالِثُ: لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا مِنَ السِّنِينَ الَّتِي عَمِلُوا فِيهَا بِالْمَعَاصِي ، وَمَا خَلْفَهَا: مَا كَانَ بَعْدَهُمْ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ لِئَلَّا يَعْمَلُوا بِمِثْلِ أَعْمَالِهِمْ ، قَالَهُ عَطِيَّةُ .
وَفِي الْمُتَّقِينَ قَوْلَانِ . أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ عَامٌّ فِي كُلِّ مُتَّقٍ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ . وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ أُمَّةُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، قَالَهُ السُّدِّيُّ عَنْ أَشْيَاخِهِ ، وَذَكَرَهُ عَطِيَّةُ وَسُفْيَانُ .
قَوْلُهُ تَعَالَى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لا فَارِضٌ وَلا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ .
ذِكْرُ السَّبَبِ فِي أَمْرِهِمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .
رَوَى ابْنُ سِيرِينَ عَنْ عُبَيْدَةَ قَالَ: كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ رَجُلٌ عَقِيمٌ لَا يُولَدُ لَهُ ، وَلَهُ مَالٌ كَثِيرٌ ، وَكَانَ ابْنُ أَخِيهِ وَارِثَهُ ، فَقَتَلَهُ وَاحْتَمَلَهُ لَيْلًا ، فَأَتَى بِهِ حَيًّا آَخَرَ ، فَوَضَعَهُ عَلَى بَابِ رَجُلٍ مِنْهُمْ ، ثُمَّ أَصْبَحَ يَدَّعِيهِ حَتَّى تَسَلَّحُوا ، وَرَكِبَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ، فَأَتَوْا مُوسَى فَذَكَرُوا لَهُ ذَلِكَ ، فَأَمَرَهُمْ بِذَبْحِ الْبَقَرَةِ .

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|