عرض مشاركة واحدة
  #1  
قديم 04-12-2021, 09:42 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 135,415
الدولة : Egypt
افتراضي الوقف في تراث الآل والأصحاب

الوقف في تراث الآل والأصحاب (1)

البشائر النبوية للواقفين


عيسى القدومي




هذه سلسلة مقالات نسلط فيها الضوء على أوقاف آل بيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وصحابته الكرام، وعرضِ أنواع الأوقاف ومجالاتها، وآثارها في الدين والمجتمع، مع ذكر جملة من المقاصد الشرعية والفوائد الفقهية في أوقاف النبي -صلى الله عليه وسلم - وأوقاف آله وصحبه -رضي الله عنهم-، جمعنا فيها ما رُوي من الأحاديث والآثار الواردة في هذا الباب، والدالة على حرص الآل والصحب الكرام -رضي الله عنهم- على الامتثال التامّ لتوجيه النبي -صلى الله عليه وسلم - في بذل المال واحتباس الأصول، وقفًا تنتفع به الأمة الإسلامية، وتنال به عظيم الأجر والثواب.

بشَّر النبي -صلى الله عليه وسلم - الواقفين بنيل الأجر وكسب الفضل العظيم من رب العالمين في الدنيا، وباستمرار الحسنات والمثوبة بعد الممات، وهذه البشارات دفعت آل بيت النبي وأصحابه -رضي الله عنهم- إلى التسابق في بذل الخيرات ووقف الأوقاف، فإنّ الوقف الخيريّ كما هو معلومٌ من جنس الصدقات، دخولُه فيها قطعيٌّ؛ لأنّ الوقف هو الصدقةُ الجارية، وألخّص أهم تلك البشائر النبوية للأعمال الوقفية فيما صحّ من حديث النبي - صلى الله عليه وسلم -، وذلك فيما يأتي:

الوقف حياة بعد الممات

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثةٍ: إلا من صدقةٍ جارية، أو علمٍ ينتفع به، أو ولدٍ صالح يدعو له»، هذه الثلاثة من كَسْب العبد في الحقيقة، لأنّه متسبِّبٌ فيها، وإن كان تصرُّفُه المباشر فيها ينقطعُ بوفاتِه، فجريان الثواب بسببها جارٍ على القاعدة القرآنيّة: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إلّا مَا سَعَى}(النجم: 39). قال القاضي عياض: «وذلك لأنّ عمل الميّت منقطعٌ بموتِه، لكن هذه الأشياء لما كان هو سببها؛ من اكتسابه الولدُ، وبثُّه العلمَ عند من حمله فيه، أو إيداعَه تأليفاً بقى بعده، وإيقافَه هذه الصدقة، بقيت له أجورها ما بقيت ووُجِدَتْ».

الوقف أجر لا يفارق العبد

عن أنس بن مالك - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «سبعٌ يجري للعبد أجرهُنَّ وهو في قبره بعد موته: من علّم علماً، أو أجرى نهراً، أو حفر بئراً، أو غرس نخلاً، أو بنى مسجداً، أو ورَّث مصحفاً، أو ترك ولداً يستغفر له بعد موته»، وهذا حديثٌ يقودُنا النّظر فيه إلى أنّ السبع المذكورات ههنا، تُعدُّ تفسيراً للمجمل في قوله -عليه الصلاة والسلام- في الحديث الذي قبله: «صدقة جارية»، فهذا تفسيرٌ بالمثال، ذك فيه النبيُّ -صلى الله عليه وسلم - أشهر ما يحتاج إليه النّاس في ذلك الوقت على وفق احتياجاتهم، ويُقاس عليها ما في معناها من احتياجات النّاس اليوم في كافة المجالات.

الوقف مالُكَ الحقيقي

عن عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -: «أيكُم مالُ وارثِهِ أحبُّ إليه من ماله؟»، قالوا: يا رسول الله! ما منَّا أحدٌ إلا مالُهُ أحبُّ إليهِ. قال:«فإنَّ مالَهُ مَا قدَّم، ومَالُ وارثِه ما أخَّر»، في هذا الحديث: يؤكّد النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على الحقيقةِ الشرعيّة للصدقة، وعلى أنّ المؤمنَ يكون فيما عند الله أوثق منه فيما في يده في الدنيا العاجلة؛ إذ إنّ انتفاع المؤمن بالمال، يكون إذا نظر إلى أثر المال عليه في الدّارَيْن لا في دارٍ واحدة، وليس من خصال المؤمنين أن يلتفتوا عن الآخرةِ بالكليّة ليغرقوا في الدنيا وحساباتها، فإذا كان ذلك، فهم على الحقيقة يكدّون لصالح ورثتهم لا لصالح أنفسهم، فإنّ صالحهم الحقيقيّ ما ضمنوا ثمرته في حياتهم الباقية في الآخرة.

الوقف يثقل الموازين يوم القيامة

عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال، قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: «من احتبس فرساً في سبيل الله، إيماناً بالله، وتصديقاً بوعده، فإنّ شبعه وريَّه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة»، في هذا الحديث أنّ صلاح النّيّة في الوقف، والتصديق بوعد الله، شرطان لحصول الأجر العظيم والثواب الكامل، ومفهومه أنّ ما لم يكن كذلك من الأحباس والصدقات لا أجر فيه، كما هو الحال في سائر الأعمال الصالحة في الظاهر، من غير أن تقترن بنيّة الامتثال والتعبُّد، ولا منبعثةً عن دافعِ الإيمان والتصديق واليقين.

الوقف برٌّ بالوالدين

عن سعد بن عبادة - رضي الله عنه - أنه قال: يا رسول الله، إن أُمّ سعد ماتت، فأي الصدقة أفضل؟ قال: «الماء»؛ فحفر بئراً، وقال: هذه لأم سعد، وعن عبد الله بن عباس: أنّ سعد بن عبادة (أخا بني ساعدة) توفيت أمه وهو غائب عنها، فأتي النبيّ -صلى الله عليه وسلم -، فقال: يا رسول الله! إنّ أمّي توفيت، وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيءٌ إن تصدقت به عنها؟ قال: «نعم». قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقةٌ عليها.

وسيأتي الكلام عليه في أوقاف الصحابة إن شاء الله.

الوقف إعمار للآخرة

عن عثمان - رضي الله عنه - عن النبي -صلى الله عليه وسلم - قال: «من بنى مسجداً لله -تعالى- يبتغي به وجه الله، بنى الله له بيتاً في الجنة»، وهذا أجرٌ لا يُضاهى، ونعمةٌ لا تدانيها نعمة، وفضلٌ عظيمٌ لا يُحدّ، والجزاء من جنس العمل، عطاءٌ بعَطاءٍ، وبيتٌ ببيت، وإنْ كان الموفِّقُ إلى ذلك هو الله -سبحانه-، وهو الذي يوسّع ويرزُقُ ما يطيعُه به الصالحون من عباده.

الوقف جهاد لا مشقة فيه

عن زيد بن خالد الجهني، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «من جهّز غازياً في سبيل الله، كان له مثلُ أجرِه، من غير أن ينتقص من أجر الغازي شيئاً»، والوقف يدخل في عموم هذا الحديث، من جهةِ أنّ تجهيز الغزاة في سبيل الله، قد يكون بتمليكهم عُدَّة الحرب، أو هبتهم المالَ الذي يشترونها به ويتجهّزون بما ينقصهم، كما قد يكون بالوقف على جهةِ الجهاد في سبيل الله، وقد يوقف الواقفُ عتادًا يتناوب المجاهدون على الانتفاع به، كما قد يوقف شيئًا يُغِلُّ مالاً يُنْفَقُ على احتياجات المجاهدين المختلفة.

الغرس صدقة إلى يوم القيامة

عن أنس - رضي الله عنه -، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «ما من مسلم يغرس غرساً، أو يزرع زرعاً، فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة، إلا كان له منه صدقة»، وهذا يتناول الوقف على سبيلِ العموم، فإنّ من وقفَ غرساً له على جهةٍ ما، يعمُّ نفعُه كلَّ حيٍّ في العادةِ، فله في كلّ ذلك أجر الصدقةِ على الجميع، ما عيَّنَه وما لم يعيّنه.

الوقف تعميمٌ للنّفع في الدنيا والآخرة

عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنهما- أنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: «من حفر بئرَ ماءٍ، لم يشرب منه كبد حرَّى من جنٍّ ولا إنسٍ ولا طائرٍ إلا آجرَه الله يوم القيامة»، ولا شكّ أنّ الآبار الوقفيّة التي يحفرها الإنسان في أماكن اشتدّت فيها حاجة النّاس إلى الماء، من أعظم ما يعود عليه بالأجر والثواب العظيم يوم القيامة.

الوقف يُضاعَف لصاحبه

عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري - رضي الله عنه - قال: جاء رجل بناقة مخطومة، فقال: هذه في سبيل الله. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «لك بها، يوم القيامة سبعمائة ناقة كلها مخطومة»، هذه الفضيلةُ موافقةٌ تماماً لما جاء في القرآن الكريم: {مَثَلُ الذينَ يُنْفِقُونَ أموالَهُمْ في سبيلِ اللهِ كمثلِ حبّةٍ أنبتت سبع سنابلَ في كلّ سنبلةٍ مائةُ حبّةٍ} (البقرة: 261)، والحديثُ يحتملُ أن يكون معناه الإشارة إلى هذه المضاعفة، ويحتملُ أن يكون على ظاهره، أي: تكون له سبعمائة ناقةٍ مخطومةٍ في الجنّة على الحقيقةِ يركبها ويتنقّل عليها ويسعَدُ بها، بل قولُه -عليه الصلاة والسلام-: «كلُّها مخطومةٌ» فيه ترجيحٌ لإرادةِ الحقيقةِ، والله أعلم.

الوقف أفضل الصّدقات

عن أبي أمامة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: «أفضل الصدقات ظلُّ فسطاط في سبيل الله -عز وجل-، أو منحة خادم في سبيل الله، أو طروقة فحل في سبيل الله»، هذا الحديثُ فيه تفصيلٌ لبعض أبواب الصدقةِ التي يستحسن أن يراعيها المؤمنون، وهي يجري في معنى حديث الخصال السبع التي يجري أجرها على العبد بعد مماته في لفت النّظر إلى مجالات أخرى للصدقة والوقف، تمسّ الحاجة إليها أيضاً، بل قد تكون لها الأفضليّة عند التزاحُم.


الوقف أثر باق في سبيل الله

عن أبي أمامة - رضي الله عنه -، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: «ليس شيء أحبَّ إلى الله من قطرتين وأثرين: قطرة من دموع في خشية الله، وقطرة دم تهراق في سبيل الله، وأما الأثران فأثر في سبيل الله، وأثر في فريضة من فرائض الله»، فما أجمل أن يترك المسلم المتصدق أثراً له بعد موته، ينفع به نفسه والمسلمين في حياته وبعد مماته، ويرتحل إلى مولاه وقد خلف وراء ظهره من الحسنات الباقيات ما يدَّخِرُه ليوم الحساب.

ولا شكَّ أنَّ من الآثار الحميدة التي يتركها ابن آدم، وتضيء بها سجلاته، تلك الأوقاف التي أوقفها، يرجو بها ثواب الله، ويخشى عقابه، ويعمل لتستمر حسناته إلى ما بعد مماته، وتلك الآثار من هدي النبي محمد - صلى الله عليه وسلم - وترغيبه بالصدقة والوقف، وقد استجاب لها آل بيته الكرام وصحابته الأخيار -رضي الله عنهم- جميعاً.









__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.52 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.90 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]