عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 22-11-2021, 02:13 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,514
الدولة : Egypt
افتراضي رد: مظاهر لغة شعر باكثير في المرحلة اليمنية

ويقول تعميمًا في قصيدة: (ولو ثقفت يومًا حضرميًّا):



قد اختلفوا وما اختلفوا لشيءٍ

سوى عصَبيةٍ وقَدت أتونا




وأهواءٍ بأدمغةٍ صِغار

تُلاعَب كالصوالج بالكرينا




غرورٌ قد مشى حسدٌ إليه

على علَميهما يتقاتلونا




فمن خمرَيْهما أضحَوا سكارى

وفي كأسيهما احتسَوا المَنونا




إذا طالعتُ صُحفَهم بدت لي

أفاعي الخُلف رافعةً قُرونا [17]




تتراسل العلاقاتُ بين لغة النصوص تفصيلاً وتعميمًا، إسهابًا واختصارًا، ما دامت طريقةُ العَرض تخضع للظرف الموضوعي لإنشاء القصيدة؛ فقد ذكرت أحداث إندونيسيا بصيغٍ تعميمية في قصيدة: (ولو ثقفت يومًا حضرميًّا)؛ لأن غايتَها الأُولى هي امتداح الحضارمة في الحبشة على بناء مدرسة عربية إسلامية، فجرَّ ذلك إلى الحديث - في ثنايا النص - عن الخلاف في إندونيسيا؛ كما جاء التعميمُ في قصيدة: (صدى قصيدتين)؛ لأن موضوعَها الأولَ هو الإسهامُ مع الشاعرينِ محمد حسن بن شهاب وصالح بن علي الحامد في الحديث عن مساوئِ المدنية الحاضرة، ومناظرة جاوة الجميلة، بينما ازداد تفصيلُ أحداث إندونيسيا في قصيدة: (لولا جمود الحضرمي)؛ لأن موضوعَها الأساسيَّ هو الإشادةُ بحل الخلاف بين المتخاصمينِ في جيبوتي، فقاد ذلك - بتفصيل أشدَّ - إلى ذكر موضوع الخلاف الحضرمي في إندونيسيا الذي لم يُحلَّ بعدُ، والذي ما يزال يُقلق الشاعر، فيدفع بالمصلحين بتلك الطريقة من العرض التفصيلي المُقلق للإسراع في حلِّه.



وعلى أية حال فإن هذه العلاقةَ التراسلية بين لغة النصوص - توسيعًا وتضييقًا، تفصيلاً وتعميمًا - حدٌّ من إمكانية النصوص في الانطلاقِ الخاص لكل نص؛ إذ توجَّهت وظيفةُ التراسل هنا لإصلاح متلقٍّ مخصوص في هذا الشأن تحديدًا، هو (الحضرمي في مطلع القرن العشرين)، وتعديل وجهة نظره تجاه جماعته، وإن اختلفت آراؤُهم، عبر تقديم عددٍ من الممارسات الأخلاقية النصية، يتعمَّد الشاعرُ الوقوفَ عندها في أكثرَ من قصيدة ليبنيَ جمال الأخلاق وجميل التعامل في الوقت الذي يبني الإنسانَ؛ ولهذا ربما أحاطت هذه النصوصُ - بشكلٍ أو بآخرَ - بطرائقِ الإصلاح الاجتماعي الإنشائية ومواضعاتها التي تعمل - فيما يبدو - على تقديم خصائصَ متشابهة ومكررة حتى في تفاعلِها؛ لتتمكنَ من إثارة استجابة المتلقِّي (المخاطَب الاجتماعي الحقيقي) سريعًا مع مراميها وغاياتها، فيُداخل المتلقِّيَ - عند ذلك - إحساسُ أو معرفة مَن قرأ النصَّ من قبلُ؛ انطلاقًا من حركة المداولات الاجتماعية اللغوية السابقة، وتقاليد الإرسال والتلقِّي في هذا الشأنِ (شأن الخلافات والإصلاح والتوجيه)؛ ولذلك لا يمكن النظرُ - والحال هذه - إلى النص منعزلاً أو مستقلاًّ كبنيةٍ من الكلمات، وإنما تتراءى فيه - بالضرورة - خلفيةُ محيطِه الاجتماعي، مما يجعله - بالضرورة - نصًّا تقليديًّا لا يَحيد عن طريق الدلالات المألوفة، ولا يتخذ صِيغًا تعبيرية مفاجئة، ومن ثم لا يدفع بالقارئ إلى إنتاج معانٍ لا يقولها النصُّ بشكل مباشر، أو يومئ إليها، إنه شكلٌ من أشكال الأنظمة الحياتية الاجتماعية بما في ذلك شكلُ اللغة نفسُه المبنيُّ من عدد من التوافقات والانتظامات الإيقاعية والبيانية المألوفة والمرغوبة اجتماعيًّا (أشطارًا وبُحورًا من جهة الإيقاع، وتشبيهات وكنايات من جهة البلاغة..)، وتلك بنية تتجسَّد في النص كما تتجسد في الخارج الفني الذي يأتي موجِّهًا للنص بشكل أو بآخر، حتى إن الشكلانيين الروس - وهم الذين نادوا باستقلال الكلمةِ عن محيطها الاجتماعي - وجدوا أنفسَهم مضطرين أحيانًا إلى التسليم بأن هناك فتراتٍ تكتسب فيها الاعتباراتُ الاجتماعية أهميةً بالغة[18].

لقد اكتسبت لغةُ النصوص أُلفة ينفعل بها مستمعٌ من نمطٍ خاص، درِّبت نفسُه عليها أزمانًا طويلة؛ إذ إن ثمة إرجاعاتٍ اجتماعية تنتابه عند استقبال مثلِ هذه اللغة، مما يدعو لسعادته بالعمل من جهتين: جهةِ النص كوجهٍ لغوي فني مقبولٍ لديه، وجهة انسجامِه الاجتماعي معه، أو تقبُّله الاجتماعي له، حتى إن حاول النصُّ أن ينجزَ شيئًا من لغته الخاصة، فإنه يظلُّ أسيرَ التوجهات الأساسية التي سَرعان ما يعود إليها، وينجذب إلى آلياتها، لا سيما أن الشاعرَ باكثير وضع في ضمن توجهاته الرسالية قضايا إصلاحية موضوعية حيوية عمِل على نشرها، والدفعِ بها إلى أمام، وأن يكونَ شعره أشدَّ تأثيرًا فيها بوصفها موضوعاتٍ أساسية معاصرة يكتسب شعره من خلال الخوض فيها حضورًا كبيرًا، وفي إطار هذا جاء خوضُه في صراع الحضارمة في إندونيسيا الذي غدا صراعًا معروفًا في صحف العالم الإسلامي وقتئذ، وبين رجاله المشهورين كمحمد رشيد رضا، وشكيب أرسلان، ومحبِّ الدين الخطيب[19] - مرشدًا لبني قومه إلى سبل التسامح، والتعلم، والتطور.

(2) المظهر اللغوي - الأيديولوجي:
ومن ضمن توجهات باكثير الرسالية خوضُه في موضوع الحركة الدينية الإصلاحية في نجد؛ إذ تُعَدُّ من الأحداث البارزة على مستوى الجزيرة العربية والبلاد الإسلامية، وإذ رآها الشاعر حدثًا مليئًا بالدلالات التجديدية الإصلاحية، فمن الطبيعيِّ أن تكونَ دعوة شعرِه إليها، ومناصرتُه لها، انطلاقًا من مفهوم الكاتب المعاصر - بحسب سبندر - الذي يبشِّر برسالة ليست من صُنعه ويدافع عنها، وينشرها بكثافة من خلال توالي الإرسال في عدد من القصائد، مساندة وتأييدًا؛ فالزمن يتجه نحو الإصلاح، وعلى الشعر أن يماشيَه، وأن يوظِّفَ لغتَه في إطار حركته، لا في إطار صوت مغاير، أعني أن يوظِّفَ لغته في إطار حركة الزمن السياسي والإصلاحي.

ثمة إذًا محاولةٌ أخرى للإصلاح، أو (التجديد كما يسميه باكثير أحيانًا) قدَّمها شعرُه من جهة الأفكار والقِيم الإسلامية، ورغبته في تحرير تلك القِيَم مما لحق بها من ممارسات وعادات، كقوله:
ثُوبوا إلى (القرآن) لا يصدُدْكم
عنه جحودٌ أو هوى وجمودُ

وذروا التقاليدَ العتيقة إنها
عبءٌ على المتنوِّرين عتيدُ

لا تُنكروا (التجديد) في عاداتكم
فالعصرُ من آياته (التجديدُ)

وامشُوا على سُنن الخليقةِ إنها
تبقى وتثبتُ، والجبال تَبيدُ[20]



وقوله:
(والمصلحون) إذا ما ذُكِروا اتهموا
من ماجنٍ غزِل، أو شاربٍ ثَمِلِ

يُعيَّرون (بوهابية) خلُصت أنقى
من اللبَن السَّلْسَال والعسلِ

وبينهم علماءُ السوء في دَعَةٍ
بالدَّجل عن واجب التذكير في شُغلِ


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.66 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 21.03 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.90%)]