عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 01-12-2021, 09:38 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,827
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مقام الحق تعبدا ووجودا

﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [الكهف: 28، 29].




أما في المنظور الإيماني: فإننا نقول بأن (الله) قد (خلق) السمواتِ والأرض (بالحق)، ووضع له (بحكمته) (سننًا ثابتة)، وفطَر الإنسان على (فطرة) تنتج له (مسلَّمات عقلية ضرورية)، ينطلق منها (عقل الإنسان) لاكتشاف (حقائق الأشياء).




وهذا تجلٍّ واضحٌ لقيمة الحق في هذا الوجود؛ إذ لا تقوم أصلًا حقيقةُ الوجود دونه، ابتداء من الخلق؛ فقد كان بالحق لغاية حكيمة، ما كان عبثًا ولا اعتباطًا، وانتهاء إلى الحال؛ في اندفاع الإنسان سعيًا خلف الحقيقة، ونبذ الأهواء.




الحق هو الله:

والآن، نعود لسياق اسم الله تعالى، لنتحدث عن مقتضاه التعبُّدي، بعد أن أتممنا مفهومه الوجودي. فمفهوم اسم الله الحق: الذي لا شك فيه ولا ريب، لا في ذاته، ولا في أسمائه، ولا في صفاته[2].




وكما اعتدنا في أسماء الله الحسنى، أننا نرى انعكاس الاسم على القضيتين؛ الربوبية والألوهية.




فمن ناحية الربوبية؛ فإن الله تعالى هو الموجد الحقُّ، وهو الخالق الحق، وهو الرازق الحق، إلى ما تناهى من صفات كماله تعالى التي يربِّي بها مخلوقاته، فلا ريب في ذلك ولا شكَّ؛ لا في وجوده، ولا في اتصافه بما يليق بذلك المقام.




أما من ناحية الألوهية؛ فقيمة الحق في ذلك هي أن الله هو الإله الحقُّ المستحق للعبودية، وما دونه باطلٌ لا يستحقها؛ ففعل التأليه من العبد إن كان لله عز وجل فهو إحقاقٌ للحق، وإقامة له في نفسه، وإنْ ألَّهَ غيرَه فلم يُحِقَّ حقًّا، وإنما قد ضل ضلالا بعيدًا[3]. والألوهية كما نعلم تقتضي السلطان المطلق؛ سلطانًا في الحكم والمال والنفوس والضمائر؛ حتى نصل إلى سلطان التشريع!.




وقيمة الحق تتجلى في هذه النقطة كالقمر ليلة البدر؛ وذلك لنقص الإنسان الوجدانيِّ والعقلي على حد سواء، وسأحكي لكم مثالًا ثم أعقب:

(قتَل ظلوم نفسًا معصومة، ووقف منصوبًا ينتظر حكمه عند هيئة قضائية، والهيئة مكونة من ثلاثة أعضاء: القاضي جميل، والقاضي كظيم، والقاضي حازم.




وفي صدد تحديد العقوبة اللائقة به، ينظر القاضي جميل للقاتل بامتهان، ويقول: "لن تكون الإنسانية مثله، نحن الإنسان، والإنسان جميل، لن نقابل القبح بالقبح؛ حتى لا يتسلل إلينا، وأقول بالسجن".




يعتدل القاضي كظيم، ويرد: "له مثل ما فعل، وهذا العدل، ولو تركناه اغترَّ الشرُّ واستفحل".




فينظر لهما القاضي حازم بعين الحصافة، ويضع قولًا يراه هو الأصل والفصل: "لا أرى فيك يا جميل إلا السذاجة، وأنت يا كظيم نلت الصواب، لكنك قصير النظر، الردع لا يكون بالمثل، الردع بالمخيف أيًّا ما كان المثل، أقول: لنصلِبْه، ولنُقطِّع أطرافه من خلاف، ثم نُحرقه، هذا أردع وأجدى في نفس الشر").




القصة تلك مجردة عن المرجعية الإلهية أو غيرها، وفي تلك الحال لن يجتمع القراء على رأي، كما لم يجتمع القضاة على رأي. هذا مرجعه للنفس الإنسانية؛ لا تعرف مجردةً قيمةَ العدل، ولا تصل أبدًا للحق الذي يقول الكلُّ عليه أنه حق!

فالناسُ شَتَّى كلهم فكَرٌ *** ولكلِّ فكْرٍ قد نرى سببَا[4]



بل إن الإنسان الواحد، يبيت برأي وبنفسية، فيستيقظ على رأي آخر، وحال آخر. وأفكارُ الفرد تتبدل كلَّ يوم عن أمس، ومداركه تتسع، وتتغير نظرته؛ يحسب نفسه وقتًا قد اتكأ على قرار، فتأتي أحداثٌ تجعل متكأَه هباء وغبارًا.




فعلى ذلك هل يليق أن يكون عقلُ هذا الإنسان وفكرُه مصدرًا للتشريع المطلق، الذي يخضع له كلُّ إنسان وحيوان؟ ما الذي يُلزِم حازمًا برأي جميل؟ وما الذي يُلزم جميلًا برأي كظيم؟ بل ومن يضمن أن حازمًا يبيت الليلة، فلا يطل علينا في الصباح الباكر بزيِّ رحيم، فيعاتبه جميل على رقته؟




لا يليق، ولا يكون، ولا وصول لأصل الحقيقة بين أفكار البشر؛ إلا فيما كان من الضروريات العقلية، التي لا تحتاج إلى فكر ولا دليل. ولا وصول لحقيقة التشريع من بنات نفس الأفكار؛ لذلك مصدر الحقيقة معلومٌ، خارج عن أرض البشر، وفكر البشر، وأهواء البشر، فالحقُّ مصدر الحق، والحق هو من يشرِّع الحق! وما دون الحق باطل، ليُحِقَّ الله الحق، ويُبطِل الباطل.




وتخيَّلوا لو انقضى الأمر إلى البشر يسنُّون ويشرِّعون، والمرجعية الأهواء والمصالح الفردية، هل كان من سبيل للاطمئنان ولو لقرار واحد؟ خرج من يسنون القوانين باسم الإنسانية، والإنسانية منهم براء، فهم أفراد، والناس كثر، والآراء لا تنتهي، وفرض رأيٍ على رأي يقتضي مرجعية ثابتة مطلقة، فما هي مرجعيتهم؟




ثم كيف تضمن نتيجة أيِّ رأيٍ من هذه الآراء في الحكم؟ نتيجةُ صلب القاتل غير مضمونة، ونتيجةُ سجنه كذلك مبهمة؛ علمُ الإنسان لا يتكاشف على ما في العواقب. أوَلم نرَ مثلًا كيف أدى تطور العلم التجريبي إلى نتيجتين: زيادةٌ في الأشلاء، ويسرٌ في الحياة؟ فكيف نقول بيقين: إن العلم التجريبي جيد، ويستحق استتباع التطور؟ بل من يستطيع بدايةً أن يجزم بأن زيادة الأشلاء ضرر، وأن تيسُّر الحياة منفعة؟! الأهواء متفرقة، والأفهام متشعبة، والآراء نسبية يا أستاذ! وذلك من نقيصة علم الإنسان عمومًا؛ فإن الاستنتاج الصحيح يقتضي إدراكًا تامًّا صحيحًا، ومدارك الإنسان هي حواسه وعقله، ومعلومٌ أنهما يعملان في حيز وحدود؛ فالسّمع لا يدرك كلَّ المسموعات، والعين لا ترى سوى بعض أمواج الطيف، والعقل لا يتجاوز إلى غير المحدود! وملابسات قضية تشريعية لا تخلو عن حاجةٍ لعلمٍ شامل، وإدراك كامل بجوانب الأمور، والإنسان قاصرٌ أبدًا عن ذلك؛ لذلك كان التشريع خارجًا عن إطار البشر وعقولهم؛ ليصل بهم إلى مصلحتهم المطلقة، التي لو اجتمعت عقول البشر من أول الخليقة لآخرها، لما استطاعوا الجزمَ به، ولا الجزم بعواقب آرائهم وأحكامهم.




﴿ وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ [المؤمنون: 71].







والناس شتى - صحّ ما قلتِ -

فأَسَدّهم من جانب الكَذِبا


وشدا يقينًا صادقًا أبدًا:

(رأْيُ الورى لنسيبه انْتَسَبا


لم يتصل بذؤابة أزلًا!

بهوى البريَّة آلف العَطَبا)


آراؤنا ليست ثوابتنا

"كان المناقبُ بيننا نِسَبا"


آراؤنا أخيارها خطلٌ

قد سُمِّيت "بشريةً" أدبَا


والحقُّ منفردٌ بعزته

وجلالُه القدْسيُّ قد عَذُبا


لا حق دون الواحد الأحد

لولا الإلهُ لبادَ واحتجبا[5]






وإن اسم الله تعالى الحق، قد اقترن باسمه المبين، وهو في موضع واحد؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ [النور: 25].




ووصف كذلك طريق الإيمان بالحقِّ المبين؛ ﴿ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ [النمل: 79].




ومعناه في الكتب نقرؤه على نور بعد ذلك الشرح المستفيض.




فالمبين: هو المبيِّنُ لعباده سُبَلَ الرشاد، الموضِّح لهم الأعمال الصالحة التي يصلُح بها شأنُهم في الدنيا والآخرة على حد سواء، ويبيِّن لهم الأعمال الحسنة التي ينالون عليها الثواب، والأعمال السيئة التي ينالون عليها العقاب. وكذلك البيِّنُ في أمر وحدانيته ربًّا وإلهًا، إيجادًا وتصريفًا، تقديرًا وتشريعًا[6].




والإيمان كذلك هو السبيل الواضح السلامة، الذي لا ريب في أمره ومآله، فالحمد لله أنْ هدانا إليه، ونسأله الثبات عليه.




وبهذا.. تجلَّتْ كفَلَقِ الصبح الآن قيمةُ الحق، في الوجود كله، ثم في الإسلام. فلولا الله، لما قامت حقيقة، وما اتزنت حياة. وإن مقتضى ذلك في نفس المؤمن العارفِ بالله، ألا يداهن في الحق، وألا يخاف في الله لومة لائم، فالوجود كلُّه مردُّه للحق، وعليه بدأ، وبه قام. ومن كلام الرافعي رحمه الله: ما ارتفعت المآذن إلا ليعتاد المسلمون رفعَ الصوت في الحق.




هذا، وقد وصلنا بكم إلى ختام الكلام، والأمر كما تحقق! ألا كلُّ شيءٍ ما خلا اللهَ باطلُ.




فكل شيء معدومٌ دون الله، ولا يقوم شيء بغير الله، والقصد إنما يكون لله؛ ﴿ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص: 88].





[1] اسم الله الحق، للشيخ المهندس فوزي السعيد رحمه الله، وهو كتيب لتفريغ أحد دروسه ضمن سلسلة أسماء الله الحسنى.




[2] فقه أسماء الله الحسنى، لعبدالمحسن البدر، وهو كتاب متوسط لتفريغِ دروس أسماء الله الحسنى، بإذاعة القرآن الكريم بالمملكة العربية السعودية.



[3] للاطلاع على مفهوم التأْليه بإمعان، يمكن العودة لمقالةٍ قصيرة بعنوان "ساعات في فيء الشهادة"، لكاتب هذا المقال.

رابط المقالة:

https://m.facebook.com/story.php?story_fbid=223539578868278&id=100036367124457




[4] البيت من قصيدة "سريرة الصبية" لكاتب المقالة. رابط القصيدة:


https://thamrolawkat.blogspot.com/2019/09/blog-post.html




[5] الأبيات من نفس القصيدة.




[6] فقه أسماء الله الحسنى، وسبق التعريف به.












__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 28.88 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 28.25 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.17%)]