
26-11-2021, 11:46 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,114
الدولة :
|
|
رد: خلفاء الدولة العباسية .. مشاهد من العز والذل - تقرير
صفات المعتصم بالله
كان المعتصم ذا شجاعة وقوة وهمة يحب الشجعان، قوته خارقة هائلة يحمل أرطالاً تعجز عنها الرجال ويمشي خطوات، ويثني الحديد مرات بعد عجز الأبطال عنه، يقول وزيره أحمد بن أبي دؤاد: كان المعتصم يخرج ساعده إلى ويقول: يا أبا عبد الله عض ساعدي بأكثر قوتك، فأقول: والله يا أمير المؤمنين ما تطيب نفسي بذلك.
فيقول: إنه لا يضرني، فأروم ذلك، فإذا هو لا تعمل فيه الأسنة فضلاً عن الأسنان. وكان مع ذلك شفوقًا غير أنه إذا غضب لا يبالي من قتل.
وكان يقول عن نفسه: قد علمت أني دون إخوتي في الأدب، لحب أمير المؤمنين لي، وميلي إلى اللعب وأنا حدث، فلم أنل ما نالوا. وسبب ذلك أنه كان مع المعتصم غلام في الكُتاَّب يتعلم معه، فمات الغلام، فقال له الرشيد: يا محمد مات غلامك. فقال: نعم يا سيدي واستراح من الكُتاَّب.
قال الرشيد: وإن الكُتَّاب ليبلغ منك هذا المبلغ؟! دعوه حيث انتهى لا تعلموه شيئًا؛ ولذلك ورد أنه (كان يكتب كتابة ضعيفة ويقرأ قراءة ضعيفة).
وصية المأمون للمعتصم
وكانت وصية المأمون للمعتصم: "احمل الناس على القول بخلق القرآن، والخرمية فاغزهم بقوة وحزم وجلد، واحشد لهم الأموال والسلاح والجنود من الفرسان والرجالة، فإن طالت مدتهم فتجرد لهم بمن معك من أنصارك وأوليائك، واعمل في ذلك عمل مقدم النية فيه، راجياً ثواب الله عليه"؛ لذلك انصبت جهود المعتصم، وأموال الخلافة على القضاء على حركة بابك.
جهاده ضد الخرمية
كان بابك من أبطال زمانه وشجعانهم، عاث في البلاد وأفسد وأخاف الإسلام وأهله وغلب على أذربيجان وغيرها وأراد أن يقيم ملة المجوس، وادعى الألوهية وأراد تحويل المُلك من العرب المسلمين إلى الفرس، فأثار ومن تبعه حربًا شعواء على الإسلام والعرب.
فأرسل المعتصم الأفشين أعظم قواده حينئذ لمقاتلة بابك والقضاء عليه.. بيد أن الأمر قد طال رغم أن المعتصم أنفق على هذه الحرب الكثير، وأقام المعتصم البريد على مسافات قريبة ليأتيه خبر المعركة كل يوم وكان جميع من قَتَل بابك في عشرين سنة 250000 إنسان. وكانت نهايته في هذه المعركة.
خلافة الواثق بالله أبي جعفر هارون بن المعتصم بالله
تولى الواثق بالله الخلافة من ربيع أول 227هـ حتى ذي الحجة 232هـ، وعمره إحدى وأربعون سنة، وتوطدت أقدام القواد الأتراك الذين اصطنعهم المعتصم وصاروا أصحاب نفوذ عظيم، ولاسيما أشناس الذي توَّجَه الواثق وألبسه وشاحين بالجوهر في رمضان سنة 228هـ.
بل وقام قواد الأتراك لأول مرة بأعظم الأعمال الحربية في جزيرة العرب نفسها وذلك للقضاء على فتنة قامت سنة 230هـ حيث خرجت بنو سُليم حول المدينة فعاثوا في الأرض فسادًا، وقاد هذه الحملة بغا الكبير أبو موسى التركي.
وفتنة أخرى قامت سنة 232هـ حيث قامت قبيلة بني نمير باليمامة بالإفساد في الأرض، واستطاع أيضًا بغا الكبير أن يقضي على فتنتهم.
وكان الواثق قد سيطر عليه الفكر المعتزلي وتعصب له، وكان يدعو إلى القول بخلق القرآن ليلاً ونهارًا، وفي عهده ارتكب جرمًا شنيعاً إذ قُتِل أحمد بن نصر بن مالك الذي كان من أهل العلم والديانة والعمل الصالح والاجتهاد في الخير، وكان من أئمة السنة الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، وممن يخالف رأي الخليفة في القول في القرآن، وأبوه هو نصر بن مالك الذي بايعته العامة على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عند غلبة الفساد ببغداد سنة 201هـ.
خلافة المتوكل على الله ابن المعتصم
(من ذي الحجة 232هـ حتى قتل في شوال 247هـ)
عرف المتوكل دون سائر أهل بيته بكراهية على بن أبي طالب وأهل بيته، وهذا ما يعرف في العقائد بالنصب، وهو ضد التشيع، وهو الذي أمر بهدم قبر الحسين بن علي بن أبي طالب سنة 236هـ وما حوله من المنازل والدور، ونودي في الناس من وجد هنا بعد ثلاثة أيام ذهبت به إلى المطبق فلم يبق هناك بشر، واتخذ ذلك الموضع مزرعة تحرث وتستغل.
ومع ذلك كتب المتوكل في الآفاق بالمنع عن الكلام في مسائل الكلام والكف عن القول بخلق القرآن، وأنه من تكلم بها فمأواه المطبق، وأمر الناس ألاَّ يشتغل أحد إلا بالكتاب والسنة لا غير، وأكرم الإمام أحمد بن حنبل، وكان لا يولي إلا بعد مشورته، وكانت ولاية يحيى بن أكثم قضاء القضاة مكان ابن أبي دؤاد عن مشورته، وقد كان يحيى بن أكثم من أئمة السنة.
قال ابن كثير: "وكان المتوكل محبباً إلى رعيته، قائماً في نصرة أهل السنة، وقد أظهر السنة بعد البدعة فرحمه الله".
لكن البعض يرى أن عهود ضعف الدولة العباسية بدأت مع استلام المتوكل للسلطة؛ حيث بلغت الدولة، أوج اتساعها، وبدت على الخريطة، كطائر ذي جسم صغير، وهو العراق والشام، وجناحين كبيرين، ويمثل الجناح الشرقي، بلاد فارس، والجناح الغربي مصر والشمال الإفريقي، قلب ذو كثافة سكانية منخفضة، مقارنة بجناحين، ثقيلين عريضين، في عصر تشكل القوة البشرية والموارد عناصر حاسمة في صراعات القوة، وأي مرض سيطرأ على عقل الطائر أو جسمه سينعكس على الأجنحة، وسيختل ذلك التوازن الصعب، الذي سبب معضلة الدولة العباسية. وذلك ما حدث فمع ضعف قلب الدولة، بدأ تفكك الأطراف فالجناح الغربي وبالتحديد في مصر، سيبدأ أول عملية انفصالية على يد السري بن الحكم 815م لتظهر في الجناح الشرقي المقابل وبالتحديد في خراسان الدولة الظاهرية
سنة 819م.
ويقول الدكتور جاسم سلطان: لو تابعت التواريخ اللاحقة لقيام الدول ستجد عملية التناوب على التفكيك من الأجنحة، ثم الاتجاه للسيطرة على القلب والجسد الضعيف.
عبرة وعظة
دخل عبد العزيز بن يحيى الكتاني أحد المقربين إلى المتوكل عليه فقال: "يا أمير المؤمنين، ما رأيت أعجب من الواثق، قتل أحمد بن نصر الخزاعي وكان لسانه يقرأ القرآن إلى أن دفن".
فوجل المتوكل من كلامه، وساءه ما سمع في أخيه الواثق، فلما دخل عليه الوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات قال له المتوكل: "في قلبي شيء من قتل أحمد بن نصر". فقال: "يا أمير المؤمنين، أحرقني الله بالنار إنْ قتله أمير المؤمنين الواثق إلا كافراً". ودخل على المتوكل هرثمة فكلمه المتوكل في ذلك، فقال: "قطعني الله إرباً إرباً إن قتله إلا كافراً".
ودخل عليه القاضي أحمد بن أبي دؤاد فقال له مثل ذلك، فقال: "ضربني الله بالفالج إن قتله الواثق إلا كافراً".
قال المتوكل: "فأما ابن الزيات فأنا أحرقته بالنار، وأما هرثمة فإنه هرب فاجتاز بقبيلة خزاعة، فعرفه رجل من الحي فقال: يا معشر خزاعة، هذا الذي قتل ابن عمكم أحمد بن نصر، فقطعوه. فقطعوه إرباً إرباً. وأما ابن أبي دؤاد فقد سجنه الله في جلده - يعني بالفالج - ضربه الله له قبل موته بأربع سنين".
وفي عهد المتوكل قامت الدولة اليعفرية بصنعاء: ومؤسسها هو يعفر بن عبد الرحيم، واستمرت من سنة 247 إلى سنة 387هـ، ومدتها 140 سنة.
نحو السقوط
خلافة محمد المنتصر
(من شوال 247هـ حتى ربيع الآخر 248هـ)
زادت قوة الأتراك في الدولة العباسية؛ لأن أيديهم امتدت إلى حياة الخلفاء فقتلوا الخليفة وساقوا الخلافة إلى خليفة، فأنشبوا أظفارهم بذلك في جسم الدولة، وكانوا لا يحبون ولاية العهد للمعتز والمؤيد ابني المتوكل، فلم يزالوا بالمنتصر حتى أجبر أخويه على أن يكتبا طالبين أن يخلعا من ولاية العهد.
وبذلك وصل عجز الخليفة مداه تحت ضغط عسكر الأتراك، ويبدو أنه ندم على قتل أبيه فإنه لا يزال يؤنب نفسه في يقظته ومنامه، ويبكي ليلاً ونهاراً ندماً على فعلته، وهمَّ بالانتقام من قتلة أبيه ولكنه لم يستطع، ووافته المنية في 5 من ربيع آخر سنة 248هـ.
خلافة المستعين بالله
اختير من ربيع الآخر 248هـ حتى محرم 252هـ، بمعرفة قادة الأتراك (بغا الصغير وبغا الكبير وأتامش)، فلم يولوا أحداً من أبناء المتوكل لئلا يغتالهم بدم أبيه، فكان أول خليفة من بني العباس لم يكن أبوه خليفة، بعد مؤسسي الدولة السفاح والمنصور، وأول خليفة تولى بعد ابن عمه.
ضعف نفوذ الخليفة وتحكم الموالي من الأتراك، فهم يعينون الوزير فإذا غضبوا عليه عزلوه وصادروا أمواله.
ثم تولى أتامش أحد قواد الأتراك الوزارة، وأصبح صاحب السلطان التام فحسده أصحابه من الأتراك، وصيف وبغا، فألبوا العسكر عليه فقتل أتامش وانتهبت داره.
واستوزر الخليفة بعده أبا صالح عبد الله بن محمد، وولَّى بغا الصغير فلسطين وولَّى وصيفًا الأهواز، وفي سنة 251هـ اجتمع رأي المستعين وبغا الصغير ووصيف على قتل باغر التركي، وكان من قواد الأمراء الكبار الذين باشروا قتل المتوكل، وقد اتسع إقطاعه وكثرت عماله، فقتل ونهبت أمواله.
وفي سنة 251هـ وقعت فتنة عظيمة بين جند بغداد وجند سامراء، ودعا أهل سامراء إلى بيعة المعتز، وكان مسجوناً فأُخرِج، واستقر أمر أهل بغداد على بيعة المستعين، فصارت بغداد في جانب المستعين وسامراء في جانب المعتز، وأمر المستعين محمد بن عبد الله بن طاهر أن يحصن بغداد، وأدير حولها السور وحفرت حولها الخنادق ونصب على السور مجانيق وأسلحة كثيرة عظيمة، وبعث المعتز إلى محمد بن عبد الله بن طاهر يدعوه إلى الدخول معه، ويذكره بعهد أبيه المتوكل أن يبايع بعده المعتز، ولكن عبد الله لم يأبه لذلك.
وانضم الأتراك إلى معسكر المعتز، وجرت بينهما حروب طويلة وفتنة مهولة جدّاً..وقد أثرت هذه الخلافات على الأحوال الخارجية للبلاد، واستطاعت الروم أن تنزل الهزائم بالمسلمين، وقتلوا قائدين عظيمين للمسلمين من قواد الثغور هما عمر بن عبد الله الأقطع، وعلي بن يحيى الأرمني.
خلافة أبي عبد الله المعتز
لم يكن في مدة خلافة المعتز من المحرم 252هـ حتى رجب 255هـ، سوى مزيد من ضعف الخلافة العباسية وتنازع الجند الأتراك والمغاربة الأمر، فانتهى الأمر بخلعه بعد ثلاث سنوات ونصف.
فلم تكن له كلمة مسموعة، وكان سبب خلعه أن الجند اجتمعوا فطلبوا منه أرزاقهم فلم يكن عنده ما يعطيهم.. فاجتمع الأتراك على خلعه فأرسلوا إليه ليخرج إليهم، فاعتذر بأنه شرب دواء وأن عنده ضعف، ولكن ليدخل إلى بعضكم، فدخل إليه بعض الأمراء فتناولوه يضربونه وجروا برجله وأخرجوه وعليه قميص مخرق لطخ بالدم، فأقاموه في وسط دار الخلافة في حر شديد حتى جعل يراوح بين رجليه من شدة الحر، وجعل بعضهم يلطمه وهو يبكي ويقول له الضارب: اخلعها والناس مجتمعون. ثم أدخلوه حجرة مضيقًا عليه، وما زالوا عليه بأنواع العذاب حتى خلع نفسه عن الخلافة وولى بعده المهتدي بالله.
ثم سلموه إلى من يسومه سوء العذاب بأنواع المثلات، ومُنع من الطعام والشراب ثلاثة أيام، حتى جعل يطلب شربة من ماء فلم يُسق، ثم أدخلوه سَرَباً فيه جص جير، فدسوه فيه فأصبح ميتاً، فاستلوه من الجص سليم الجسد، وأشهدوا عليه جماعة من الأعيان أنه مات وليس به أثر.
خلافة محمد المهتدي بالله
(من رجب 255هـ إلى أن خلع في رجب 256هـ)
أحضر الأتراك محمد هذا ليخلف المعتز بالله، وكان المعتز قد نفاه إلى بغداد واعتقله، فلما جاء إلى سامراء تلقاه الموالي في الطريق، وعرضوا عليه الخلافة فأبى أن يقبلها قبل أن يرى المعتز ويسمع كلامه، فلما دخل على المعتز ورآه على الحالة التي وصفنا آنفاً، عانقه وجعل يسأله عن سوء حاله، وأراد محمد أن يصلح بينه وبين الأتراك، ولكن المعتز قال له: لا حاجة لي فيها ولا يرضون بي.
من خصاله الطيبة
وكان المهتدي من صالح بني العباس يكره الظلم، بنا قبة لها أربعة أبواب وسماها قبة المظالم وجلس فيها للعام والخاص للمظالم، وأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وحرم الشراب ونهى عن القيان، وكان فيه ديانة وتقشف حتى أن الجند تأسوا به، ولكن أمور الدولة لا تزال يتحكم فيها الخلافات بين الأتراك.
ولخلاف دبَّ بين بعض القادة، ولأن المهتدي قد مال لصالح الدولة مع أحدهم أرادوا خلعه.. فانتشر الخبر في العامة، فكتبوا رقاعًا ألقوها في المسجد الجامع وفي الطرقات، ونص هذه الرقاع:
"بسم الله الرحمن الرحيم.. يا معشر المسلمين، ادعوا الله لخليفتكم العدل الرضا أن ينصره الله على عدوه ويكفيه مؤنة ظالمه؛ فإن الموالي قد أخذوه بأن يخلع نفسه وهو يعذب منذ أيام، والمدبر لذلك فلان وفلان، رحم الله من أخلص النية ودعا، وصلى على محمد".
فلما بلغ ذلك الأتراك خافوا ثورة العامة، فأرسلوا إلى المهتدي يخبرونه أنهم يبذلون دماءهم دونه.. وشكوا مع ذلك سوء حالهم وتأخر أرزاقهم، وما صار من الاقطاعات إلى قوادهم، فوعدهم المهتدي خيرًا، ولكنه لا يملك الآن ما يعطيهم منه فأعادوا عليه الطلب، وأنهم سيصيرون إلى باب أمير المؤمنين حتى تقضى حوائجهم.
لقد كانت ثورة من الجند على قادتهم، ولكنها غير منظمة ولو وجدت هذه الثورة خليفة قويًّا وانتهزها المهتدي لتخلص من نفوذ الأتراك، ولكنه لم يفعل، بل كان ظاهره مع الرؤساء وباطنه مع الجنود، ويظهر أنه أراد استعمال الحيلة في الخلاص منهم ولكنهم كشفوا أمره وقامت فتنة ومعركة، فريق الناقمين على الأتراك من العامة والموالي من غير الأتراك من ناحية، وبين الأتراك من ناحية أخرى، وخرج الخليفة المهتدي وفي عنقه مصحف يدعو الناس إلى نصرته، ولكن الأتراك انتصروا.
وقبضوا على المهتدي وحملوه إلى داره مهاناً في 14 من رجب سنة 256هـ، ثم خلعوه لما أبى أن يخلع نفسه، ثم مات في 18 من رجب سنة 256هـ.
خلافة أحمد المعتمد على الله
(من رجب 256هـ حتى رجب 279هـ)
كان من مطالب الأتراك أن يتولى أمر الجيش أحد إخوة أمير المؤمنين المعتمد على الله، ولا يرأسهم واحد منهم لما كان بينهم من الخلاف والمنافسة، فولَّى المعتمد أمرهم إلى أخيه أبي أحمد طلحة بن المتوكل، فولاه أمر الجيش والولايات.
فصار السلطان الحقيقي لأبي أحمد لا للخليفة، وصارت كلمة أبي أحمد هي العليا، على الأتراك وقوادهم فحسَّن ذلك الأحوال بعض التحسين، ولكن المعتمد نفسه ساءت أحواله؛ لأنه لم يترك له شيء من التصرف حتى إنه احتاج في بعض الأحيان إلى ثلاثمائة دينار فلم يجدها، والمعتمد هو أول خليفة انتقل بعاصمة الخلافة من سامراء إلى بغداد ثانية منذ عهد المعتصم.
ثورة صاحب الزنج
وفي رمضان سنة 255هـ قام دعي في آل علي لا يعرف له نسبٌ ولا رحمٌ، زعم أن اسمه علي بن محمد بن أحمد بن علي بن عيسى بن زيد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب، فادعى أنه عباسي، ودعا الناس إلى طاعته.
ظهرت فتنته أولاً بالبحرين، ثم تحول عنهم إلى البادية، ثم إلى البصرة سنة 254هـ..ثم مضى الدعيُّ ومن اتبعه حتى وصل بغداد، فأقام بها عامًا يستميل الناس سرًّا، ثم شخص إلى البصرة، ونزلوا بقصر قريب منها يعرف بقصر القرشي، وهناك استعان بالعبيد الذين كانوا يعملون بتلك النواحي في حمل السباخ وغيره لأهل البصرة، وهم كثيرو العدد يهمهم أن ينالوا الحرية ويخرجوا مما هم فيه فكيف لو وُعِدوا مع الحرية بالسيادة على مالكي رقابهم؟.
وكان كل جيش يبعث من قبل الخليفة يهزمه، ومضى يعيث في الأرض فسادًا يحرق وينهب، واستفحل أمره، وعظم شره وخيف على الدولة منه فلم ير أبو أحمد الموفق إلا أن يحشد إليه الجموع ويتولى هو قيادتها بنفسه، واصطحب معه ابنه أبا العباس، وكان نائبه، وتطوع الناس لحرب هذا الدعي.
وتم له النصر على عدوِّه، وحملت إليه رأس الخبيث فلما تيقن منها خرَّ لله ساجداً، وفرح المسلمون بذلك في المشارق والمغارب، وكان ذلك في صفر سنة 270هـ، فكانت أيام هذا الدعي من لحظة خروجه إلى مماته أربع عشرة سنة.
وفي هذا العهد قامت الدولة الطولونية بمصر سنة 258هـ واستمرت حتى سنة 292هـ، ومؤسسها أحمد بن طولون كان مملوكاً تركيّاً.
كما قامت في هذا العهد الدولة السامانية سنة 261هـ ببلاد ما وراء النهر واستمرت حتى سنة 389هـ، أي دامت قرابة مائة وسبعين سنة، وقامت على أيدي آل سبكتكين من جهة، والترك الخاقانية من جهة أخرى، وسيأتي مزيد من بيان ذلك.
وفي عهده ظهر القرامطة بثلاثة مواضع بالبحرين والعراق والشام، وكذلك كان يشتغل دعاة الفاطميين باليمن وإفريقية، فكأن الدعوة الإسماعيلية رتبت أن يكون ظهورها في آن واحد بجميع الجهات الإسلامية حتى لا يكون لبني العباس قِبَل بملاقاة شرها وكذلك كان. ثم توفي المعتمد في 9 من رجب 279هـ.
خلافة المعتضد بالله أبي العباس أحمد بن الموفق طلحة
(من رجب 279هـ حتى ربيع آخر 289هـ)
كان من خيار خلفاء بني العباس ورجالهم، وكان شهماً جلداً، موصوفاً بالرجولة، وقد لقي الحروب، وعرف فضله، فقام بالأمر أحسن قيام، وهابه الناس، وكانت أيامه طيبة، كثيرة الأمن والرخاء، وقد أسقط المكوس، ونشر العدل، وكان يسمي "السفاح الثاني"؛ لأنه جدد ملك بني العباسي، وكان قد خَلقَ وضعف، وكاد يزول، وكان في اضطراب منذ قُتل المتوكل.
ومنع الوراقين من بيع كتب الفلاسفة، وما شاكلها، ومنع القصاص والمنجمين من القعود في الطريق، وكان يمسك عن صرف الأموال في غير وجهها؛ فلهذا كان يبخله بعض الناس.
وفي أيام المعتضد بالله زاد الغزو في بلاد الروم، سواء أكان عن طريق الثغور الشامية وخاصة طرسوس التي غالبًا ما كانت بأيدي الطولونيين أم عن طريق ثغور الجزيرة. وكذلك فقد كان غزو بلاد الترك التي بعد ما وراء النهر حيث كان يقوم السامانيون بالغزو، وقد سار إسماعيل بن أحمد بن أسد الساماني عام 280هـ إلى بلاد الترك، وأسر ملكهم وزوجته خاتون، وجرى تبادل الأسرى بين المسلمين والروم عام 283هـ، وكان عدد الأسرى من المسلمين أربعة وخمسمائة وألفين.
توفي ليلة الاثنين لثمانٍ بقين من ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وعهد بالولاية لابنه المكتفي.
انتكاسة جديدة
خلافة المكتفي بالله علي بن المعتضد بالله
انتكست البلاد في عهد المكتفي بالله من ربيع آخر 289هـ حتى ذي القعدة 295هـ، وازدادت الصراعات والمنافسات بين ذوي النفوذ بالدولة.
قاتل القرامطة ونظف النواحي الشامية منهم في محرم سنة 291هـ، وضعف سلطان هذه الفرقة بالعراق بعد مقتل زكرويه وأولاده، وقتل أكثر دعاتهم، ولكن نفى أخطر دعاتهم وهو الجنابي بالبحرين، ولم يكن له في عهد المكتفي كبير عمل، وإنما كانت مصائبه ورزاياه في عهد المقتدر. وفي عهده انتهت دولة بني طولون بمصر سنة 292هـ على يد العباسيين، كما انتهت دولة الأغالبة بإفريقيا على يد أبي عبيد الله الشيعي داعية الفاطميين بالمغرب.
خلافة جعفر المقتدر بالله بن المعتضد بالله
تولى الخلافة المقتدر بالله من ذي القعدة 295هـ حتى قتل في شوال 320هـ، وسنُّه 13 سنة عن عهد من أخيه لم يرق الأمر للناس لصغر سنه، فحدثت محاولة لخلعه من كبار القادة وتولية عبد الله بن المعتز، ولكنها فشلت.
حكومة النساء
والحقيقة أن هيبة الخلافة قد سقطت في عهد المقتدر فهو شاب صغير لا يعرف عن السياسة شيئًا، ولا من الشجاعة شيئًا، وكانت له أم وقهرمانة صار لهما الحكم في كل ما يجرى من الشئون، وإليهما يتقرب بالرشوة من يريد عملاً أو وزارة، والمقتدر لاهٍ بما هو فيه من اللعب واللهو والسرف ولم يعد بيده شيء، تولى الوزارة في عهده اثنا عشر وزيرًا، منهم من تقلد الوزارة مرتين وثلاثًا وكانت تنال بالرشوة، وتدخل في أمر تعيين الوزراء النساء والخدم والحاشية، ولم يكن الصالح منهم يبقى في العمل كثيرًا لأن بقاءه يتبع رضا أم المقتدر وقهرمانته وخدم الدار، وهؤلاء لا يرضون إلا إذا حوبوا بالأموال الكثيرة التي بها تفسد المالية، وتختل موازنتها فمتى حصل التقصير عن دفع الأموال جيء بآخر يستطيع أن يدفع، وسرعان ما يقبض على الأول ويصادر ويعين الثاني.
وفي إفريقيا قامت الدولة الفاطمية سنة 279هـ ،وقضت على دولة الأدارسة من المغرب الأقصى والأغالبة من إفريقيا، وجعلت مقرها مدينة المهدية التي أسسها عبيد الله المهدي بالقرب من القيروان.
وفي الموصل ابتدأت دولة آل حمدان ولكن لم يتمكن سلطانهم، في عهد المقتدر، قامت سنة 293هـ واستمرت حتى 380هـ.
كانت نهاية المقتدر بائسة، شغب الجند واستاء القادة وحصل مواجهة بينه وبين أحد أكبر القادة في عصره وأعظمهم نفوذًا وهو مؤنس الخادم الملقب بالمظفر قائد عام الجيوش وهُزِم الخليفة وقتل على يد بعض الجند وذبحوه، ثم رفعوا رأسه على خشبة وهم يكبرون ويلعنونه، وأخذوا جميع ما عليه، حتى سراويله، وتركوه مكشوفًا إلى أن مر به رجل فستره بحشيش ثم حفر له موضعه ودفن، وكان عمره حين قتل 38 عامًا.
خلافة أبو محمد القاهر بن المعتضد
جاء أبو محمد القاهر من شوال 320هـ حتى خلع في جمادى الأولى 322هـ، باختيار مؤنس قائد الجيش، وكان أول ما فعله هو إحضار أم المقتدر وتعذيبها، وكانت مريضة ليعرف أين كان مالها وجواهرها فاستلب جميع ما تملك.
وكان القاهر شريرًا خبيث النية سرعان ما غدر بمؤنس، وأمر بالقبض عليه وكل من أجلسوه على كرسي الخلافة ولما تمكن منهم القاهر أمر بقتلهم وأما من بقى منهم فقد أخذ يخطط للتخلص من القاهر فقبضوا عليه وسملوا عينيه فقضوا عليه وخلعوه بتخطيط من وزيره ابن مقلة.
خلافة الراضي أبو العباس بن أحمد المقتدر
اختاره القادة وعينوه خليفة من جمادى الأولى 322هـ حتى ربيع أول سنة 329هـ، كالعادة كانت الكلمة العليا في أول عهده لمن ساعده وهو الوزير بن مقلة وحاجبه محمد بن ياقوت ولكن سرعان ما انقلب على ابن ياقوت، الذي توفي مسجونًا ثم انقلب على ابن مقلة وسجنه.
واضطربت الأحوال فاضطر الراضي أن يرسل إلى محمد بن رائق وهو بواسط يعرض عليه الولاية ببغداد، فقلده الراضي لقب أمير الأمراء وولاه الدواوين، ومن ذلك الوقت بطلت الدواوين وبطلت الوزارة وانتقل السلطان الحقيقي لابن رائق وصارت الوزارة شكلية.
خلافة إبراهيم المتقي لله بن المعتمد
عين القادة المتقي لله من ربيع أول 329هـ حتى خلع في صفر 333هـ، والوزراء ولم يكن له من الأمر شيء، واشتد الصراع على منصب أمير الأمراء ولم يكن يستقر الحال لأحدهم طويلاً.
خلافة الفضل المطيع لله بن المقتدر
(من جمادى الآخرة 334هـ حتى خلع في ذي القعدة 363هـ)
عانى من شغب الجند عليه فاضطر إلى استرضائهم بإقطاع القواد والجند إقطاعات السلطان وأصحاب الأملاك؛ فخربت البلاد لذلك، وعم الغلاء والنهب.. ولم تمض سنة على بغداد حتى اشتد الغلاء فأكل الناس الميتة والكلاب، وأكل الناس خروب الشوك، وكانوا يسلقون حبه ويأكلونه فلحق الناس أمراض وأورام في أحشائهم، وكثر فيهم الموت حتى عجز الناس عن دفن الموتى فكانت الكلاب تأكل لحومهم، وانحدر كثير من أهل بغداد إلى البصرة، فمات أكثرهم في الطريق وبيعت الدور والعقارات بالخبز.
فكان نظام الإقطاعات أول فساد بالعراق؛ لأنه أضعف همة الفلاحين الذين يقومون بزرع الأرض وإصلاحها.
خلافة أبي الفضل عبد الكريم الطائع لله بن المطيع
(من ذي القعدة 363هـ حتى رجب 381هـ)
كانت للفتنة التي قامت ببغداد بين أهل السنة والشيعة أثر كبير في إثارة الاضطرابات والفوضى ببغداد، فسفكت الدماء، وأحرقت الكرخ التي كانت محلة الشيعة.
وفي هذه الفترة قامت الدولة السبكتكينية (الغزنوية) من سنة 366هـ إلى سنة 582هـ، على يد سبكتكين.
خلافة أبي العباسأحمد القادر بالله بن إسحاق بن المقتدر
(من رمضان 381هـ حتى توفي في ذي الحجة 422هـ)
تم اختياره بمعرفة آل بويه، وقد كان هارباً في زمن الطائع، فأتى به إلى بغداد واستقبل استقبالاً طيباً من بهاء الدولة، لم يكن للخليفة شيء من السلطان كمن مضى في عهد سلاطين بني بويه، إلا أن ضعفهم أحيا للخليفة شيئًا من الكلمة والنفوذ، وكان القادر فيه من خلال الخير ما يساعد على ذلك، فقد كان حليماً كريماً يحب الخير وأهله، ويأمر به وينهى عن الشر، وكان حسن الاعتقاد، وصنف كتابًا على مذهب أهل السنة والجماعة، ثم توفي سنة 422هـ.
خلافة أبي جعفرعبد الله القائم بأمر الله
(من ذي الحجة سنة 422هـ حتى 13 من شعبان سنة 467هـ)
وفي أول عهده ضعفت الخلافة والسلطنة جميعاً ببغداد، وعمت الفوضى وشغب الجند، وكثر النزاع بين الديلم عنصر السلطان، وبين الأتراك قدماء العهد ببغداد، والعجيب أن آخر سلطان بويهي، وهو أبو نصر فنا خسرو، في ظل هذا الضعف البيِّن يطلب من الخليفة أن يلقب بالملك الرحيم، فأبى الخليفة ذلك ولكنه أصر حتى كان ذلك لقبه.
واستمر سلطانًا حتى قضى عليه السلطان طغرل بك السلجوقي، وبذلك انقضت مدة آل بويه التي لم تترك أثرًا صالحًا في عهد الدولة العباسية، إلا مزيدًا من الفساد والتشتت بما أظهرته من التشيع في بغداد، مع أن غالبية أهلها أهل سنة وجماعة.
خلافة المقتديبأمر الله بن الأمير ذخيرة الدين
تولى المقتدي بأمر الله الخلافة من شعبان 467هـ حتى محرم 487هـ، وعمره عشرون عامًا نشأ في حجر جده القائم بأمر الله يربيه بما يليق بأمثاله، وكان المقتدي شجاعًا شهمًا.. والخلافة معظمة جدًّا، وتصاغرت الملوك له وتضاءلوا بين يديه، خُطِب له بالحرمين وبيت المقدس والشام كلها، واسترجع المسلمون الرها وأنطاكية من أيدي العدو، وعمرت بغداد وغيرها من البلاد، وكان وزراؤه وقضاته من خيار الناس، وفي أول سنوات حكمه أخرج المفسِدات من بغداد وأمرهن أن ينادين على أنفسهن بالعار والفضيحة، وخرب الخمارات ودور الزواني والمغاني.
خلافة أبي منصور الفضل المسترشد بالله بن المستظهر
(من ربيع آخر 512هـ حتى قتل في ذي القعدة 529هـ)
كان شهمًا شجاعًا كثير الإقدام بعيد الهمة وكان بليغًا حسن الخط، يقول عنه ابن الأثير: "ولقد حاول أن يعيد شيئًا من مجد أهل بيته، فحالت الأقدار بينه وبين ما أراد".
كان سلطان العراق لأول عهده: السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه، ولكن عمه سنجر بن ملكشاه (وكان ملك خراسان وما إليها من بلاد ما وراء النهر) لم يرضه هذا الوضع، فتوجه إلى العراق والتقيا بجيوشهما؛ محمود وعمه سنجر عند الري، وانتصر سنجر وخطب على المنابر له، وكان يقيم بالأهواز ثم تصالحا على أن يخطب لمحمود من بعد عمه، وردَّ عليه جميع ما أخذ منه سوى الري.
وفي سنة 514هـ قام ضد محمود أخوه مسعود بن محمد (وكان له الموصل وأذريبجان)، فتقاتلا فانهزم عسكر مسعود، ثم تصالحا.
هذا النزاع بين عظماء السلاجقة جعل الخليفة المسترشد يحاول أن يعيد هيبة الخلافة، فقاد الجيوش بنفسه لمحاربة المخالفين، ولم يكن للخلفاء عهد بذلك منذ زمن طويل، ولا شك أن الملوك السلجوقيين لا يعجبهم ذلك، فإنهم يرون ذلك تقليصًا لدورهم وخطرًا على نفوذهم، ولذا عزم محمود بن محمد بن ملكشاه أن يدخل بغداد ولم يكن مقيمًا بها، ولكن الخليفة وقف له وحاول منعه بالقوة، فلما رأى إصرار محمود آثر الصلح، فدخل محمود بغداد سنة 521هـ وأقام بها بضعة أشهر، ثم فارقها بعد أن حمل إليه الخليفة الخُلَع والدواب الكثيرة.
مرة أخرى حاول الخليفة المسترشد أن يعيد هيبة الخليفة، وأن يتحرر من نفوذ السلاجقة باستعمال القوة معهم؛ مما سبب نفرة بينه وبين السلطان مسعود أدت إلى أن أمر الخليفة بقطع خطبة مسعود من منابر بغداد، وجهز جيشًا لحرب مسعود ومعه جنود كثيرة، لكنها لم تكن ذات عصبية تصدق عند اللقاء، لذا لما تواجه الطرفان تحول كثير من عسكر الخليفة الأتراك إلى السلطان مسعود، فانهزم جند الخليفة، وثبت الخليفة حتى أُسر وقتل في 16من ذي القعدة سنة 529هـ.
خلافة المستنجد بالله بن المقتفي لأمر الله
(من ربيع أول 555هـ حتى ربيع آخر 566هـ)
كان المستنجد بالله يعد من خيرة الخلفاء العباسيين؛ رفع المكوس والمظالم، ولم يترك منها شيئًا، وكان شديدًا على أهل العبث والفساد والسعاية بالناس، سجن رجلاً كان يسعي بالناس فسادًا مدة، وقد شفع له بعض أصحابه، وبذل فيه عشرة آلاف دينار، فقال له الخليفة: أنا أعطيك عشرة آلاف دينار ودلني على آخر مثله لأحبسه وأكف شره عن الناس.
وفي أيامه اتسعت رقعة ميدان القتال بين المسلمين والصليبيين وكانت الساحة بلاد الشام ومصر؛ ويقود القتال محمود نور الدين في كلا الساحتين، حيث ضعفت الدولة الفاطمية لدرجة كبيرة، وهذا ما جعل نور الدين محمود يتولي أمر الدفاع عن مصر.
وكان ملك السلاجقة في عهده أرسلان بن محمد بن ملكشاه، ولم يكن له شيء من السلطان في بلاد العراق.
خلافة المستضيء بأمر الله بن المستنجد بالله
(من ربيع الآخر 566هـ حتى ذي القعدة 575هـ)
كان المستضيء بأمر الله عادلاً حسن السيرة في الرعية، عاش حميدًا ومات سعيدًا. يقول ابن الأثير في تاريخه: وقد طالعت سير الملوك المتقدمين فلم أر فيها بعد الخلفاء الراشدين وعمر بن عبد العزيز أحسن من سيرته، ولا أكثر تحريًا للعدل منه، وله أخبار حسان ألفت فيها كتب خاصة.
وانقرضت في عهده الدولة الفاطمية في محرم سنة 567هـ على يد الدولة الأيوبية، وخطب للمستضيء في بلاد اليمن، هذا بالإضافة إلى مصر وإفريقية والشام.
خلافة الناصر لدين الله بن المستضيء
وهو أطول خلفاء بني العباس مدة من ذي القعدة 575هـ حتى رمضان 622هـ، وفي عهده انتهى ملك السلجوقيين بالعراق سنة 590هـ بقتل طغرل بن أرسلان على يد خوارزمشاه علاء الدين تكش، الذي اتسع ملكه جدًّا، فصار ملكه ممتدًا من أقاصي بلاد ما وراء النهر شرقًا إلى بلاد الري التي أخذها بعد القضاء على السلاجقة، وكان هوى خوارزمشاه أن يذكر اسمه على منابر بغداد فيخطب له بدل السلاجقة، ولكن الخليفة أبى، فاشتدت العداوة بينهما حتى قطع خوارزمشاه خطبة الناصر من منابر بلاده.
سقوط بغداد ونهاية الخلافة العباسية
خلافة الظاهر بأمر الله بن الناصر
(من شوال 622هـ حتى رجب 623هـ)
كان الظاهر بأمر الله عادلاً محسنًا، قالوا إنه أعاد سنة العُمَرين، وكانت تأتيه الأخبار عن الناس والأحوال على عادة من قبله فيردها ويقول: أي غرض لنا في معرفة أحوال الناس في بيوتهم، فلا يكتب أحد لنا إلا ما يتعلق بمصالح دولتنا، فقيل له: إن العامة يفسدها ذلك ويعظم شرها، قال إنا ندعو الله أن يصلحهم، ولم يزل كل يوم يزداد من الخير والإحسان إلى الرعية، فجدد من العدل ما كان دارسًا، وذكر من الإحسان ما كان منسيًّا حتى توفاه الله.
خلافة المستنصر بالله بن الظاهر
بويع المستنصر بالله بالخلافة من رجب 623 حتى جمادى الآخرة 640هـ بعد وفاة أبيه الظاهر بأمر الله، فنشر العدل بين الرعية، وبذل الإنصاف في القضايا، وقرب أهل العلم والدين، وبنى المساجد والمدارس، وقد وضع ببغداد المدرسة المستنصرية للمذاهب الأربعة، وجعل فيها دار حديث وحمامًا ودار طب، وجمع الجيوش لنصرة الإسلام، وأحبه الناس، وكان له ذا شجاعة وإقدام، وقد هزم جنود التتار في الوقت الذي خافهم البشر، وكان أخ شجاع أيضًا صاحب همة عالية يقال له الخفاجي، فكان يقول: لئن وُلّيت لأعبرن بالعسكر نهر جيحون، وآخذ البلاد من أيدي التتار وأستأصلهم. غير أنه لم يتول، وإنما تولى المستعصم بعد أبيه المستنصر.
وكان المستنصر حسن السريرة جيد السيرة، كثير الصدقات والبر والصلات محسنًا إلى الرعية بكل ما يقدر عليه. وكان يبني الربُط والقناطر والخانات والقناطر في الطرقات من سائر الجهات، وقد عمل بكل محلة من محال بغداد دار ضيافة للفقراء، لا سيما في شهر رمضان. وقد أوقف كتبًا نفيسة على المدرسة المستنصرية، توفي المستنصر في العاشر من جمادي الآخرة من عام 640 فكان عمره ثلاثًا وخمسين سنة.
آخر خلفاءالعباسيين ببغداد
أبو أحمد عبد الله المستعصم بالله بن المستنصر
بويع المستعصم بالله بالخلافة في جمادى الآخرة 640هـ، حتى قتل بين يدي هولاكو خان في محرم 656هـ.
ففي آبائه سبعة عشر خليفة لم يغنوا عنه من الله شيئًا. وبقتله انتهت الخلافة العباسية ببغداد.
كان خيرًا متدينًا عفيف اللسان والفَرْج، وكان يتقن تلاوة القرآن حفظًا وتجويدًا، خرج له الشرف الدمياطي 40 حديثًا، وأجيز له بالحديث، وأجاز جماعة بالحديث عنه، إلا أنه كان مستضعف الرأي ضعيف البطش.
وزيره مؤيد الدين محمد بن العلقمي صاحب التوجه الرافضي الناقم على الدولة العباسية، وقيل إنه يهودي الأصل، وهو الذي كان يوافي التتار بأخبار المسلمين ويمنع أخبارهم من الوصول إلى المستعصم.
الخلاصة
هكذا سارت الخلافة العباسية في مسارات كثيرة ومتعرجة.. وظهر في حكامها مختلف أحوال وصور (الحاكم) المسؤول عن شعبه ومجتمعه وأمته.
وفي تاريخ هؤلاء الحكام عبرة ليس للحكام فقط بل وللأمة جمعاء؛ وذلك لتدرك الصفات الصالحة التي تحتاجها في حكامها، وتعلم جيداً أن تلك الصفات - التي بيّنها ديننا الإسلام - كلما كانت موجودة في قائدها كانت إلى العزة والاستقرار والتماسك أقرب.. وهذا ما يؤكده التاريخ الإسلامي منذ عهد الخلفاء الراشدين وحتى اليوم.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
المصادر
- (الكامل في التاريخ) - ابن الأثير.
- (الذاكرة التاريخية للأمة) - د. جاسم سلطان.
- موقع (قصة الإسلام).
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|