عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 22-11-2021, 03:16 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,748
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر لغة شعر باكثير في المرحلة اليمنية

أنتم ثلاثةُ إخوة
ستُقاودون إلى السعير

إني البشيرُ لمن ثوى
منكم، وللباقي نذير [24]


الغاية من وراء هذه الإطالة في الاستدلال إيضاحُ أن المقاطع في النصين تتكرَّر تقريبًا، من حديث عن إهدار الدماء، إلى امتداح للملك عبدالعزيز آل سعود، إلى ذمِّ خصومِه، (وسيأتي شيءٌ من توضيح ذلك لاحقًا)، وأنه يتحرَّك خلف كل جملةٍ الموقفُ نفسه تقريبًا، وأن كل جملة تستدعي أختَها تماثلاً أو تقاربًا، سواء داخل النص، أو في نص آخر، فثمة إذاعةٌ واضحة للموقف والفكر، ودعوة إليه تؤكِّد سعي الشاعر لإبلاغ رسالته جليًّا من جهة، وتشير إلى أن اندفاع الجُمل والتراكيب - متوافقةً أو شبهَ متوافقة في النصوص - يتم بفاعليةِ هذا الإبلاغ المباشر والمحدد من جهة أخرى، فمن النداء نقرأ: (يا أمة العرب ص78)[25]، (يا أمة المصطفى، ص154)، (يابن لُيوث المعمعة، ص78)، (يا أسد الغريف ص80)، (إمامنا عبدالعزيز، ص79)، (مليكَنا يابن السعود، ص79)، (بَنِي الدين الحنيف، ص80)، ومن الأمر نقرأ: (أرِ العدو موضعه، ص78)، (وذكرنه مصرعه، ص78)، (هبوا بَني الدين الحنيف، ص80)، (هبوا بني العرب الكرام، ص84)، (ذُبوا عن البيت الحرام، ص80)، (ثُوبوا إلى هَدي النبي، ص106)، (قم فأعِدْها جَذعة، ص78)، (قوموا لدينكم، ص154)، (خُضِ البحار، ص151)، (جل في السهل والجبل، ص151)، (جاهدوا، ص154)، (اضرب بسفيك من بَغَوا، ص138)، (تسلحوا بعلوم الكون، ص154)، ومن النهي نقرأ: (لا تترك الوقت يضيع، ص78)، (لا تتركا فرص الزمان، ص86)، (لا تتركوا البيت يضام، ص80)، ومن النفي نقرأ: (لا يرهب الموت الزؤام، ص78)، (لا نهاب الموت، ص93)، ومن الاستفهام نقرأ: (أفكلما نهض الفتى منهم بأمته تعثر؟! ص82)، (أفكلما ابتسم الزمان بسيد منهم تنكر؟! ص82)، (أين الإباء اليعربي؟ ص84)، (أيعود ماضينا المجيد؟ ص84)، (أتراه يقبل ثانيًا؟ ص84)، ومن الجمل الخبرية نقرأ: (نار وغى تلتهب، ص76)، (أسد حرب تثب، ص76)، (يجدِّد الدين الحنيف، ص79)، (يحفظ الشرع المنيف، ص79)، (يذود عن دار النبي، ص79)، (نحن للعز خُلقنا، ص93)، (نحن أبناء الرجال، ص93)، (نحن أُسْد، ص93)، (فلأنت ذخر في الخطوب، ص137)، (وأنت في الظلمات نور، ص137)، (فأمامك الأَسد الهصور، ص137)، (وخلفك الأسد الهصور، ص137)، (أَنقذت مهدَ الدين، ص137)، (حفِظت مجد العرب، ص137)، (نأنف الضيم ونأبى، ص93)، (نشرب الموت شرابا، ص93)، (هدم السعودي القباب، ص83)، (برانا الله نورًا، ص93).

كل جملة تسابق الأخرى للوصول إلى الغاية المبتغاة، في تكثيفٍ للحس الرسالي الذي تكثر معه هذه الأساليبُ من النداء، والأمر، والنهي، والنفي، والإخبار... إلخ، مما هو مستمدٌّ من صرامة الاندفاع الأيديولوجي عادة، كما تُذكر في أثناء تلك الأساليبِ الأسماءُ الأعلام وصفاتها سلبًا أو إيجابًا، كالملك عبدالعزيز (الشهم البدوي، ص78/ المليك اليعربي، ص79/ مجدد الآمال، ص134/ مطهر الحرمين، ص137/ الفارس البطل الشهير، ص137)، وكابن رفادة (الكلب المؤجر، ص81)، وغير ذلك مما يمنح لغةَ النصوص بُعدًا تاريخيًّا، ترسخ وقائعُه بهذه الأساليب القادرة على تعزيز النمطية محملةً بتلك الدلالات المتكررة، وتفاعلها مع الأسماء في إنجاز هويةِ النص الذي يبدو مألوفًا بمثل هذه العبارات النسقية المعهودة في مثل هذه المواقف والحالات الانفعالية الأيديولوجية، وعند شاعرٍ ما يزال في أول الشباب الشِّعري والعُمْري يتفاعل مع حدَثٍ تاريخي كبير.

لقد أسهمت تلك الآليةُ في إنشاء الجمل بمعانيها البلاغية والنحوية - فيما يبدو - في إنشاءِ سياق النص كاملاً، وتكوينه بصورة أوسع؛ وذلك بتجميعِه من نقاط مختلفة: ثناء، ولوم، وتحريض، وتهييج، ونُصح، وتوجُّع، وتألُّم، وهجاء، وسخرية، واستغاثة.. إلخ، في متوالية من الإرسال تقوم على التقاط نقاطٍ متنوعة، سمحت بإطالة القصائد وتقسيمها إلى مقاطعَ؛ كما في قصيدة: (يا من لليل العرب طال)، التي حوت سبعة مقاطعَ، حوى المقطع الأول منها: آلامَ السفر، ووحْشة الغربة، وحوى الثاني: التوجعَ والحسرة لِما يحيق بالأمة من دسائسَ وخيانات، والسخرية، في أثناء ذلك، من البدع التي تدَّعي أنها الدين، وحوى المقطعُ الثالث الثناءَ على شجاعة الملك عبدالعزيز، وغيرتَه على الدِّين، وقدم الرابع النصح والتوجيه لردم الخلاف بين أبناء الأمَّة العربية، وأبناء الأمة الإسلامية، وحرَّض المقطعُ الخامس على الثورة وطردِ الاستعمار، وحوى السادس التحسُّرَ على ضياع الماضي التَّليد، وتضمَّن المقطعُ السابع مناصرةَ الملك عبدالعزيز على مجاهدة خصومة، داعيًا إياه للاتحاد مع إمام اليمن حينئذ يحيى حميد الدين.

وقصيدة (ماذا في عسير؟) التي حوت سبعة مقاطعَ بنقاط مماثلة، وكذا قصيدة (بطل التذكير) التي اشتملت على ستة مقاطع، وغيرها، بحيث يكاد كلُّ مقطع يستقل بعنوان محدد.

بمعنى أن الخصائصَ والصفات اللغوية التي حمَلتها الجمل مجموعةً - والتي تمت الإشارةُ إلى بعض تفصيلها فيما سبق - هي صفاتُ كل نص مما ذكر، وخصائصه في صيغته العامة، فلم يحدث للغةٍ أن تشابكت وتقاطعت محدِثةً دلالاتٍ متغايرةً داخل النص الواحد، ولعل المنتديات والنواديَ الإصلاحية الموجودة في عدن حينئذ - كنادي الإصلاح الإسلاميِّ العربي الذي أسِّس سنة 1929م، ونادي الأدب العربي الذي أسِّس سنة 1925م[26] - ساعدت في شيوع الصِّيغ والدلالات العامة ذاتِ الصِّبغة الخطابية والحماسية، وما يرتبط بها عادةً من تفصيل الأفكار وتَكرارها.

وفي هذا السياق تجدر الإشارةُ إلى تكرار اللوازم في أناشيدِ باكثير الأيديولوجية الحماسية كاللازمة:
أقبل يوم العقبَة
يوم تُفكُّ الرقبَة

ها هو ذا ما أقربَه
له بحطينَ شبَه


(صلاحه عبدالعزيز) [27] فقد كرِّرت إحدى عشرة مرة، في (نشيد يوم العقبة).

وكاللازمة:
يا دولةَ الجنوب
فقد كرِّرت ثماني مرات، في (نشيد دولة الجنوب) [28].

يؤدي التَّكرار وظيفة صياغية اقترانية؛ لاتصاله بكل مقطعٍ، وهو هنا وحدةٌ نغمية حماسية ووثوقية، تدفع بدلالات التشجيع والتحريض والتأييد والامتداح والانفعال.. قدمًا، مانحة النص في أثناء ذلك ترابطًا وتماسكًا، بوصف التكرارِ هنا يزيد من الحالة المعيارية، ويعمل على إيجاد صِيَغ متكافئة تعمل على نمذجة الكلام من خلال تجلِّياته الموقعية الأسلوبية؛ فالتكرار ضربٌ من التنظيم البنائي، يوحي بحال من الترتيب، ولا يسمح بتصدُّع المعنى، بالقدر الذي يسمح بلملمته، حتى إنه يمكن إحصاؤُه بسهولة في هذا المقام بوصفه تجليًّا لثوابتَ لغويةٍ نادرة التغير، تسعى إلى تقريب النص من النظام، أو من الأُلفة، فتجربة البناء الفكري تتَّضح في تجربةِ البناء اللغوي بصورةٍ عفوية تلقائية، بحيث لا تسمح الأولى للأخيرة بكثيرٍ من التجاوز، ما دام ثمة وجودٌ ماثل للنص بقوة، هي قوة الحقيقة الأيديولوجية التي يجب أن تتطابقَ فيها الكلماتُ والفعل، بوصف التطابق آليةً لغوية تعمل على عرض معاني المناصرة، والتأييد، والتحريض، وتثبيط الأعداء، ولومهم.. إلخ، محافظةً من خلال ذلك على صلابة المعاني بصورة أو بأخرى، حتى لتتحرَّكُ الكلمات بقرب شديد، لا يقود إلى غريب، وإنما تكشف عن مناسباتها لمقتضيات الأحوال، تنهض عليها، وتقوم بها، حين يقدِّم النصُّ لنفسه بتفسيرٍ خارجي، على غرار:
1- "في نصرة عاهل الجزيرة المظفر عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود"[29].

2- "في نصرة عاهل الجزيرة وقائدها الأكبر الملك عبدالعزيز آل سعود بمناسبة قضائه على جماعة من الخارجين عليه"[30].

وفي أكثر الأحوال يتبرَّع المحقق بكتابة تقديم للقصيدة، أي إنَّ ثمة مدخلاً يسمح بالتعرُّف على كل نص تقريبًا قبل الشروع في قراءة متنِه الذي يأتي - عادة - ملائمًا للتقديم أو المناسبة[31].

فالواقع الأيديولوجي كالواقع الاجتماعي يُسهم في تحديد كيفيات صياغةِ لغة الشعر، ومن ثم في تحديد مفهومه فكريًّا أكثر من كونه شعريًّا بوصفه جزءًا من طبيعة الأيديولوجيا غير المهتمة غالبًا بالشروط الفنية التي تشكِّل - في العادة - ما يشبِهُ العائقَ المانع من إيصال الأفكار بسرعة وحماسة إلى عمومِ الناس؛ ففي وصول الأيديولوجيا مباشرة إلى الشعر، وقدرتها على تشكيله وصياغته - وصولٌ لفحواها التي لا يمكن للشعر أن يتماشى معها بطبيعته إلا أن يكونَ جزءًا منها.

إن الإصلاح أو التجديد في مواضعات الأيديولوجيا أو المذهب الفكري، قد لا تكونُ له علاقةبالجِدَة على مستوى اللغة الأدبية، وإنما على مستوى الأحداث والأفكار التي تعمل على إنجازها غالبًا الوقائعُ مسنودةً باللغة الخطابية والفكرية والأدبيات الحزبية ولغة الصحافة، وهنا لا ترى إمكانية التعارض، أو التنابذ - ولو جزئيًا - بين الجهتين (الشعر والأيديولوجيا)، كما لو كانا شيئًا واحدًا، تماهت فيه الصورةُ، إلى حدِّ أن رفد كلٌّ منهما الآخرَ، فجاء الوضوح شاملاً، يعمل على تقديم الحقائق الموضوعية، وتسويغها، والدفاع عنها.

وإنما يأتي التأثير من تعدُّد الإحالات اللغوية على تمثيلات واقعية، وكثافة تلك الإحالات، بحيث تلمح من كثافتها الانتماءَ الأيديولوجي بأُلفتِه وانسجامه، أو بتنافره وتنابذه، أو بمحاباته ومجاملاته، أو بمعاركه وخصوماته.. إلخ، قريبًا مما يسميه "باختين" في لغة الرواية معانيَ أيديولوجية أو واقعية بوصف: أنَّ الصيغةَ الألسنية تمنح نفسها للمتكلمين، وهي واردةٌ في سياق معيَّن، مما يستتبع - دومًا - سياقًا أيديولوجيًّا محددًا، إن ما ننطقه وما نسمعه ليس بكلماتٍ، ولكنه حقائق أو أكاذيب، أشياء حسنة أو قبيحة، مهمة أو مبتذلة، مفرِحة أو محزنة... فالكلمة محملة دائمًا بمضمون أو معنى أيديولوجي أو واقعي، على هذه الشاكلة نفهمُها ولا نستجيب إلا للكلمات التي توقظ فينا أصداء أيديولوجيةً أو لها علاقة بالحياة"[32].
يقول باكثير مثلاً:
لكنَّ قومي والحقائق مرة
فسقوا عن النَّهج الحكيمِ فسوقَا

سبُّوا رفاتَ الميتين وأنكروا
نسبًا صريحًا بالثبوت حقيقَا

وتراشقوا فُحشَ الكلام فأرَّقوا
عينَ الحياء بهُجرِهم تأريقَا

تركوا الشعوبَ ولَهوَها بعلومها
وعُنوا بلفظةِ (سيد) تحقيقَا

يتنازعون سيادةً موهومة
أترى السيادة أصبحت إبريقَا!

أهوِنْ به لقبًا سرى في الناس لم
يستثنِ سِكِّيرًا ولا زنديقَا [33]



إن جملاً كهذه: (فسقوا عن النهج الحكيم)، (سبوا رفات الميتين)، (أنكروا نسبًا صريحًا)، (تراشقوا فُحش الكلام)، (أرَّقوا عين الحياء)، (تركوا الشعوب وعلومها)، (عُنوا بلفظة سيد تحقيقَا)، (يتنازعون سيادة موهومة)، التي ما تكاد تنتهي إحداها حتى تثور أختُها في ضمن شحن محمَّل بأصداء انفعالية أيديولوجية؛ لتثير إيحاءً من الرعب والقلق ينبعث لحظة التلقِّي، ويكمن جوهرُه في القدرة على الإحالة الفظائعية على أحداث الواقع، مما يتطلب انتباهًا خاصًّا إلى شفافية اللغة هنا التي تُفهم فيها الإيحاءاتُ من خلال العلاقات الجوارية وتتابعاتها الأفقية، فالحَرفية بتواليها المتوتِّر أقدرُ هنا على إحداث الإيحاء.

وينطبق مثلُ هذا بصورة أحدَّ وأعنفَ على قوله:
وأولئك الوزَغاتُ نا
فثةُ المفاسد والشرور

قاءَتْهمُ (أمُّ القرى)
ونفاهمُ (الحرمُ) المنير
يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 26.15 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 25.53 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.40%)]