باب: (إثم مانع الزكاة)
الشيخ د. عبدالله بن حمود الفريح
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله: «ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأحمي عليها في نار جهنم، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره، كلما بردت أعيدت له، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله؛ إما إلى الجنة وإما إلى النار»، قيل: يا رسول الله فالإبل؟ قال: «ولا صاحب إبل لا يؤدي منها حقها، ومن حقها حلبها يوم وردها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر أوفر ما كانت، لا يفقد منها فصيلًا واحدًا، تطؤه بأخفافها وتَعَضُّه بأفواهها، كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يُقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، قيل: يا رسول الله فالبقر والغنم؟ قال: «ولا صاحب بقر ولا غنم لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة بطح لها بقاع قرقر، لا يفقد منها شيئًا، ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء تنطحه بقرونها وتطؤه بأظلافها، كلما مر عليه أولاها ردَّ عليه أخراها في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة، حتى يقضى بين العباد، فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار»، قيل: يا رسول الله فالخيل؟ قال: «الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر، فأما التي هي له وزر، فرجل ربطها رياءً وفخرًا ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر، وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينسَ حقَّ الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر، وأما التي هي له أجر، فرجل ربطها في سبيل الله لأهل الإسلام في مرج وروضة، فما أكلت من ذلك المرج أو الروضة من شيء، إلا كتب له عدد ما أكلت حسنات، وكتب له عدد أرواثها وأبوالها حسنات، ولا تقطع طولها فاستنت شرفًا أو شرفين إلا كتب الله له عددَ آثارها وأرواثها حسنات، ولا مر بها صاحبها على نهر فشرِبت منه، ولا يريد أن يسقيها، إلا كتب الله له عددَ ما شربت حسنات»، قيل: يا رسول الله، فالحمر؟ قال: «ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذَّة الجامعة: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]»؛ رواه مسلم.
ومن قوله: «الخيل ثلاثة..» إلى آخر الحديث عند البخاري من حديث أبي هريرة أيضًا، وفي رواية له: «من احتبس فرسًا في سبيل الله، إيمانًا بالله، وتصديقًا بوعده، فإن شبعه وريه وروثه وبوله في ميزانه يوم القيامة».
شرح ألفاظ الحديث:
((ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها)): وأعظم حق هو أداء زكاتهما، وقوله: (حقها) ظاهره هاء التأنيث ضمير يعود على الفضة؛ لأنه أقرب مذكور، وفي هذه الحالة يكون ذكر الذهب لا فائدة منه وهذا غير مراد بلا شك، والأفضل أن يقال: الذهب والفضة، يقال لهما: (عين) لغةً، والعين مؤنثة والضمير يعود عليها.
((صفحت له صفائح من نار)): الصفيحة كل شيء عريض من حجارة أو لوح ونحوهما، وجمعها صفائح؛ [انظر لسان العرب 7 / 355].
((كلما بردت أُعيدت له))؛ أي: إن هذه الصفائح لا تترك حتى تبرد وتزول حرارتها، ولكنها كلما بردت أُعيدت وأُحميت في نار جهنم.
((ومن حقِّها حلبها يوم وردها)): (حلبها): بفتح اللام على المشهور وحُكي إسكانُها، ويوم وردها؛ أي: حين ترد الماء لتشرب، وهي ترده في كل ثلاثة أو أربعة أيام، وربما في ثمانية، فمن حقها أن تحلب في ذلك اليوم، واختلف في هذا الحق، وسيأتي شيء من بيانه في الحديث القادم، فقيل: يُسقى المارة من ألبانها لاجتماعهم على المياه، وهذا على سبيل الاستحباب، وقيل: تحلب للرفق بها؛ لأن في حلبها قبل أن ترد الماء يلحقها مشقتان: مشقة العطش ومشقة الحلب؛ [انظر عون المعبود شرح سنن أبي داود للعظيم آبادي 5 / 53].
((بطح لها)): أي ألقي هو على وجهه لهذه الإبل، وقيل: البطح هو البسط أيًّا كان على الوجه أو غيره، ومنه سُميت بطحاء مكة لانبساطها.
((بقاع قرقر)): أي بمكان مستو واسع، والقاع أصله المكان المنخفض الذي يستقر فيه الماء، والقاع جمعه قيعة وقيعان، والقرقر المستوي الواسع من الأرض أيضًا، وهو بفتح القافين.
((أوفر ما كانت)): وفي الرواية الأخرى عند مسلم: (أعظم ما كانت)، وفي هذا بيان لكثرتها وقوتها، وكمالها وثقل وطئها، وفي هذا بيان لشدة العقوبة.
((لا يفقد منها فصيلًا واحدًا)): الفصيل: هو ولد الناقة حين يفصل عن أمه، والحوار إذا فُطم سُمي فصيلًا، ((كلما مر عليه أولاها رد عليه أخراها)): أي كلما مر عليه أولى هذه الماشية رد عليه أخراها، وقيل: إن في العبارة قلبًا وتغييرًا، والصواب أن يقال: (كلما مر عليه أخراها رد عليه أولاها)؛ لأن الأول هو الذي يرجع ويرد، وأيَّد هذا القاضي عياض؛ [انظر شرح مسلم للنووي 7 / 68]، وقيل: إن العبارة صحيحة لا قلب فيها، وهي هكذا في جميع الأصول وأيَّد هذا القرطبي؛ [في المفهم 3 / 27].
((ليس فيها عقصاء ولا جلحاء ولا عضباء)): والعقصاء هي: الملتوية القرن، ويقال: رجل أعقص؛ أي فيه التواء وصعوبة أخلاق؛ [انظر المفهم 3 / 26]، والجلحاء: هي التي لا قرون لها.
والعضباء: هي التي انكسر قرنها الداخل، وفي هذا بيان أنها ذات قرون لا عيب فيها؛ لتكون أنكى وأقوى في الطعن والنطح.
وقيل: إن العضباء يكون قطعها في الأذن، ولذا ناقة النبي - صلى الله عليه وسلم - تسمى (العضباء)، وقيل: الأعضب في القرن والأذن.
((وتطؤه بأظلافها)): الظلف يكون للبقر والغنم والظباء، وكل دابة مشقوقة القوائم، والخف للبعير، والحافر للفرس والبغل والحمار، والقدم للآدمي.
((الخيل ثلاثة: هي لرجل وزر، وهي لرجل ستر، وهي لرجل أجر)): فيه بيان أصناف الناس في اتخاذهم الخيل والوزر هو الإثم.
((رياءً وفخرًا)): فخرًا؛ أي تعاظمًا، ورياءً: هو إظهار للطاعة وإبطان خلاف ذلك.
((ونواءً على أهل الإسلام، فهي له وزر)): نواءً بكسر النون، والمناوأة هي المعاداة، والمقصود أنه اتخذها عداءً على أهل الإسلام.
((ربطها في سبيل الله)): أي أعدها للجهاد في سبيله.
((في مرج وروضة)): المرج موضع الكلأ والمرج أكثر ما يطلق على الموضع المطمئن، و الروضة أكثر ما تطلق على الموضع المرتفع.
((ولا تقطع طولها فاستنت شرفًا أو شرفين)): طولها بكسر الطاء وفتح الواو، ويقال: طيلها كما في رواية البخاري، والطول والطيل هو الحبل الذي تربط فيه وتمد لها لترعى.
((فاستنت)): أي جرت ورعت، والشرف: المكان المرتفع.
((ما أنزل علي في الحمر شيء إلا هذه الآية الفاذة الجامعة)): الحمر: جمع حمار، والفاذة: القليلة المثيل والنظير، الجامعة: أي العامة الشاملة لكل خير ومعروف.
((وتصديقًا بوعده)): أي تصديقًا بالذي وعد به من الثواب على ذلك.
((شبعه)): بكسر أوله والمقصود ما يشبع به.
((ريه)): بكسر الراء وتشديد الياء والمقصود ما يرتوي به إذا شرب.
من فوائد الحديث:
الفائدة الأولى: في حديث الباب دلالة على عظم إثم مانع الزكاة.
الفائدة الثانية: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - في الباب فيه بيان عقوبة مانع الزكاة الأخروية.
وهي كما يلي:
أولًا: مانع زكاة الذهب والفضة.
أ - تصفح له صفائح من نار، فيحمى عليها في نار أعظم من نار الدنيا بتسع وستين جزءًا وهي نار جهنم.
ب - يكوى بهذه النار مانع الزكاة في جنبه وجبينه وظهره وكما في سورة التوبة: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ ﴾ [التوبة: 34، 35]، واختلف في سبب تخصيص هذه المواضع بالكي، فقيل لتقطيبه وجهه في وجه السائل، وازوراره عنه بجنبه وانصرافه عنه بظهره؛ [انظر المفهم للقرطبي 3 / 25].
وقيل: لاستيعاب جميع جهات الجسم، فيكوى في جميع نواحي الجسم، فالجبهة من الأمام والظهر من الخلف، والجنبان من الجوانب عن يمينه وشماله.
ج - أن هذه الصفائح التي أُحميت لا تترك حتى تبرد وتزول حرارتها، بل كلما بردت أُعيدت فأُحميت.
د – أن مدة العذاب مدة طويلة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد.
ثانيًا: مانع زكاة الإبل أو البقر أو الغنم:
أ – أنه يلقى إما على وجهه أو على صفة أخرى في موضع مستوٍ واسع.
ب – أن هذه الإبل تأتي يوم القيامة بكثرتها وقوتها وكمالها وثقلها، فتطؤه بأخفافها وتعضه بأفواهها، لا يفقد منها شيئًا حتى ولد الناقة الصغير الوليد الذي فُصل عن أمه، وأما البقر والغنم فإنها تأتي عليه بقرونها القوية في نكايتها ونطحها، فهي ذات قرن ليس بملتو ولا مكسور.
ج – أن هذا العذاب يتكرر على مانع الزكاة من هذه الماشية، فهي تفعل به كذلك ثم تعود عليه مرة أخرى مرة بعد مرة.
د – أن مدة هذا العذاب مدة طويلة في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد.
الفائدة الثالثة: في الحديث دلالة على أن مانع الزكاة بخلًا لا يكفر لقول النبي - صلى الله عليه وسلم: ((فيرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار))، ووجه الدلالة: أنه لو كان كافرًا لم يكن له سبيل إلى الجنة أبدًا.
والقول الثاني: أن مانع الزكاة بخلًا يكفر وهو رواية عن الإمام أحمد؛ (انظر المغني 4 / 8).
واستدلوا: بمفهوم: ﴿ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ [التوبة: 11].
ووجه الدلالة: أن مفهوم الآية أنهم إذا لم يؤتوا الزكاة، فليسوا بإخوان لنا في الدين.
والأظهر والله أعلم القول الأول لقوة دليله، ولأنه دليل منطوق، والمنطوق مقدم على المفهوم كما في قواعد الأصول، والمفهوم هو دليل القول الثاني، وأما من منع الزكاة جاحدًا لوجوبها فهو كافر بإجماع العلماء، كما تقدم في أول كتاب الزكاة.
الفائدة الرابعة: قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: (وأما التي هي له ستر، فرجل ربطها في سبيل الله، ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها، فهي له ستر وأما التي هي له أجر).
استدل به من يقول أن في الخيل زكاة كما في الغنم والبقر والإبل زكاة، وهذا القول هو قول أبي حنيفة رحمه الله؛ حيث استدل بقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ثم لم ينس حق الله في ظهورها ولا رقابها))، فقال: حق الله هو الزكاة.
والقول الثاني: أنه ليس في الخيل زكاة، وهو قول جمهور العلماء وهو القول الراجح والله أعلم،
ويدل على ذلك: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - المتقدم: ((ليس على المسلم في عبده ولا فرسه صدقة))، ولعدم الدليل الدال على وجوب الزكاة في الخيل، وأما ما استدل به أصحاب القول الأول، فليس فيه دلالة، فيحتمل أن يكون المراد بالحق هو إخراجها للجهاد في سبيل الله عند التعين للخروج، أو يكون المراد الإحسان الواجب إليها من القيام بعلفها وسائر مؤنها، أو الصدقة بما اكتسبه منها عند الضرورة، أو غير ذلك من التأويلات المحتملة.
الفائدة الخامسة: في الحديث دلالة على اختلاف الناس في اتخاذهم للخيل، فقد يكون اتخاذها مطلوبًا ومرغوبًا فيه كمن يتخذها أجرًا، ومن يتخذها سترًا، فكلاهما ربطها في سبيل، ومن اتخذها أجرًا أعظم ثوابًا، وهو المقصود في قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة))؛ متفق عليه.
وسيأتينا في بابه بإذن الله تعالى؛ لأنه اتخذها طاعة، وقد يكون اتخاذها ممنوعًا وذلك إذا كان اتخذها معصية، كأن يتخذها ليرائي بها الناس، فيظهر إرادة الخير والطاعة فيها، ويبطن خلاف ذلك، أو كأن يتخذها ليفاخر فيها ويتعاظم على غيره بها، أو كأن يتخذها ليعادي بها أهل الإسلام.
الفائدة السادسة: في الحديث دلالة على أن الإنسان قد يؤجر على التفاصيل التي تقع في فعل الطاعة ما دام أنه قصد أصلها، وأصلح نيته فيها، وهذا فيمن ربط خيله في سبيل الله، وكذلك في الحديث الآخر من احتبس فرسه في سبيل الله بنية صادقة، إيمانًا بالله وتصديقًا بوعده، فإن ما يحصل من تفاصيل أخرى تكون في ميزان حسناته، وهذا من فضل الله الواسع، فإنه يُكتَبُ له عددُ ما أكلت هذه الخيل من الروضة أو المرج، وعدد ما شربت من نهر مرت به حسنات، وإن لم يقصد ذلك، وكذلك عدد أرواثها وأبوالها وآثارها وشِبَعها ورِيها، كل ذلك في ميزانه يوم القيامة، وهذا من فضل الله الواسع، وفيه بيان ربط الخيل وحبسها في سبيل الله، وبهذا يتضح قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة)).
الفائدة السابعة: في حديث الباب دلالة على أن من اقتنى الحمير لطاعة يعملها بها، فقد رأى ثواب ذلك، ومن اقتناها لعمل معصية رأى عقاب ذلك، ووجه ذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حينما سئل عن الحمر لم يفصل فيها كما فصل في الإبل والبقر والغنم والخيل، وإنما استدل بعموم قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 7، 8]، وفي هذا دليلٌ على الاستدلال بالعموم حتى يأتي دليل على التخصيص، وفيه بيان الفرق بين الحكم الخاص المنصوص والعام الظاهر، وأن العام الظاهر دون الخاص المنصوص في الدلالة؛ [انظر الفتح (6 / 81) حديث (2860)].
الفائدة الثامنة: حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - وقول النبي - صلى الله عليه وسلم –: ((ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها))، استدل بعمومه من قال بوجوب زكاة الحلي المستعمل على المرأة، واختلف في هذه المسألة على قولين:
القول الأول: وجوب الزكاة في الحلي المستعمل إذا بلغ نصابًا.
وهذا ما أفتى به ابن مسعود رضي الله عنه، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ورواية عن أحمد رحمهم الله جميعًا (انظر المغني 4 / 220)، واختاره الثوري والأوزاعي وابن حزم (في المحلى 6 / 92)، ومن المتأخرين الصنعاني (في سبل السلام 2 / 263)، والشيخ ابن باز وشيخنا ابن عثيمين رحمهم الله (في مجموع فتاواه 18 / 157)، واستدلوا بأدلة عامة وأدلة خاصة.
أدلتهم العامة:
1- عموم قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34]، وعموم قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث الباب (ما من صاحب ذهب ولا فضة، لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة، صفحت له صفائح من نار، فأُحمي عليها في نار جهنم)؛ الحديث.
ووجه الدلالة: أن عموم الآية والحديث يوجب الزكاة في جميع أنواع الذهب والفضة إذا بلغت نصابًا، ومن ذلك زكاة الحلي، ومن قال بخروج الحلي المباح من هذا العموم، فليأت بالدليل، وأن المراد بالكنز في الآية هو مالم تؤد زكاته، وهذا مروي عن ابن عمر وجابر - رضي الله عنهما- وغيرهما.
ونوقش هذا الاستدلال بما يلي:
أولًا: الآية لا تدل على وجوب زكاة الحلي المستعمل لأربعة وجوه:
1 – أن هذه الآية لها منطوق ومفهوم، فمنطوقها يدل على تحريم اكتناز الذهب والفضة إذا لم تؤد زكاتهما، ومفهومها يدل على أن الأشياء التي لا تعد كنزًا ليست مقصودة في هذه الآية، فلا يجب إنفاق شيء منها، وما أعد للبس والاستعمال كالحلي والخاتم والأنف وغيرها، لا تعد كنزًا لا لغة ولا شرعًا؛ لأنها خرجت بالاستعمال عن كونها كنزًا.
2- أن المراد بالمكنوز من الذهب والفضة في الآية الدراهم والدنانير للأثر والنظر.
فأما الأثر، فإن هذا التفسير هو المنقول عن ابن مسعود - رضي الله عنه؛ [انظر تفسير ابن كثير (4 / 83) والدر المنثور (7 / 333)].
وأما النظر، فلأن النقود هي التي تكنز وتنفق، وأما الحلي المستعمل فليس معدًّا للإنفاق، بل هو معد للزينة، والله عز وجل يقول: ﴿ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [التوبة: 34].
3 – أن إدخال الحلي المستعمل من الذهب في عموم الآية؛ لأنه كنز لم تؤد زكاته؛ استدلالًا بقول ابن عمر وجابر- رضي الله عنهما- لا يصلح أن يكون حجة؛ لأنهما ممن يذهب إلى القول بعدم وجوبهما كما سيأتي، وهما أعلم الناس بدلالة قولهما، وهذا يدل على أنهما لا يقصدان دخول الحلي المستعمل في الكنز المراد بالآية، وإلا لكان في رأيهما تناقض، والأَولى أن يقال قولهما في تفسير الكنز في الآية عام، وفتياهما بعدم وجوب زكاة الحلي خاص، والخاص مقدم على العام.
4 – لو قلنا بالاستدلال بعموم الآية على وجوب زكاة الحلي، فإن هذا العموم مخصوص بعمل جمع من الصحابة، وفتاواهم بعدم وجوب زكاة الحلي المستعمل، وهم أقرب الناس للتنزيل والأعلم بالتأويل، ولو كان الاستدلال صريحًا، أو فيه ما يدل على وجوب زكاة الحلي المستعمل، لَما خالفوه بأعمالهم وأقوالهم؛ مما يدل على أن الآية لا تكون دليلًا على وجوب زكاة الحلي المستعمل.
يتبع