
03-12-2021, 03:31 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,047
الدولة :
|
|
رد: الكفاية اللغوية والأداء اللغوي بين ابن جني وتشومسكي
ويقول عمَّا يمكننا التعبير عنه بالكفاية اللغوية: "... طرد أحكامه بخواطرهم ومواد حكمهم على عمله، وترتيبه وقسمة أنحائه، وتقديمهم أصوله وإتباعهم إياها فروعه، وكذا ينبغي أن يعتقد ذلك منهم لما نذكره آنفا، فهو مفخرٌ لهم ومعلمٌ من معالم السداد؛ دلَّ على فضيلتهم".[26] وليس أدلُّ على هذا الطبع المُتأصِّل (الكفاية اللغوية) ونبذ الّلفظ المُستوحش الغريب من سؤال ابن جّني لأبي عبد الله محمد بن العسَّاف العقيلي الجوثي التَّميمي، فقال له: " يا أبا عبد الله، كيف تقول ضربتُ أخاك؟ فقال: كذاك. فقلت: أتقول: ضربت أخوك؟ فقال: لا أقول (أخوك) أبدًا. فقلت كيف تقول: ضربني أخوك؟ فقال: كذاك. فقلت: ألست زعمت أّنك لا تقول أخوك أبدًا؟ فقال: إيش ذا! اختلفت جهتا الكلام. فهل هذا إلا أدل شيء على تأملهم مواقع الكلام، وإعطائهم إياه في كل موضع حّقه، وحصته من الإعراب عن مِيزة وعلى بصيرة، وأنَّه ليس استرسالاً ولا ترجيمًا "[27].
ويقول عمَّا يمكننا أنَّ نعتبره ذا صلة بالأداء اللغوي: " والذي يدلُّ على أنَّهم قد أحسُّوا ما أحسسنا، وأرادوا وقصدوا ما نسبنا إليهم إرادته، وقصده شيئان: أحدهما: حاضر معنا، والآخر: غائب عنَّا إلا أنَّه مع أدنى تأمُّل في حكم الحاضر معنا ، فالغائب ما كانت الجماعة من علمائنا تشاهده من أحوال العرب ووجوهها، وتضطر إلى معرفته من أغراضها وقصودها من استخفافها شيئا أواستثقاله وتقبله أو إنكاره، والأنس به أو الاستيحاش منه والرِّضا به أو التَّعجب من قائله، وغير ذلك من الأحوال الشَّاهدة بالقصود بل الحالفة على ما في النفوس".[28] ويقول: " وكذلك لو نصبت الفاعل، ورفعت المفعول، أوألغيت العوامل من الجوارّ والنواصب والجوازم، لكنت مقتدراً على النُّطق بذلك؛ وإن نف-ى القياسُ تلك الحال"[29].
ويقول: "واقتضت الصورة رفض البعض واستعمال الخصائص البعض، وكانت الأصول ومواد الكلم معرضة لهم، وعارضة أنفسها على تخيرهم، جرت لذلك عندهم مجرى مالٍ مُلْقَى بين يدىّ صاحبه، وقد أجمع إنفاق بعضه دون بعضه، فميَّز رديئه وزائفه فنفاه البتة، كما نفوا عنهم تركيب ما قبح تأليفه ثم ضرب بيده إلى ما أطف له من عرض جيده، فتناوله للحاجة إليه، وترك البعض؛ لأنَّه لم يرد استيعاب جميع ما بين يديه".[30]
وفي (باب في أنَّ العرب قد أرادت من العلل والأغراض ما نسبناه إليها وحملناه عليها) يقول: "اعلم أن هذا موضع في تثبيته وتمكينه منفعة ظاهرة، وللنفس به مسكة وعصمة؛ لأنَّ فيه تصحيحَ ما ندَّعيه على العرب، من أنَّها أرادت كذا لكذا، وفعلت كذا لكذا، وهو أحزم لها وأجمل بها، وأدلُّ على الحكمة المنسوبة إليها من أن تكون تكلَّفت ما تكلَّفته من استمرارها على وتيرة واحدة، وتقريها منهجًا واحدًا تُراعيه ".[31] ويتأكَّد لدينا اهتمام ابن جني بالقدرة اللغوية واالكفاءة والأداء اللغوي لدي العرب، حيث يقول: " فالتَّأتي والتَّلطف في جميع هذه الأشياء، وضمها وملاءمة ذات بينها، هو خاص اللغة وسرها، وطلاوتها الرائقة وجوهرها "[32].
وممَّا سبق يتَّضح لنا أنَّ بعض آراء ابن جني تتوافق مع المنهج الوظيفي لدى الغرب، كما أنَّه يتشابه مع ما سُمِّى فيما بعد (الكفايَة النّفسيّة، والكفاية التّداوليّة، والكِفايَة التّواصليّة)، وهي قواعد الاستعمالِ أومُطابَقَة اللّفظِ للمقامِ، وهذا يتوافق مع التداولية، فالتداولية (علم الاستعمال اللغوي) تمثل حلقة وصل بين هامَّة بين حقول معرفية عديدة: معرفة لسانية (تقتضي معرفة الدلالات والمعاني)، ومعرفة لغوية (تقتضي امتلاك المتكلم لقواعد لغته)، ومعرفة خطابية (تقتضي أن يملك قواعد إنتاج الخطاب)، وكل منها تقتضي الأخرى.
وبعد، فقد عرضنا في هذا الفصل في مبحثه الأول لدراسة ابن جني لكثيرٍ من الأمور التي تتعلَّق بالبنية السطحية والبنية العميقة، وذكرنا مظاهر كثيرة موجودة في الخصائص تؤكِّد سبق ابن جني وريادته في هذه المسألة، وعرضنا في المبحث الثاني الوسائل التي يمكن للمتكلم عن طريقها بتحويل البنية العميقة إلى البنية السطحية، وعرفنا أنَّ ابن جنى درس وسائل أكثر ممَّا ورد عند البنيويين التحويليين الجُدد، وفي المبحث الثالث سقنا النصوص التي تؤكد على أنَّ ابن جني قد تعرَّض لدراسة ما سماه شومسكي فيما بعد (الكفاية اللغوية والأداء اللغوي). وأهمّ فرق - إذًا - يميز آراء ابن جني عن اللسانيات البنيوية الغربية؛ هو منهج تحديد الوحدات، إذ يسلط الغربيون البينويون على الخطاب أداة التَّقطيع لاستخراج الوحدات. ويلجأ التَّوليديون إلى التَّحويل لأجل تدارك نقائص التَّحليل إلى المكونات المباشرة، وتفسير الغموض النَّاجم عن بعض التراكيب؛ كالتركيب المبن-ي للمجهول. وأمَّا النحاة العرب - ومنهم ابن جني - فإنَّهم ينطلقون من هذه التَّحويلات لأجل تحديد الوحدات، حيث يحملون القطع القابلة للانفراد أي للابتداء والانفصال بعضها على بعض، فتنعكس التَّبعية، ويدرك التَّابع من المتبوع، وتنجلي المواضع التي تختصُّ بها كل وحدة. ومجموع هذه المواقع يكوّن المثال أو الحد".[33]
وقد اعترف بعض المُنصفين بسبق اللغويين العرب - ومنهم ابن جني - ومن هؤلاء ديفد بترسون، وتعدُّ أبحاثه من أوائل الأبحاث الحديثة المتأثرة بالفكر اللساني لتشومسكي حيث كتب مقالاً بعنوان (بعض الوسائل التفسيرية عند النحويين العرب) [34]يُناقش فيه لجوء النحويين العرب إلى التأويل والتجريد، ويختمه بقوله: يجب أن يكون واضحًا من النِّقاش الذي تقدَّم؛ أنَّ النحويين العرب لم يكونوا وصفيين لا يهتمون إلا بالظَّاهر في أية حال. بل هم بنيويون بالمعنى نفسه الذي يصنَّف به أكثر الدرس اللساني في القرن العشرين، ومن ضِمنه النحو التوليدي التحويلي بأنَّه بنيوي - لقد كان النحويون العرب مُهتمِّين بالتَّحليل البنيوي الذي يصل الأشكال بعضها ببعض، وذلك ما يؤدي إلى تفسيرها. وم-ن اللافت للنظر أن تك-ون بعض تحليلاتهم مُجرَّدة، ومصوغ-ة بمصطلحات تُشبه ما يستعمله اللِّسانيون اليوم[35].
[1] ينظر: نعوم تشومكي، جوانب من نظرية النحو، ص28، و دوجلاس بروان، أسس تعلم اللغة وتعليمها، ترجمة: عبده الراجحي وعلي شعبان، بيروت، ط دار النهضة العربية، 1994م ص244، وعبد القادر الفاسي الفهري، اللسانيات واللغة العربية، 1/43، نهاد الموسى، الأساليب في تعليم اللغة العربية، ط1، عمان، دار الشروق، 2003م ص123.
[2] دوسوسير، فصول في علم اللغة العام، ترجمة: أحمد نعيم الكراعين، ط1، الإسكندرية، مصر، دار المعرفة الجامعية، 1985م ص37.
[3] ينظر: خالد بسندي، مصطلح الكفاية وتداخل المفهوم في اللسانيات التطبيقية، عمان، المجلة الأردنية في اللغة العربية وآدابها، المجلد5 العدد1، محرم1430هـ/كانون الثاني 2009م، ص53-55.
[4] محمد سليمان العبد، النص والخطاب والاتصال، ط1، القاهرة، الأكاديمية الحديثة للكتاب الجامعي، 2005م، ص16.
[5] نعوم تشومسكي، جوانب من نظرية النحو، ص28.
[6] المرجع السابق ص28.
[7] المرجع السابق ص28.
[8] المرجع السابق ص39.
[9] ميشال زكريا، العقل واللغة في النظرية الألسنية التوليدية التحويلية، مجلة الثقافة النفسية، العدد التاسع، المجلد الثالث، 1992م، ص39.
[10] محمد سليمان العبد، النص والخطاب والاتصال، ص16.
[11] المرجع السابق، ص23.
[12] المرجع السابق، ص27.
[13] زكريا، ميشال، العقل واللغة في النظرية الألسنية التوليدية التحويلية، ص157.
[14] المرجع السابق ص157.
[15] جودث جرين، التفكير واللغة، ترجمة: عبد الرحمن عبد العزيز العبدان، الرياض، ط دار عالم الكتب، 1990م، ص 146،154، 213.
[16] ينظر: أهم آراء المدرسة التوليدية التحويلية في المبحث الثالث من الفصل الأول.
[17] ينظر: نعوم شومسكي، جوانب من نظرية النحو، ترجمة: مرتضى جواد باقر، البصرة، 1985م، ص 27،33، 165، وينظر: محمد علي الخولي، قواعد تحويلية للغة العربية، ص111 وما بعدها.
[18] الخصائص 3/269.
[19] المرجع السابق 1/237- 238.
[20] المرجع السابق 1/237- 238.
[21] المرجع السابق 3/112.
[22] المرجع السابق 2/66.
[23] الخصائص 1/53. وينظر: الكتاب 1/32.
[24] الخصائص 3/328-329.
[25] المرجع السابق 3/319.
[26] المرجع السابق 1/244-245.
[27] المرجع السابق 1/76.
[28] المرجع السابق 1/245.
[29] المرجع السابق 1/145.
[30] المرجع السابق 1/64 -65.
[31] المرجع السابق 1/237.
[32] المرجع السابق 2/125.
[33] حاج صالح عبد الرحمن: المدرسة الخليلية ومشاكل علاج العربية، ص 245.بتصرف.
[34] وهو بحثٌ ألقاه في الندوة السنوية لجمعية اللسانيات بشيكاغوا، سنة 1972م، وينظر: حمزة المزيني، مراجعات لسانية، الجزء الأول. كتاب الرياض العدد79 1421ه-، وفؤاد بو علي، مكانة اللغة العربية في الدراسات اللسانية المعاصرة، عمان، مجلة مجمع اللغة العربية الأردني، العدد 53 السنة الحادية والعشرون، ذو القعدة 1417هـ، ربيع الآخر 1418هـ، ص11- 63. وينظر:
- David Peterson "Some Explanatory Methods of the Arab Grammarians"، in Paul M. Peranteau، Judith N. Levi، and Gloria C. Phrase eds. Papers from the 8thRegional
Meeting of Chicago Linguistic Society، 1972، 502 - 515
[35] - David Peterson، "Some Explanatory.." P 513.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|