عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 27-11-2021, 04:04 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,430
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين

تعريف الشعر بين القدماء والمحدثين


د. إبراهيم عوض



وهي تدور حول ما يُكنُّه الشاعر لمعشوقته من حبٍّ مُتدلهٍ، لا يجد ما يطفئ أُوامه؛ لأن عزة ليست دانية منه، ولا مجازيته حبًّا بحبٍّ، ومن هنا كان هذا البكاء وذلك اليأس، ومن هنا أيضًا كانت تلك الأُمنية العجيبة التي لم أسمع بمثلها، وهي أن يشلَّ الله رِجله حين يزور عزة، ويُضِل كذلك ناقته إلى الأبد؛ كي يظل قريبًا من معشوقته لا يُفارقها، إلا أنه يتوقَّع رغم هذا أنه متى أذِن الله بتحقيق هذه الأُمنية أن تملَّ عزةُ بقاءَه عندها، وكما نرى فهو حائر بائر لهفان ظمآن؛ فمرَّة يَذِلُّ لحبيبته، ومرة يتظاهر بأنه عزيز الجانب، وأنه قادر على مبادلتها هِجرانًا بهِجْران، ومرة يُبيح عِرْضه لها تنال منه ما تشاء؛ حتى يسكت عنها زوجها الغيران، ومرة يأخذه الغضب، فيُهدد ويرغي ويُزبد، ولكن دون فائدة أو عائدة، ومرة يَصرخ بأنه لم يحبَّ ولن يحبَّ أحدًا سواها، ومرة يُعلن أنه قادر تمام القدرة على سَلْوها ونسيانها، فهذه هي الفكرة التي تدور حولها القصيدة، وهذا هو الشعور الذي يُسربلها، وهناك أيضًا الصور المختلفة التي لجأ إليها الشاعر للتعبير عن هذا المعنى أو ذلك الشعور؛ من استعارة، وتشبيه، وكناية، وهي صورٌ تدل على الحَيْرة التامة واليأس المبين، والعجز الفادح من جانبه، والاستعصاء والتباعد، والنفور والقسوة من جانبها، والطريف أنه - بعد كل تلك الحيرة والضلالة، والتولُّه والتدلُّه، والعجز التام عن النسيان والهِجران رغم الطنطنات والقعقعات - يعود في نهاية القصيدة، فيقول: إنه إذا كان قد هجرَها وتولَّى عنها - وكأنه قد هجرها وتركها فعلاً - فلقد كان ذلك بسببٍ من عِزَّةِ نفسِهِ، ونفوره من التعلق بمن لا تجيب له نداءً، أو تعطف عليه بكلمة أو نظرة.

وهناك الصياغة اللغوية التي حملها وجداناته ومعانيه، من اجتباء ألفاظ بعينها تُعبر عن العجز والإحباط، والضيق والغيظ والوَلَهِ، ومن تقديم وتأخير، وحذف وذِكرٍ، ووصْل وفصلٍ، وحقيقة ومجاز، ومن بعض ألوان البديع كالسجع والطباق، ومن وزنٍ وقافية، فبالنسبة للألفاظ نلاحظ مثلاً: تَكرار اسم "عَزة" عددًا من المرات غير قليل، ودعنا من ذكرها مُضمرة، فهو موجود في كل بيت من أبيات القصيدة، وهذا وذاك يدلان على استيلائها على نفسه كل الاستيلاء، وعلى أنه لا يرى ولا يسمع إلا إياها، ولا يفكِّر إلا فيها، فكأن الدنيا قد خلَتْ من كل أحدٍ، ولم يَبْقَ إلا هي، ومن الصياغة اللغوية أيضًا ذلك التكثيف في العبارة؛ كقوله مثلاً دون أية مقدمات: "خليلي، هذا رَسْمُ عَزَّة..." بدلاً من أن يقول أولاً: إنه بينما كان راكبًا هو ورفيقان له في الصحراء، قريبًا من المكان الذي كانت قبيلة حبيبته عزة نازلةً فيه قبل أسابيع، وجدواأنفسهم فجأة أمام أطلالها، فاستوقفهما وطلَب منهما أن ينظرا إلامَ رحلَت؟ وأين حطَّت رحالها هي وأهلها؟.. إلخ.

وقِس على ذلك كثيرًا من الأبيات الأخرى التي تكتفي بذكر أقل القليل، وتترك للقارئ منادحَ الخيال يَهيم فيها كيف يشاء؛ لتكملةِ ما غادَره الشاعر دون ذِكرٍ أو توضيح.

ومن البيِّن الجلي أن الشاعر إما قد أفرغ كل فكرته في بيت مستقل كما في البيت الأول مثلاً، وإما قد انتهى على الأقل من قطعة كاملة أو جزء أساسي من تلك الفكرة كما هو الحال في قوله:
فإن تكن العُتبى فأهلاً ومرحبًا
وحقَّت لها العُتبى لدينا وقلَّتِ

وإن تكن ِالأخرى فإن وراءَنا
مَنادِحَ لو سارَت بها العِيسُ كلَّتِ


أو قوله:
وإني وتَهْيامي بعزَّةَ بعدما
تخلَّيتُ مما بيْننا وتخلَّتِ

لكالمُرتَجي ظلَّ الغَمامة كلَّما
تبوَّأ منها للمَقيل اضْمَحَلَّتِ


ففي الشاهد الأول نجد كلاًّ من البيتين يستقل بقطعة كاملة من الفكرة؛ إذ إن الشاعر يتحدث عن افتراضين، مختصًا كل بيت منها بواحد من ذينك الافتراضين، رغم أن البيتين في الواقع إنما يُشكِّلان معًا جملة واحدة لا جملتين اثنتين، أما في الشاهد الأخير، فنرى البيت الأول يستقل بالمبتدأ ومتعلقاته، على حين يستقل الثاني بالخبر وما يرتبط به، ولنلاحظ أن توزيع جزأي الجملة على البيتين بهذه الطريقة، ما كان ليصلح لو لم يَطُلْ كل من المبتدأ والخبر بفضل متعلقاته إلى الحد الذي يظنُّ فيه القارئ غيرُ المتنبه أنَّه يُكوِّن جملة كاملة، ولو كانت الجملة بسيطة؛ مثل: قولنا: "إنني لكالمرتجي ظل الغمامة"، لَمَا أمكن الفصل بين عنصريها هكذا، بحيث يكون أحدهما في بيت، والآخر في بيت تالٍٍ.

كما أن للوزن والقافية مدخلاً في اختيار الشاعر للكلمات والصيغ؛ كما في استعماله صيغة "تَهيام" بدلاً من "هيام"، و"الواشون" بدلاً "الوشاة"، و"المرتجي" بدلاً من "الراجي"، و"المقيل" بدلاً من "القيلولة"، ونون التوكيد الخفيفة في "فلا يبعدنْ" بدلاً من تشديدها، وكلمة "اضْمَحلَّت" بدلاً من "تقلصت"، "تخلَّى" بدلاً من "ترك"، و"الجوى" بدلاً من "الهيام"، وكذلك في إيثاره تركيبًا نحويًّا على تركيب غيره؛ مثل قوله:
فيا عجبًا للقلب كيف اعترافُه
وللنَّفس لَمَّا وُطِّنَت كيف ذلَّتِ


عِوضًا عن أن يقول مثلاً: "ويا عجبًا للنفس كيف ذلَّت بعد توطينها".

وقوله: "ما قاربت إلا تباعَدت" عوضًا عن تركيب آخر؛ مثل: "ما قارَبت إلا لتتباعدوقوله:
خَليليَّ، إن الحاجِبيَّة طلَّحَت
قَلُوصَيكما وناقَتي قد أكَلَّت


إذ كان المتوقع - لو جرى الشاعر على التركيب المعتاد في النثر - أن يقول: "طلحت قلوصيكما، وأكلَّت ناقتي"، لكنه قدَّم وأخَّر في الجملة الأخيرة؛ كي تستقيم مع الوزن والقافية، ونفس الشيء قل في التركيب التالي: "فإني، وإن صدَّت، لمُثْنٍ وصادقٌ عليها..."؛ حيث كان ينبغي في ظل الظروف المعتادة في تركيب الكلام أن يؤخِّر اسم الفاعل: "صادق" إلى ما بعد شبه الجملة: "عليها"، وهو قد فعل ذلك كله في يُسْرٍ وسماحة، وكأنه قد جرى على ما يقتضيه الأمر المتوقع، بَلْه الأمر الذي كان ينبغي أن يكون، ولا شك أن للموسيقا دورًا في هذا، فإن جمال إيقاعها يغطي على مثل تلك العدولات، فلا يلتفت لها القارئ بادي الرأي، وإن عملت مثل تلك العدولات عملها في النفس قبل هذا الالتفات؛ إذ يُحس القارئ - ولو إحساسًا غامضًا - أنه أمام شيء غير اعتيادي؛ مما يخلق الشعور بالطراءة والنضارة لديه، حتى لو لم ينتبه إلى سبب ذلك.

ثم عندنا الإيقاع الموسيقي الذي يتخلل أرجاء القصيدة، فأما الوزن والقافية فأمرهما معروف، بيد أن هناك أساليبَ أخرى لتوفير الإيقاع هنا سوى الوزن والقافية؛ كالسجع مثلاً في قول الشاعر: "هنيئًا مريئًا"، وفي كلمتي "وإياها" و"رجاها" أيضًا من قوله:
كأني وإياها سحابةُ مُمحلٍ
رَجاها فلمَّا جاوَزته استهَلَّتِ


وكتردد مدة الألف في أنحاء البيت التالي:
خَليليَّ، هذا رسْمُ عزَّةَ فاعْقِلا
قَلوصيكما، ثم انظُرا حيث حلَّتِ


وكتجاوب الياء الممدودة في: "تَهيامي" و"المرتجي" في بداية كل من البيتين التاليين:
وإني وتَهْيامي بعزَّةَ بعدما
تخلَّيتُ مما بيْننا وتخلَّتِ


لكالمُرتجي ظلَّ الغَمامة كلَّما
تبوَّأ منها للمَقيل اضْمَحَلَّتِ


وكأننا بإزاء قافيتين، واحدة في أول البيتين، والأخرى في نهايتهما، علاوة على تَكرُّر حرف أو حرفين بعينهما في بعض الأبيات؛ كالسين والعين مثلاً، مما يستطيع القارئُ التقاطَه بكل سهولة دون معاونة من أحد، وهناك الإيقاع المعنوي؛ كالطباق في قوله مثلاً: "أَسيئي بنا أو أحسني..."؛ للدلالة على شمول الرضا عنده لكل ما تأتيه أو تدَعُه، وأنه متعلق بها كل التعلق مهما صنَعت به ومعه، وكذلك في قوله: "ما قاربت إلا تباعدت"؛ للدلالة على اتصال قسوتها عليه، وأنها لا تفكر في تخفيف قبْضتها على خناقه لحظةً من الوقت، ومثله قوله: "ولا أكثرت إلا أقلَّتِ".

وقبل ذلك كله هناك بِناءُ القصيدة على الشكل الذي أتتنا به، وقد بدأت بالوقوف على الرسوم والأطلال، إلا أن الشاعر لم يركب ناقتَه ويرحلْ بعدها، منطلقًا في فضاء البادية الواسع العريض على عادة الشعراء في طائفة من قصائد تلك العصور، بل بقِي يراوح مكانه، متذكرًا أولاً ما كان بينه وبين حبيبته من ذكرياتٍ مؤلمة، ومنتهيًا إلى أنه سوف يسلوها، ليعود في التو واللحظة إلى الحديث عن صَرْمها إياه وقسوتها عليه، والتغني من جديد بآلامه ويأْسِه، والتأكيد بأنه سوف ينصرف بدوره عنها ويصرِمها كما صرمته..، وهكذا دواليك في بضع موجات من هذا القبيل، إلى أن يفرغَ من القصيدة بتأكيده أنه قد سلا حبيبته وتعزَّى عنها، لكن دون أن نصدق شيئًا مما يقول بطبيعة الحال؛ إذ قد عرفنا من قبل مرارًا أن هذا كلَّه ليس سوى تشنُّجات الذبيح في لحظاته الأخيرة من الحياة.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 25.56 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 24.93 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.46%)]