الموضوع: رحلة الثبات
عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 24-11-2021, 06:28 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 154,334
الدولة : Egypt
افتراضي رد: رحلة الثبات

قال السعدي رحمه الله:

"هذا تأديب من الله لعباده عن فِعلهم هذا غير اللائق، وأنه ينبغي لهم إذا جاءهم أمرٌ من الأمور المهمة والمصالح العامة ما يتعلق بالأمن وسرور المؤمنين، أو بالخوف الذي فيه مصيبة عليهم أن يتثبتوا ولا يستعجلوا بإشاعة ذلك الخبر، بل يردونه إلى الرسول وإلى أولي الأمر منهم، أهل الرأي والعلم والنصح والعقل والرزانة، الذين يعرفون الأمور ويعرفون المصالح وضدها، فإن رأوا في إذاعته مصلحة ونشاطًا للمؤمنين، وسرورًا لهم، وتحرزًا من أعدائهم - فعلوا ذلك، وإن رأوا أنه ليس فيه مصلحة أو فيه مصلحة ولكن مضرته تزيد على مصلحته، لم يذيعوه، ولهذا قال: ﴿ لَعَلِمَهُ الَّذينَ يَستَنبِطونَهُ ﴾ ؛ أي: يستخرجونه بفكرهم وآرائهم السديدة وعلومهم الرشيدة"؛ ا.هـ.

لِذَلِكَ تَجِدُ أَنَّ النَّاسَ فِي زَمَنِ الفِتَنِ كَثِير مَا تَخَطَّفُهُمْ آرَاءُ الرِّجَالِ، وَأَهْوَاءُ السفهاء، وَزَلَّاتُ المتعالمين، وَحُظُوظُ النُّفُوسِ، لِهَذَا لَا عَجَبَ أَنْ تَرَى المُتَنَاقِضَاتِ مِنْ اِخْتِلَالِ المَوَازِينِ وَاِفْتِرَاقِ النَّاسِ، وَإِعْجَابِ كُلُّ ذِي رَأْيٍ بِرَأْيِهِ وَإِنْ خَالَفَ الحَقَّ وَالعَقْلَ.. لَكِنَّ عِنْدَمَا يَرْجِعُ النَّاسُ إِلَى لِلعُلَمَاءِ الربانيين وَالسَّمَاعُ لِهُمْ، فَإِنْ هَذَا مِنْ أَعْظَمَ مَا يُعِينُكَ عَلَى الثَّبَاتِ فِي زَمَنِ الفِتَنِ، فَالعُلَمَاءُ يَعْرِفُوا الفتنة وَهِيَ مُقْبِلَةٌ قَبْلَ وُقُوعِهَا، قال الحسن البصري رحمه الله: «العالم يرى الفتنة وهي مقبلة، والناس لا يرونها إلا وهي مدبرة»؛ وَلَا غَرَابه فِي هَذَا فَالعُلَماءَ وَرَثَةُ الأَنْبِيَاءِ جَعَلَهُمْ اللهُ بِمَنْزِلَةِ النُّجُومِ في السَمَاء، يهتَدِي بِهِمْ فِي ظُلُمَاتِ البِرِّ وَالبَحْرِ، بَلْ أَنَّكَ تَجِدُ فِي رُجُوعِكَ لِهُمْ البَصِيرَةَ وَدَفَّعَ الحِيِرَةَ وَالطَّمَأْنِينَةَ وَاِنْشِرَاحَ الصَّدْرِ، يقول ابن القيم عن دور شيخه شيخ الإِسلام ابن تيمية رحمه الله في التثبيت: "وكُنَّا إذا اشتَدَّ بنا الخَوفُ، وساءَتْ مِنَّا الظُّنونُ، وضاقَتْ بنا الأرضُ؛ أتَيْناه، فما هو إلَّا أنْ نراه ونَسمَعَ كَلامَه؛ فيَذهَبَ ذلك كلُّه، ويَنقَلبَ انشراحًا وقوَّةً ويقينًا وطُمَأْنينةً"؛ [ الوابل الصيب].

مُلَازَمَة الصَّالِحِين وَالأَوْلِيَاء وَتَقْوِيَة جُسُورِ التَّوَاصُل مَعَهُمْ، فَالصَّاحِبُ الصَّالِحُ الَّذِي يُعَيِّنُكَ عَلَى طَاعَةِ اللهِ خَيْرَ جَلِيسٍ لَك، فَإِذَا كَانَ اللهُ يَأْمُرُ خَيْرَ الورى قُدْوَة الصَّالِحَيْنِ وَإِمَامُ المُرْسِلِينَ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُجْلِسَ مَعَ الصحابة رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ بُقُولَهُ تَعَالَى: ﴿ وَاصبِر نَفسَكَ مَعَ الَّذينَ يَدعونَ رَبَّهُم بِالغَداةِ وَالعَشِيِّ يُريدونَ وَجهَهُ وَلا تَعدُ عَيناكَ عَنهُم تُريدُ زينَةَ الحَياةِ الدُّنيا وَلا تُطِع مَن أَغفَلنا قَلبَهُ عَن ذِكرِنا وَاتَّبَعَ هَواهُ وَكانَ أَمرُهُ فُرُطًا ﴾ [الكهف: ٢٨].

قال السعدي رحمه الله:
"يأمر تعالى نبيه محمدًا صلى الله عليه وسلم وغيره أسوته في الأوامر والنواهي - أن يصبر نفسه مع المؤمنين العباد المنيبين: ﴿ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾؛ أي: أول النهار وآخره يريدون بذلك وجه الله، فوصفهم بالعبادة والإخلاص فيها، ففيها الأمر بصحبة الأخيار، ومجاهدة النفس على صحبتهم ومخالطتهم وإن كانوا فقراءَ، فإن في صحبتهم من الفوائد ما لا يحصى.

﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾؛ أي: لا تجاوزهم بصرك، وترفع عنهم نظرك.
﴿ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾، فإن هذا ضار غير نافع، وقاطع عن المصالح الدينية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب بالدنيا، فتصير الأفكار والهواجس فيها، وتزول من القلب الرغبة في الآخرة، فإن زينة الدنيا تروق للناظر، وتسحر العقل، فيغفل القلب عن ذكر الله، ويقبل على اللذات والشهوات، فيضيع وقته، وينفرط أمره، فيخسر الخسارة الأبدية، والندامة السرمدية، ولهذا قال: ﴿ وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا ﴾: غفل عن الله، فعاقبه بأن أغفله عن ذكره.

﴿ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ ﴾؛ أي: صار تبعًا لهواه؛ حيث ما اشتهت نفسه فعَله، وسعى في إدراكه، ولو كان فيه هلاكه وخسرانه، فهو قد اتخذ إلهه هواه؛ كما قال تعالى: ﴿ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ... ﴾ [الجاثية: 23]، ﴿ وَكَانَ أَمْرُهُ ﴾؛ أي: مصالح دينه ودنياه، ﴿ فُرُطًا ﴾؛ أي: ضائعة معطلة، فهذا قد نهى الله عن طاعته؛ لأن طاعته تدعو إلى الاقتداء به، ولأنه لا يدعو إلا لما هو متصف به، ودلت الآية على أن الذي ينبغي أن يطاع، ويكون إمامًا للناس مَن امتلأ قلبه بمحبة الله، وفاض ذلك على لسانه، فلهج بذكر الله، واتبع مراضي ربه، فقدمها على هواه، فحفظ بذلك ما حفظ من وقته، وصلحت أحواله، واستقامت أفعاله، ودعا الناس إلى ما منَّ الله به عليه، فحقيق بذلك أن يتبع ويجعل إمامًا..".

إذا الصَّاحِبُ الصَّالِح يُعِينُكَ عَلَى الثَّبَاتِ وَيَشْحَذُ مِنْ هِمَّتِكَ، وَيُقَوِّي مِنْ عَزِيمَتِكَ بِالوُقُوفِ أَمَامَ أَمْوَاجِ الفِتَنِ، وذلك بِالحِكْمَةِ البَالِغَة وبالتَّوَاصِي عَلَى الحَقِّ وَالطَّاعَةِ، وَنَهْجَ سَلْف الأُمَّةِ.

العِبَادَة والإِكْثَارِ مِن الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ فِي زَمَنِ الفِتَنِ، فَالرَّكِيزَةُ العُظْمَى وَالغَايَةُ الأَسْمَى والَّتِي يُحِبُّهَا اللهُ سُبْحَانَهُ، هِيَ العِبَادَةُ الَّتِي خَلْق اللهِ الخَلْقَ لِأَجْلِهَا; قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ ﴾ [الذاريات:56].

وَالعِبَادَةُ: هِيَ اِسْمٌ جَامِعٌ لِكُلٍّ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ مِن الأَقْوَالِ وَالأَعْمَال البَاطِنَة والظاهرة؛ [ابن تيمية، العبودية].

وَتَزْدَادُ فَضِيلَةُ العِبَادَةِ فِي أَوْقَاتِ الفِتَنِ عَنْ غَيْرِهَا، وَذَلِكَ أَنَّ فِي أَوْقَاتِ الفِتَنِ تَطِيشُ العُقُولُ وَيَنْشَغِلُ النَّاسُ بِتَتَبُّعِ الأَخْبَارِ وَيُغْفِلُونَ عَنْ العِبَادَاتِ، مَعَ أَنَّ الاِشْتِغَالَ بِالعِبَادَاتِ وَاجِبُهَا والمستحب منها، مِنْ أَعْظَمِ أَسْبَابِ النُّجَاةِ مِنْ الفِتَنِ، فَقَدْ جَاءَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: "العِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ - وفي رواية - في الفتنة، كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ".

قال الحافظ ابن رجب:
"وسبب ذلك أن الناس في زمن الفتن يتَّبعون أهواءهم، ولا يرجعون إلى دين؛ فيكون حالهم شبيهًا بحال الجاهلية، فإذا انفرد من بينهم مَن يتمسَّك بدينِه ويعبد ربَّه، ويتَّبع مراضيه، ويجتنب مساخطه، كان بمنزلة مَن هاجر من بين أهل الجاهلية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مؤمنًا به، متبعًا لأوامره، مجتنبًا لنواهيه"؛ ا. هـ.

وبِالإِكْثَارِ مِنْ الأَعْمَالِ الصَّالِحَةِ قَبْلَ أَنْ يَتَعَذَّرَ الاِنْشِغَالُ بِهَا، بِسَبَبِ الفِتَنِ المُتَرَاكِمَةِ كَتَرَاكُمِ ظَلَامِ اللَّيْلِ؛ فعنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم قَالَ: "بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ فِتَنًا كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ يُصْبِحُ الرَّجُلُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَافِرًا، أَوْ يُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَافِرًا، يَبِيعُ دِينَهُ بِعَرَضٍ مِن الدُّنْيَا"؛ رواه مسلم.

فأكثروا من الأعمال الصالحة والتَّوْبَةِ إِلَى اللهِ مِن الذُّنُوبِ، وَالذِّكْرِ، وَالاِسْتِغْفَارُ، وَالصَّدَقَاتُ فِي السِرِّ وَالعَلَنُ وَالتَّقَرُّبُ إِلَى اللّه تَعَالَى، فَذَلِكَ يَجْلِبُ التَّوْفِيقُ والثبات كَمَا يُقي مِنْ الوُقُوعِ فِي مَزَالِقِ الفِتَن؛ قال تعالى: ﴿ وَلَو أَنَّهُم فَعَلوا ما يوعَظونَ بِهِ لَكانَ خَيرًا لَهُم وَأَشَدَّ تَثبيتًا ﴾ [النساء: ٦٦].

الدُّعَاء بالانطِرَاح بَيْنَ يَدَيْ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالإِلْحَاحُ عَلَيْهِ بِالدُّعَاءِ؛ قَالَ صلى الله عليه وسلم: «تعوَّذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن»؛ رواه مسلم.

وَأكثر من سُؤَال اللهِ دائمًا أَنْ يُثَبِّتَكَ عَلَى الدِّين، فمِنْ دُعَاءَ الحَبِيبِ صلى الله عليه وسلم: "يَا مُقَلِّبَ الْقُلُوبِ، ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ"؛ رواه الترمذي وأحمد، وصحَّحه الألباني.

وقد قَالَ الله تَعَالَى عَنْ أَهْلِ العِلْمِ وَالإِيمَانِ: ﴿ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾[آل عمران: 8].

أي: «ربنا لا تُزغ قلوبنا»: تملها عن الحق بابتغاء تأويله الذي لا يليق بنا، كما أزغت قلوب أولئك، «بعد إذ هديتنا»: أرشدتنا إليه، «وهب لنا من لَدنك»: من عندك «رحمة»: تثبيتُا، «إنك أنت الوهاب»؛ [ تفسير الجلالين ].

فَكَمْ نَحْنُ بِحَاجَة إِلَى الدُّعَاءِ، سَوَاء كُنَّا عَلَى طَاعَةِ اللهِ أَوْ فِي مَعْصِيَتِهِ، لِذَلِكَ جَاءَ الحَثُّ بالدُّعاء لِتَجْدِيدِ الإِيمَانِ فِي القُلُوبِ، قَالَ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَخْلَقُ فِي جَوْفِ أَحَدِكُمْ كَمَا يَخْلَقُ الثَّوْبُ، فَاسْأَلُوا اللَّهَ تَعَالَى أَنْ يُجَدِّدَ الْإِيمَانَ فِي قُلُوبِكُمْ"؛ صححه الألباني.

فَلَا تَكُن مَنْ أَعْجَز النَّاس، فَالعَاجِزُ مِنْ عَجْز عَنْ الدُّعَاء؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60]، وَثق أنك بالدعاء وحسِن الظَّنِّ به سبحانه يسْتَجِيب الله لَك، قَالَ صلى الله عليه وسلم قالَ: "يقُولُ اللَّه تَعالى: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعهُ إِذَا ذَكَرَني.."؛ متَّفقٌ عليهِ.

فَالدُّعَاءُ عِبَادَةٌ وَسِلَاحٌ عَظِيمٌ، قَدْ لَا تَملِك غَيْرَهُ فِي المُلِمَّاتِ، وأنْعِمَ بِهِ مِنْ سِلَاحٍ لِلمُؤْمِنِ فِي رِحْلَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ.

وَمِنْ عَلَامَاتِ الثَّبَات عَلَى الدِّينِ أَنَّ المُؤْمِن بِاللهِ لَا تَزِيدُهُ الفِتَن إِلَّا تَعَلَّقًا بِهِ وإِيمَانًا وَيَقِينًا، فَهَذَا هُوَ المُؤْمِنُ حَقًّا، فَقَدْ جَاءَ فِي المَسْنَدِ عن عُمَر رضي الله عنه أن رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ كَانَ مِنْكُمْ تَسُرُّهُ حَسَنَتُهُ وَتَسُوءُهُ سَيِّئَتُهُ، فَهُوَ مُؤْمِنٌ"؛ صححه الألباني، فلَا تغتر وَلَا تَسْتَوْحِش مِنْ قِلَّةِ الثَّابِتَيْنِ فِي رِحْلَةِ الثَّبَات، فَالثَّبَات عَزِيز! فَلَا تَنْشَغِل بِالنَّظَرِ إِلَى الَّذِينَ سقطوا فِي وَحْلِ الشُّبهات وَالشَّهَوَاتِ، وَاِنْحَرِفُوا عَنْ جَادَةِ السَّلَفِ الصَّالِحِ؛ قال ابن القيم: قال بعض السلف: "عليك بطريق الحق ولا تستوحش لقلة السالكين، وإيَّاك وطريق الباطل ولا تغتر بكثرة الهالكين"؛ [ مدارج السالكين].

وقال الشيخ صالح الفوزان: "تمسَّك بِدِينِكَ وَلَوْ ضَلَّ أَكْثَرَ النَّاسُ، وَلَوْ أَصْبَحَتْ غَرِيبًا بَيْنَ النَّاسِ، أَصْبِر عَلَى هَذَا مَا دَامَ أَنَّكَ عَلَى الحَقِّ"؛ [شرح كتاب الفتن والحوادث].

فلَا يَكُنْ حَالُكَ كَالَّذِي يُعَبِّدُ الله عَلَى حَرْفٍ إِذَا أَصَابَهُ خَيْرٌ أَوْ رَخَاءً، كَانَ هَادِئٌ البَالِ سَاكِنًا، لَكِنْ عِنْدَ أَوَّلِ صَدَمَه وَأَقَل فِتَنَه تُصِيبُهُ، انتكس بِهَا وَاَنْقَلب عَلَى وَجْهِهِ؛ قَالَ تَعَالَى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الحج: 11].

لِهَذَا المومن لَا تَزِيدُهُ الفِتَنُ إِلَّا قِرَبًا إِلَى اللهِ وَلَيْسَ بُعْدًا أَوْ اِنْقِلَابًا، فَإَنْ آمَنَ بِاللهِ وَاِسْتَقَامَ عَلَى شرعِهِ، فَلَا خَوْف عَلَيْهِ، هَذِهِ وَصِيَّةُ حَبِيبِنَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَمَا جَاءَهُ سفيان بن عبدالله الثقفي رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله، قل لي في الإسلام قولًا، لا أسأل عنه أحدًا بعدك، وفي حديث أبي أسامة: غيرك، قال: قل: "آمنتُ بالله، ثم استقم"؛ رواه مسلم.

وَكَانَتْ هَذِهِ الوَصِيَّةُ مِنْهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُوَافَقَةً لِقَوْلِهِ تَعَالِي: ﴿ إِنَّ الَّذينَ قالوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ استَقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيهِمُ المَلائِكَةُ أَلّا تَخافوا وَلا تَحزَنوا وَأَبشِروا بِالجَنَّةِ الَّتي كُنتُم توعَدونَ ﴾ [فصلت: ٣٠].

"ولمَّا ذكر الله جزاء أعدائه ذكر جزاء أوليائه، فقال: إن الذين قالوا: ربنا الله، لا رب لنا غيره، واستقاموا على امتثال أوامره، واجتناب نواهيه، تتنزل عليهم الملائكة عند احتضارهم قائلين لهم: لا تخافوا من الموت ولا مما بعده، ولا تحزنوا على ما خلَّفتم في الدنيا، وأبشروا بالجنة التي كنتم توعدون بها في الدنيا على إيمانكم بالله وعملكم الصالح"؛ [المختصر في التفسير].

فَالإِيمَانُ وَالاِسْتِقَامَةُ عَلَى شِرَعِهِ تُوجِبُ قُوَّةُ التَّوَكُّلِ عَلَى اللهِ وَالاِسْتِعَانَةِ بِهِ فِي جَمِيعِ الأَعْمَالِ، وَالإِنَابَةُ وَاللُّجُوءُ إِلَيْهُ فِي كُلٍّ النوازل والمدلهمات، فَيَمْتَلِئُ القَلْبُ بِالأَمْنِ وَالطَّمَأْنِينَةُ وَالثَّبَاتُ عَلَى الدِّينِ فِي الفتَنِ.


ختامًا:
نَسْأَلُ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ لِنَّا جَمِيعًا الثَّبَاتُ فِي رِحْلَةِ الثَّبَاتِ عَلَى الدِّينِ، وَالعَزِيمَةِ عَلَى الرُّشْدِ، كما نَسْأَلُهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى مُوجِبَات رَحْمَته وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِهِ، وَأَنْ يَقِينَا الفِتَنَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بطَنَ إِنَّهُ سَمِيعُ الدُّعَاءِ.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.90 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 26.27 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.33%)]