الأحكام الفقهية من القصص القرآنية (64)
- الأحكام المستفادة من قصة إبراهيم عليه السلام
- حكم المعاريض
د.وليد خالد الربيع
قال -تعالى-: {قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ} (سورة الأنبياء:63)، أخبرنا الله -سبحانه وتعالى- في سورة الأنبياء عن جانب من حياة إبراهيم الخليل -عليه السلام-؛ حيث أقام الحجة على قومه، وألزمهم أن يقروا على أنفسهم بأنهم كانوا ظالمين بعبادة غير الله -تعالى-، وذلك حين كسر أصنامهم وترك الفأس برقبة كبيرهم، فلما سألوه أجابهم بما ذكره الله في هذه الآية، قال الشيخ ابن سعدي: «فقال إبراهيم والناس شاهدون: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} أي: كسرها غضبا عليها، لما عبدت معه، وأراد أن تكون العبادة منكم لصنمكم الكبير وحده، وهذا الكلام من إبراهيم، المقصد منه إلزام الخصم وإقامة الحجة عليه، ولهذا قال: {فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ} وأراد الأصنام المكسرة اسألوها لم كسرت؟ والصنم الذي لم يكسر، اسألوه لأي شيء كسرها، إن كان عندهم نطق، فسيجيبونكم إلى ذلك، وأنا وأنتم، وكل أحد يدري أنها لا تنطق ولا تتكلم، ولا تنفع ولا تضر، بل ولا تنصر نفسها ممن يريدها بأذى».
وقد أخذ العلماء من هذه الآية (مسألة حكم المعاريض): قال القرطبي: «وكان قوله من المعاريض، وفي المعاريض مندوحة عن الكذب».
تعريف المعاريض
قال ابن الأثير: «المعاريض جمع معراض من التعريض، وهو خلاف التصريح من القول».
وفي اللسان: المعاريض: التورية بالشيء عن الشيء، والتورية: هي أن يريد المتكلم بكلامه خلاف ظاهره، قال الفيومي: «أن تطلق لفظا ظاهرا في معنى وتريد معنى آخر يتناوله ذلك اللفظ لكنه خلاف ظاهره».
حكم المعاريض
معلوم أن الكذب وهو قول مخالف للواقع محرم ومن الكبائر كما دلت عليه نصوص كثيرة، وقد يضطر المرء إلى التخلص من بعض المواقف الخطيرة أو المحرجة باستعمال المعاريض والتلاعب بالألفاظ، وهو مخرج حسن إذا لم يكن سبيلا للتوصل إلى الحرام أو أخذ حقوق الناس أو إسقاط الواجبات، فعن عمران بن حصين قال: «إنَّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب» أي: فيها سَعَةٌ وفُسحة ما يغني عن الكذب. رواه البخاري في الأدب المفرد.
وقال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «ما في المعاريض ما يغنى الرجل عن الكذب» رواه البيهقي، وقال ابن عباس: «ما أحب بمعاريض الكلام حمر النعم».
وقال النخعي: «لهم كلام يتكلَّمون به إِذا خشوا من شيء يدرؤون به عن أنفسهم».
وقال ابن سيرين: «الكلام أوسع من أن يكذب ظريف».
وقرر النووي أن التورية والتعريض ضرب من التغرير والخداع، إلا إن دعت إلى ذلك مصلحة شرعية راجحة على خداع المخاطب، أو حاجة لا مندوحة عنها إلا بالكذب، فلا بأس بالتعريض، وإن لم يكن شيء من ذلك فهو مكروه وليس بحرام، إلا أن يتوصل به إلى أخذ باطل أو دفع حقٍّ، فيصير حينئذ حرامًا.
قال ابن مفلح في الآداب الشرعية: «ومهما أمكن المعاريض حرم (الكذب)، لعدم الحاجة إذاً». ثم ذكر أن الإمام أحمد سئل المعاريض فقال: «المعاريض لا تكون في الشراء والبيع، وتصلح بين الناس» قال ابن مفلح: فلعل ظاهره أن المعاريض فيما استثنى الشرع من الكذب، ولا تجوز المعاريض في غيرها.
هل كذب إبراهيم -عليه السلام- أم ورّى؟
في الصحيحين عن أبي هريرة أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «لَمْ يَكْذِبْ إبْرَاهِيمُ عليه السَّلَامُ إلَّا ثَلَاثَ كَذَبَاتٍ، ثِنْتَيْنِ منهنَّ في ذَاتِ اللَّهِ -عزَّ وجلَ-ّ؛ قَوْلُهُ {إِنِّي سَقِيمٌ}، وقَوْلُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا} وقالَ: بيْنَا هو ذَاتَ يَومٍ وسَارَةُ، إذْ أَتَى علَى جَبَّارٍ مِنَ الجَبَابِرَةِ، فقِيلَ له: إنَّ هَاهُنَا رَجُلًا معهُ امْرَأَةٌ مِن أَحْسَنِ النَّاسِ، فأرْسَلَ إلَيْهِ فَسَأَلَهُ عَنْهَا، فَقالَ: مَن هذِه؟ قالَ: أُخْتِي، فأتَى سَارَةَ قالَ: يا سَارَةُ، ليسَ علَى وجْهِ الأرْضِ مُؤْمِنٌ غيرِي وغَيْرَكِ، وإنَّ هذا سَأَلَنِي فأخْبَرْتُهُ أنَّكِ أُخْتِي، فلا تُكَذِّبِينِي» الحديث.
وقد جرى بحث بين العلماء في حقيقة ما وقع من إبراهيم عليه السلام هل هو كذب حقيقي رُخِصَ له فيه أم كان كلامه على سبيل التورية والمعاريض؟
ذكر ابن الجوزي في تفسيره القولين:
- أحدهما: أنه وإِن كان في صورة الكذب، إِلا أن المراد به التنبيه على أن من لا قدرة له، لا يصلح أن يكون إِلهاً، ومثله قول الملَكين لداود: {إِنَّ هذا أَخِي} ولم يكن أخاه {لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً}، ولم يكن له شيء، فجرى هذا مجرى التّنبيه لداود على ما فعل، أنه هو المراد بالفعل والمَثَل المضروب، ومِثْل هذا لا تسمِّيه العرب كذباً.
- والثاني: أنه من معاريض الكلام، (قال ابن حجر: «وَفِي الْحَدِيثِ إِبَاحَةُ الْمَعَارِيضِ»)
قال ابن الأنباري: كلام إِبراهيم كان صدقاً عند البحث، ومعنى قول النبيّ - صلى الله عليه وسلم -: «كذب إِبراهيم ثلاث كذبات» قال قولاً يشبه الكذب في الظاهر، وليس بكذب.
قال ابن مفلح: «وقد ذهب جماعة من العلماء إِلى هذا الوجه، وأنه من المعاريض، والمعاريض لا تُذم، خصوصاً إِذا احتيج إِليها» وذكر عدة مواقف نبوية استعمل فيها التورية منها قول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعجوز: «إنّ الجنّة لا يدخلها العجائز» أراد قوله -تعالى-: {إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً}، وقال لامرأة: «مَنْ زوجُك؟» فسمَّته له، فقال: «الذي في عينيه بياض؟» وقال لرجل: «إِنا حاملوك على ولد ناقة».
وقد أيد ابن حجر هذا الاتجاه فقال: «هَذَا قَوْلُ الْأَكْثَرِ؛ إِنَّهُ قَالَ تَوْبِيخًا لِقَوْمِهِ أَوْ تَهَكُّمًا بِهِمْ وَهُوَ الْمُعْتَمَدُ، وَلِهَذَا لَمْ يُعَدَّ ذَلِكَ فِي الْكَذَبَاتِ، وَأَمَّا إِطْلَاقُهُ الْكَذِبَ عَلَى الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ فَلِكَوْنِهِ قَالَ قَوْلًا يَعْتَقِدُهُ السَّامِعُ كَذِبًا لَكِنَّهُ إِذَا حُقِّقَ لَمْ يَكُنْ كَذِبًا؛ لِأَنَّهُ مِنْ بَابِ الْمَعَارِيضِ الْمُحْتَمِلَةِ لِلْأَمْرَيْنِ فَلَيْسَ بِكَذِبٍ مَحْضٍ».
ومن قبله قال النووي: «قَالَ الْمَازِرِيُّ: أَمَّا الْكَذِبُ فِيمَا طَرِيقُهُ الْبَلَاغُ عَنِ اللَّهِ تَعَالَى فَالْأَنْبِيَاءُ مَعْصُومُونَ مِنْهُ سَوَاءٌ كثيره وقليله.
قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ
وَأَمَّا قَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَعْنَاهُ أَنَّ الْكَذَبَاتِ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى فَهْمِ الْمُخَاطَبِ وَالسَّامِعِ، وَأَمَّا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ فَلَيْسَتْ كَذِبًا مَذْمُومًا لِوَجْهَيْنِ:
- أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ وَرَّى بِهَا فَقَالَ فِي سَارَةَ أُخْتِي فِي الْإِسْلَامِ وَهُوَ صَحِيحٌ فِي بَاطِنِ الْأَمْرِ.
- والثَّانِي: أَنَّهُ لَوْ كَانَ كذبا لا تورية فِيهِ لَكَانَ جَائِزًا فِي دَفْعِ الظَّالِمِينَ، وَقَدِ اتَّفَقَ الْفُقَهَاءُ عَلَى أَنَّهُ لَوْ جَاءَ ظَالِمٌ يَطْلُبُ إِنْسَانًا مُخْتَفِيًا لِيَقْتُلَهُ أَوْ يَطْلُبُ وَدِيعَةً لِإِنْسَانٍ لِيَأْخُذَهَا غَصْبًا وَسَأَلَ عَنْ ذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ عَلِمَ ذَلِكَ إِخْفَاؤُهُ وَإِنْكَارُ الْعِلْمِ بِهِ، وَهَذَا كَذِبٌ جَائِزٌ بَلْ وَاجِبٌ لِكَوْنِهِ فِي دَفْعِ الظَّالِمِ فَنَبَّهَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْكَذَبَاتِ لَيْسَتْ دَاخِلَةً فِي مُطْلَقِ الْكَذِبِ الْمَذْمُومِ».
وقد أيد الطبري الاتجاه الأول فقال معترضا: «وهذا قول خلاف ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - «أن إبراهيم لم يكذب إلا ثلاث كذبات كلها في الله»، وغير مستحيل أن يكون الله -تعالى- ذكْره أذن لخليله في ذلك، ليقرِّع قومه به، ويحتجّ به عليهم، ويعرّفهم موضع خطئهم، وسوء نظرهم لأنفسهم، كما قال مؤذّن يوسف لإخوته:{أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} ولم يكونوا سرقوا شيئا».
وأجاب النووي بقوله: «أَمَّا إِطْلَاقُ لَفْظِ الْكَذِبِ عَلَيْهَا فَلَا يُمْتَنَعُ لِوُرُودِ الْحَدِيثِ بِهِ، وَأَمَّا تَأْوِيلُهَا فَصَحِيحٌ لَا مَانِعَ مِنْهُ».