عرض مشاركة واحدة
  #9  
قديم 22-11-2021, 02:20 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 158,410
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر لغة شعر باكثير في المرحلة اليمنية

كم سكِرْنا وكم طرِبنا به وال
عيشُ كالخُلد، والزمان غلامُ

نتحسَّى من أبلغ الشِّعر خمرًا
مستلذًّا حديثُها والفِدامُ[40]


فالكلمات من أجواء العصرِ العباسي، لا سيما عند أبي نواس وصحبِه، وظِّفت لوصفِ ديوان حافظ، من غير أن يبعث الوصفُ على تجديدِ الكلمات، وإعادة التصوير، في دلالةٍ على أنَّ الوعي باللغة الشعرية لم يحصل له تغيُّرٌ واضح لصالح المعاصرة إلا في إطار ضيِّقٍ، ومن ثم لم تكتسبْ ملامحُ الأسلوب المعاصر حضورًا، كالأسلوب القديم الذي ظلَّت استعادتُه مستمرةً في حالٍ توحي بالتجاوز إلى الوراء، في ظلِّ وضع شعري كان أثرُ ما سمِّي بعصر الانحطاط ما يزال باديًا في ملامحه العامة، لا سيما في اليمن[41].

وعلى أية حال لا يعني حضورُ الأسلوب القديم - سواءٌ كان بصيغةٍ مباشرة أو غير مباشرة - إلا رُوحَ الدِّيوان نفسَها، فالابتعاد عنه استمرارٌ لغياب الذات عن وجودها الذي تريد له أن يكونَ حيًّا في ذلك الوقت (عصر الإحياء)، من خلال استحضارِ تراثها الشعري نقيًّا وقويًّا، بحيث يتجسَّد حضورُه أكثرَ من الحاضر، لا سيما أن هذا الأخيرَ لَمَّا يزَلْ في طور التشكُّلِ، فعمِل الماضي على تمثيل الحاضر تمثيلاً كبيرًا على مستوى اللغة التي يمكِنُ أن تتقبَّلَ هذا بصورة أو بأخرى أدبيًّا كما جرى في عصورٍ متعددة؛ إبرازًا للشخصية الشعرية، وحفاظًا عليها في بحثها عن نفسها، ليتمَّ التجاوزُ بعد ذلك، بغضِّ النظر عما يمكنُ أن توصفَ به تلك الحركة بأنها ارتجاعيةٌ أو انتكاسية، ما دامت تسعى لإمكانيةِ استعادة الذات، في خطوةٍ بدت كالضرورة، أو اقتضتها طبيعةُ العصر، تلك الحركةُ على ما يمكن أن تُتَّهمَ به من قَدَامةٍ، حملت فعْلَ التنقل بين أساليبَ متعددة، ومن ثم حدست ببداية التحوُّلِ الذي سيحمله قادمُ الأيام، ليس عبر حركةٍ متنوعة إلى الوراء، بل إلى الأمام، لا سيما بعد زيادة تأثُّرِ الشاعر بالآداب الغربية لاحقًا.

وإذًا ينبئ الجمعُ بين الأسلوب القديم والأسلوب المعاصر على مستوى النصوص - على الرغم من هيمنة القديم - عن ابتداءِ حركةِ العصر في شعر باكثير ولو وئيدًا، بوصف الجمع - مجرد الجمع - يشير إلى إمكانية التحوُّلِ والتشكُّلِ الأول في مرحلة انتقاليةٍ انفعل بها شعرُ باكثير بصورة تحددت من خلالها إمكانيَّته في نسج بدايتِه المعاصرة بالطريقة التي أسلفنا، وسنعرض الآن لكيفياتٍ معاصرة أخرى وضوحًا، من ذلك قولُه واصفًا:

الليلُ جونٌ دامس
والريح عاتيةٌ وصَرْصَرْ

تكسو الظلامَ مدارعًا
من عِثْيَرٍ يُزجَى بعِثْيَرْ

وتمرُّ تدوي في الشقو
ق تحسب الآسادَ تَزْأَرْ

يا وحشةَ الليل البهي
م تبيتُ فيه الرُّوحُ تَزفِرْ



ما ذا الظلامُ بدائمٍ
فكأنني بالصبح أسفَرْ[42]



إذ يلحظ فيها القارئُ طريقةَ الوصف الشعرية المعاصرة المتأثِّرة - فيما يبدو - بقصيدة مطران المساء؛ إذ استطاعت أن تستغلَّ قوةَ الكلمات القديمة وشدتها: (جون دامس/ صرصر/ مدارعًا/ عثير/ الآساد تزأر) فحولتها لصالحها، من حيث إنها وظَّفتها أو أفادت من خشونتِها القديمة في عَرض زمنٍ مخيف: (ليل جون دامس، ليل بهيم)، وأمكنة مخيفة: (شقوق)، و(ريح عاتية صرصر تثير العثير يتلوه العثير، وتدوي كأنما تزأَر خلالها الآساد)، وهي علاماتٌ حسية خارجية عمِلت على الضد من دلالتها حين أبانت عن خلَجات الذات ووحشتِها الشديدة في الغربة بتراكمِها في موقع واحد، فضلاً عن ترافدها بتكرار: (الليل الليل/ الظلام الظلام/ العثير العثير، (الغبار الغبار)/ الجون - الدامس أو الشديد الظلمة الشديد الظلمة/ الريح الريح)، بحيث تتكثف الوحشةُ داخلاً وخارجًا كأنها الوحشةُ المطلقة في وجه السعادة التي بدت وكأنها انتهت إلا من أملٍ خفيف في آخر الأبيات، وحكمة عتيقة يحملها بيتٌ وحيد، في دلالةٍ على أن البُعدَ الكلاسيكي ما يزال يمتلك إمكانيةَ الظهور، وإن بصورة أقل؛ إذ تأخذ قدرتُه على حمل القارئ إلى المعنى العام الشائعِ في الخفوت والتضاؤل، من حيث الكمِّ، بل إن ضعفَ هذا البُعد يشير إلى ابتداء المستجدِّ وتوسيعه من خلال تنزيل معاني الكلمات القديمةِ، ودلالتِها في السياق المعاصر، بتحويلها إلى كلماتٍ خاصة من خلال توظيفِها في معنى خاص، يعمل على الانتقال بالدلالة إلى مستوى مختلفٍ من خلال ما تُثيره من إيحاءات تنفتح على احتمالاتِ الخوف من المجهول وحركتِه التي تحمل صفةَ الواسع والمطلق، رغم محدودية المثير - المصيبة (وفاة زوجته الأولى) الذي تحوَّل إلى رمزٍ في نفس الشاعر ينطلق في كثيرٍ من قصائده كلما حلَّت مصيبة، (والسِّياق العام للقصيدة هنا هو مقارعةُ الملِك عبدالعزيز لخصومه)، وفي هذا ما يدلُّ على مداخلة النفسيِّ للعام الذي ساعد بصورةٍ أو بأخرى في حمل الأبياتِ على انفتاح المطلق، في ظلِّ إشارة سريعة إلى حدَث الوفاة (خطف الزمان حبيبه) الذي يذهب في التلاشي مركِّزًا حضوره في كثافة الفعل الفنيِّ اللغوي التصويري مرتكزِ الوجود الشِّعري، حيث يَغيب تفصيلُ الواقعة الأصل (بخلاف ما سبق من أمثالٍ كانت تمضي فيها الوقائعُ مفصَّلةً بيِّنة مؤكِّدة على فعل الحضور في الواقع، وعبْر جملٍ ومقاطعَ متماثلةِ الصفات اللغوية والمعنوية).
وفي هذا السياق يمكِننا أن نقفَ أيضًا عند قوله مخاطبًا نساءَ مصر بعد وفاة حافظ:
والذي صاغكن درًّا وحلاَّ
كنَّ حُسنًا تعنو إليه الهامُ

لو أقمتنَّ مأتمًا فيه نُحتُنْ
نَ عليه كما ينوحُ الحَمامُ

وسكبتنَّ أدمعًا من مآقي
كنَّ سَحًّا كما يسُحُّ الغَمامُ

فغسلتنه بها، وقدَدْتُنْ
نَ رداءً خيوطُه الأحلامُ

فلففتنَّه به، ونثرتنّ
نَ ورودًا لها الخدم كِمامُ


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 20.70 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.07 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (3.03%)]