وصلاة الاستسقاء سنة مؤكدة؛ إظهارًا لفقر العباد إلى الله تعالى مولاهم الحق سبحانه، وذلك حين يخرجون، ومنه فلا يرجعهم ربهم صفرًا، أو هكذا حسهم، وهكذا ظنهم الحسن بربهم، وهذا هو عقدهم فيه تعالى، يجيب مضطرًّا، ويجبر منكسرًا، ويغيث ملهوفًا، وينمي حاجة محتاج، ويشفي مريضًا، ويغني عائلًا، ويهدي ضالًّا، ويأوي يتيمًا سبحانه.
وصلاة الاستسقاء ركعتان جهريتان بسورتي الفاتحة والأعلى في الأولى، والغاشية بعد الفاتحة في الثانية.
وصلاة الاستسقاء بغير أذان ولا إقامة، وإنما ينادى لها بالصلاة جامعة، كما أنه لا يشترط الأذان لخطبتها.
وصلاة الاستسقاء كصلاة العيد، فيكبَّر سبعًا في الركعة الأولى، وخمسًا في الثانية.
ويخطب الإمام في الناس، ويندب تحويل ردائه، والمصلون معه، مع رفع اليدين إظهارًا لمطلق الخضوع، وإخباتًا بداعية التذلل والخشوع، لله تعالى مولاهم الحق المبين.
وهذه خمسة آداب لرسولنا صلى الله عليه وسلم مع ربه سبحانه، وقد كان حريًّا أن نقتديها، وقد كان مليًّا أن نتأملها، وهي: "قد أرسلني أميرٌ من الأُمراءِ إلى ابنِ عباسٍ أسأَلُهُ عن الصلاةِ في الاستسقاءِ فقال ابنُ عباسٍ: ما منعَه أن يَسألَني؟ خرج النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ متواضعًا مُتَبَذِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا فصلَّى ركعتينِ، كما يُصلِّي في العيدِ، لم يَخطبْ خطبتَكم هذه[6].
ومنه فإن هذه موجبات من موجبات تترى؛ لتدلك على صدق العبد حين اللجأ إلى الله تعالى.
فإن خروجه صلى الله عليه وسلم على هذه الهيئات الخمسة من ضعة ماشيًا بلا جمهرة، فلربما فتنت عبدًا، ولا لأمة حرب، ولا سيف قتال، فلربما أورثت وضعًا توجبه ساحات القتال؛ نكاية من عدو، وإذ كان منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي دجانة: إنها لمشية يبغضها الله عز وجل إلا في مثل هذا الموضع[7]، والأمر ها هنا مع الله تعالى العلي الأعلى، ملتمسًا منه عونًا، ومستمطرًا من لدنه مطرًا!
ومن كونه متبذلًا دون تجمُّل بزي، وبغير تزين بلباس، ولأن الحين هو حين التضرع والفقر والاستكانة إلى مولاه.
ومن كونه متخشعًا ظاهرًا عليه الخشوع، باديًا عليه صلى الله عليه وسلم كله! هيئته، وحركته، ومشيته، وقلبه ولبه وفؤاده من قبل، وإذ لما كان القلب خاشعًا وبهذه المثابة، وهو القائد وبهذا الوضع، فلزِم منه أن يتبعه جنده من الجوارح والأعضاء، وضعًا، وحالة، ونتيجة، وموجبًا، وسببًا معًا، وهذا من جليل لطفه تعالى بعبيده أيضًا!
ومن كونه متخشعًا مترسِّلًا، مترسلًا يعني: في مشيه ما يسرع، وهذا ترسل أكثر مما كان يعتاده صلى الله عليه وسلم؛ دلالة على هَمٍّ يَحدوه صلى الله عليه وسلم، وهو إذ يروح واقفًا مخبتًا بين يدي ربه الرحمن الرحيم المتعال، وحاله ذلكم الذي أنف، متواضعًا مُتَبَذِّلًا مُتَخَشِّعًا مُتَرَسِّلًا مُتَضَرِّعًا.
ومن كونه متضرعًا، مُظهرًا حاجته إلى الله تعالى، ومبديًا فاقته وفقره إليه سبحانه.
وتضرع ليس يُعلمُ إلا خبرًا، وهو ما أخبر به الإمام الحبر الترجمان عبدالله بن عباس رضي الله تعالى عنهما، حين كان وصفه للرسول صلى الله عليه وسلم، وبهذه المثابة سالفة الذكر وآنفة البيان.
وظاهر حديث المسند الآنف الذكر أنه صلى الله عليه وسلم لم يخطب خطبتكم هذه، ومنه فإنه يحتمل أنه صلى الله عليه وسلم صلى صلاة الاستسقاء، ومن ثم لم يخطب، أو إنه - احتمالًا - قد خطب، وإنما على غير صورة خطبتكم، وحين تخطبون.
والاستسقاء بالرسول صلى الله عليه وسلم دليل جواز الاستسقاء بالفاضل الحيِّ، وكما أنف بيانه، وهذا يكشف عن معدن أولاء الصحابة الأخيار، ولما قد تربوا على علم منه صلى الله عليه وسلم، ولما قد صنع فيهم الخير على يديه، حتى صاروا به فاتحي أمم من بعده صلى الله عليه وسلم، فرضي الله تعالى عنهم، وحين قد صارت عقائدهم راسخة، ولا تسل عن رسوخ الجبال! وحتى أضحت قلوبهم عامرة بتوحيد ربهم صافيًا، ولا تسل عن صفاء السماء حين كان صيفٌ، لا يظن معه ولو رقعة من سحاب؛ ليعكر صفوها، أو يذهب بعض بريقها ولمعانها!
وأما الأموات فلا يجيبون أحدًا، وهذا ما جاء الإسلام به، وهو الذي كان عليه عمل الأولين من القرون الثلاثة المفضلة الأولى، وإلى يوم الدين، عملًا بنص القرآن كما قال تعالى: ﴿ إِن تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ ﴾ [فاطر: 14].
ونزولًا على تعليم ولد عدنان رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما هو الشأن الآن معنا، ولأنهم كانوا قد استقوا بالعباس، عم رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم، وقد كان حيًّا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ميتًا.
فعن ثمامة بن عبدالله بن أنس، عن أنس بن مالك، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه، كان إذا قحطوا استسقى بالعباس بن عبدالمطلب، فقال: اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنبينا فتسقينا، وإنا نتوسل إليك بعم نبينا فاسقنا، قال: فيسقون[8].
وانظر تواضع عمر، وحين قدم العباس عم نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وهو إذ كان خليفة وأمير المؤمنين، وراعي المسلمين، في مشارق الأرض ومغاربها، أمة قد سبقت! وجيلا قد تفرد!
وانظر إسناد العمل لمن يحسنه عملًا إداريًّا ممتازًا، وهو ذاك الذي تركه لنا أولاء الأولون المتقون المؤمنون، الحنفاء الاتقياء الأنقياء الفضلاء!
وانظر معرفة الفضل وأهله، وكيف كان من عمر الفاروق، وحين نعته نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، وحين لم يَصْبُ سواه إليها، وإن هو إلا الفضل، ولإحسان إلى هذا النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا، ومنه الإحسان إلى آل بيته، وجنبًا إلى جنب مع قولهم بتقديم الفاضل، وإن كان في النفس منها بقية، وحين قال نبينا صلى الله عليه وسلم لعمر مناديًا ومخاطبًا ومزكيًا وفاضلًا وتقيًّا نقيًّا رضي الله تعالى عنه: إنَّ الشَّيطانَ ليخافُ منكَ يا عمرُ[9].
وإذ كانت هذه مثابته، فأي فضل كان عليه! وأحسبه من باب إخفاء السريرة، وإمعانًا في وجل، وإمعانًا من خشية، وهو كذلكم إظهار لخفاء، وإخفاء لنقاء، ولأن الله تعالى يحب من عباده من كان تقياه خفيًّا نقيًّا سبحانه، ولقوله صلى الله عليه وسلم: إنَّ اللَّهَ يُحِبُّ العَبْدَ التَّقِيَّ، الغَنِيَّ، الخَفِيَّ[10].
وأؤكد مرة أخرى لمناسبة هذا الحديث أو غيره، وكما هو المنهج أبدًا في التذكير أن عقيدة صحيحة يتبعها عمل صالح، وتعلق قلب بمولاه، لقمن كل ذلك أن ينتج أثره من إجابة الدعاء، ومن غوث مستغيث بربه تعالى، ومولاه الملك الحق المبين سبحانه؛ لأنك رأيت أنهم ما برحوا حتى سقاهم الله عز وجل!
ومرة أخرى فهذا هو أمير المؤمنين الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه، وعلى فضله، يقدم العباس - رضي الله عنه - عم رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذلك لأنه ولما قد تواضع لمولاه؛ وإذ إن مولاه كان قد رفعه ووالاه.
وعلى ما سلف بيانه، فإنه لو كان الاستسقاء بالميت جائزًا، لقدم الفاروق عمر رضي الله تعالى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولأنه الأفضل، ومنه فإنه لا يجوز الاستسقاء بالميت، وحاله أنه لا يكشف ضرًّا، ولا يجلب نفعًا، لا عن نفسه التي بين جنبيه، فضلًا عن أن يكون عن غيره، ومن باب أَولى.
وصدق عبد في عبوديته موجب لاستمطار مِنَحِه تعالى وفضلِه، ويوم أن قدم بين يدي ربه، لاهثًا بالدعاء لداعية الاستسقاء، ولغير داعية الاستسقاء، ودلك عليه ما أنف.
وأزيد فأقول: ولأن تظاهر الاستدلال قمنٌ أن يجعل المسألة من باب اليقين وعينه، وليس وحسب من باب العلم وظنه، كما أنه يوجب التعلق بعتبات باب ربنا الرحمن ذي المنة والفضل والإنعام.
فعن أبي لبابة بن عبدالمنذر قال: استسقى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال أبو لبابة بن عبدالمنذر: إن التمر في المرابد يا رسول الله، فقال: اللهم اسقنا حتى يقوم أبو لبابة عريانًا ويسد مثقب مربده بإزاره، وما نرى في السماء سحابًا فأمطرت، فاجتمعوا إلى أبي لبابة فقالوا: إنها لن تقلع حتى تقوم عريانًا وتسد مثقب مربدك بإزارك، ففعل فأصحت[11].
فأخبر أنه لن يتوقف نزول المطر إلا أن تفعل، ففعل فتوقف نزوله! وذلك علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم، منضافًا إلى أعلام أخر ليس هذا باب بيانها.
وفيه إثارة المستقبِل؛ لأنه أمعن في البلاغ، بدلالة قيامهم كلهم إلى أبي لبابة، يحثونه على فعل ما أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والمربد: موضع يجفف فيه التمر، وثعلبه: ثقبه الذي يسيل منه ماء المطر[12].
وفيه أن مراعاة الإمام لمصالح الأمة معتبرة، بدلالة قوله صلى الله عليه وسلم: حتى تقوم عريانًا، وتسد مثقب مربدك بإزارك، ففعل فأصحت.
وفيه تلطف الإمام مع رعيته؛ كيما يكون قريبًا كل منهم إلى قلب الآخر، بدلالة قوله: حتى يقوم أبو لبابة عريانًا، وفيه إعمال لقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ ﴾ [التوبة:128].
والاستسقاء دعاء واستغفار، والاستسقاء يمكن أن يكون مع صلاة، أو بدونها، وبخطبة أو بدونها أيضًا، فعن عبدالله بن أبي بكر أنه سمع عباد بن تميم يحدِّث أباه عن عمه عبدالله بن زيد أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى المصلى، فاستسقى فاستقبل القبلة، وقلب رداءه، وصلى ركعتين، قال أبو عبدالله: كان ابن عيينة يقول: هو صاحب الأذان، ولكنه وهم؛ لأن هذا عبدالله بن زيد بن عاصم المازني مازن الأنصار[13].
وشاهد الحديث أنه صلى الله عليه وسلم استسقى أولًا، وهذا دعاء، ولم يصل ركعتين تاليًا، ومن دليل حديث أبي لبابة.
ومنه فإن الاستسقاء يمكن أن يكون مع صلاة، وشاهده أنه صلى الله عليه وسلم صلى ركعتين بعد دعائه، وكما من حديث الإمام البخاري رحمه الله تعالى عن عبدالله بن أبي بكر رضي الله تعالى عنهما.
وجواز الاستسقاء بغير خطبة، وشاهده من حديث الباب أنه صلى الله عليه وسلم استسقى، ثم صلى ركعتين، ولم يذكر الخطبة.
والاستسقاء يجوز أن يكون بغير صلاة، ولأنه صلى الله عليه وسلم "استسقى على منبر المدينة استسقاء مجردًا في غير يوم جمعة، ولم يُحفظ عنه في هذا الاستسقاء صلاة"[14].
وفيه عدم تأخير البيان عن وقت الحاجة، وشاهده قوله: على المنبر.
ويكون الاستسقاء حين حل وقته، ووقته إذا حل جدب أو جفاف، فعَن أبي أُمَامَة قَالَ: وعن أبي أمامة رضي الله عنه قال: قام رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ضحى فكبر ثلاث تكبيرات، ثم قال: اللهم اسقنا ثلاثًا اللهم ارزقنا سمنًا ولبنًا وشحمًا ولحمًا، وما نرى في السماء سحابًا، فثارت ريح وغبرة، ثم اجتمع سحاب فصبت السماء، فصاح أهل الأسواق وثاروا إلى سقائف المسجد وإلى بيوتهم، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم، فسألت الطريق ورأينا ذلك المطر على أطراف شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى كتفيه ومنكبيه كأنه الجمان، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم، وانصرفت أمشي على مشيه، وهو يقول هذا أحدثكم بربه، قال أبو أمامة: ما رأيت عامًا قط أكثر سمنًا ولبنًا وشحمًا ولحمًا، إن هو إلا في الطريق ما يكاد يشتريه أحد، ثم انصرف نحو الرجال، فوعظهم ونهاهم، ثم انصرف نحو النساء فوعظهنَّ، فشدَّد عليهنَّ في الحرير والذهب، فأقبل رجل من بني عامر، فقال: يا رسول الله، بلغنا أنك شددت في لبس الحرير والذهب، والذي بعثك بالحق، إني لأحب الجمال وإنما الكبر من جهل الحق، حتى من حبي الجمال جعلت حراز سوطي هذا من جلد نمر، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله جميل يحب الجمال، وإنما الكبر من جهل الحق وغمط الناس بعينه؛ رواه الطبراني في الكبير، وفيه عبيدالله بن زحر عن علي بن يزيد وكلاهما ضعيف[15].
[1] [السيرة النبوية - ابن هشام الحميري - ج 1/180و181].
[2] [صحيح مسلم، كتاب الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَالْآدَابِ، بَابُ تَحْرِيمِ الظُّلْمِ، حديث رقم: 4802].
[3] [صحيح البخاري، أبواب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث رقم: 978].
[4] شرح معاني الآثار، الطحاوي، الصفحة أو الرقم: 3 /320]، وقال المحدث الطحاوي رحمه الله تعالى: صحيح.
[5] [لسان العرب، ابن منظور: ج 7 /374].
[6] مسند أحمد: ج5 /115، وقال المحدث أحمد شاكر رحمه الله تعالى: إسناده صحيح.
[7] [التاريخ الكبير، البخاري:3/ 154].
[8] [صحيح البخاري، أبواب الاستسقاء، باب سؤال الناس الإمام الاستسقاء إذا قحطوا، حديث رقم: 978].
[9] [صحيح الترمذي، الألباني: 3690].
[10] [صحيح مسلم: 2965].
[11] [عمدة القاري، العيني: ج 7 / 36].
[12] [لسان العرب، ابن منظور: ج 1 /238]. و[النهاية في غريب الحديث، ابن الأثير: ج 1 /213].
[13] [صحيح البخاري، أبواب الاستسقاء، باب تحويل الرداء في الاستسقاء، حديث رقم: 980].
[14] [أوجز المسالك الى موطأ مالك 1: ج4 /95]. و[زاد المعاد في هدي خير العباد، الإمام شمس الدين ابن قيم الجوزية:143].
[15] [مجمع الزوائد، الهيثمي: ج 2 / 214].