
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (116)
سُورَةُ التَّوْبَةِ(5)
صـ 131 إلى صـ 135
أخبرنا محمد بن عبد الأعلى ، قال : حدثنا المعتمر بن سليمان ، قال : سمعت حسينا ، قال : حدثني عمرو بن شعيب ، قال : جاءت امرأة ، ومعها بنت لها ، وفي يد ابنتها مسكتان ، نحوه ، مرسل . قال أبو عبد الرحمن : خالد أثبت من المعتمر . اهـ .
وهذا الحديث الذي أخرجه أبو داود ، والنسائي من طريق حسين المعلم ، عن عمرو بن شعيب أقل درجاته الحسن ، وبه تعلم أن قول الترمذي رحمه الله : لا يصح في الباب شيء غير صحيح ; لأنه لم يعلم برواية حسين المعلم له عن عمرو بن شعيب ، بل جزم بأنه لم يرو عن عمرو بن شعيب إلا من طريق ابن لهيعة ، والمثنى بن الصباح ، وقد تابعهما حجاج بن أرطاة والجميع ضعاف .
ومنها ما رواه أبو داود أيضا ، حدثنا محمد بن عيسى ، ثنا عتاب يعني ابن بشير ، عن ثابت بن عجلان ، عن عطاء ، عن أم سلمة ، قالت : كنت ألبس أوضاحا من ذهب فقلت : يا رسول الله أكنز هو ؟ فقال : " ما بلغ أن تؤدي زكاته ، فزكي فليس بكنز " ، وأخرج نحوه الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي . اهـ .
ومنها ما رواه أبو داود أيضا ، حدثنا محمد بن إدريس الرازي ، ثنا عمرو بن الربيع بن طارق ، ثنا يحيى بن أيوب ، عن عبيد الله بن أبي جعفر : أن محمد بن عمرو بن عطاء أخبره ، عن عبد الله بن شداد بن الهاد أنه قال : دخلنا على عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فرأى في يدي فتخات من ورق ، فقال : " ما هذا يا عائشة ؟ ! " ، فقلت : صنعتهن أتزين لك يا رسول الله ، قال : " أتؤدين زكاتهن ؟ " قلت : لا ، أو ما شاء الله ، قال : " هو حسبك من النار " .
حدثنا صفوان بن صالح ، ثنا الوليد بن مسلم ، ثنا سفيان ، عن عمر بن يعلى ، فذكر الحديث نحو حديث الخاتم ، قيل لسفيان : كيف تزكيه ؟ قال : تضمه إلى غيره . اهـ .
وحديث عائشة هذا أخرج نحوه أيضا الحاكم ، والدارقطني ، والبيهقي . اهـ .
وأخرج الدارقطني ، عن عائشة ، من طريق عمرو بن شعيب ، عن عروة عنها ، قالت : لا بأس بلبس الحلي إذا أعطي زكاته . اهـ .
[ ص: 132 ] قال البيهقي رحمه الله :
وقد انضم إلى حديث عمرو بن شعيب حديث أم سلمة ، وحديث عائشة ، وساقهما .
ومنها ما رواه الإمام أحمد ، عن أسماء بنت يزيد بلفظ : قالت : " دخلت أنا وخالتي على النبي صلى الله عليه وسلم ، وعلينا أساور من ذهب فقال لنا : " أتعطيان زكاته ؟ " ، فقلنا : لا ، قال : " أما تخافان أن يسوركما الله بسوار من نار ؟ ! أديا زكاته " . اهـ .
وروى الدارقطني نحوه من حديث فاطمة بنت قيس ، وفي سنده أبو بكر الهذلي ، وهو متروك ، اهـ . قاله ابن حجر في " التلخيص " .
وأما الآثار : فمنها ما رواه ابن أبي شيبة ، والبيهقي من طريق شعيب بن يسار قال : كتب عمر إلى أبي موسى : أن مر من قبلك من نساء المسلمين أن يصدقن من حليهن . اهـ .
قال البيهقي : هذا مرسل ، شعيب بن يسار لم يدرك عمر . اهـ .
وقال ابن حجر في " التلخيص " : وهو مرسل ، قاله البخاري ، وقد أنكر الحسن ذلك فيما رواه ابن أبي شيبة قال : لا نعلم أحدا من الخلفاء قال : " في الحلي زكاة " .
ومنها ما رواه الطبراني ، والبيهقي ، عن ابن مسعود : أن امرأته سألته ، عن حلي لها ، فقال : إذا بلغ مائتي درهم ففيه الزكاة ، قالت : أضعها في بني أخ لي في حجري ؟ قال : نعم .
قال البيهقي : وقد روي هذا مرفوعا إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس بشيء ، وقال : قال البخاري : مرسل ، ورواه الدارقطني من حديث ابن مسعود مرفوعا ، وقال : هذا وهم والصواب موقوف . قاله ابن حجر في " التلخيص " .
ومنها ما رواه البيهقي ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده : أنه كان يكتب إلى خازنه سالم ، أن يخرج زكاة حلي بناته كل سنة ، وما روي من ذلك عن ابن عباس ، قال الشافعي : لا أدري أيثبت عنه أم لا ؟ وحكاه ابن المنذر ، والبيهقي ، عن ابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما . قاله في " التلخيص " أيضا .
وأما القياس : فإنهم قاسوا الحلي على المسكوك والمسبوك بجامع أن الجميع نقد .
وأما وضع اللغة : فزعموا أن لفظ الرقة ، ولفظ الأوقية الثابت في الصحيح يشمل [ ص: 133 ] المصوغ كما يشمل المسكوك ، وقد قدمنا أن التحقيق خلافه .
فإذا علمت حجج الفريقين ، فسنذكر لك ما يمكن أن يرجع به كل واحد منهما .
أما القول بوجوب زكاة الحلي ، فله مرجحات :
منها : أن من رواه من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ، كما قدمنا روايته عن عبد الله بن عمرو بن العاص ، وعائشة ، وأم سلمة ، وأسماء بنت يزيد ، رضي الله عنهم .
أما القول بعدم وجوب الزكاة فيه ، فلم يرو مرفوعا إلا من حديث جابر ، كما تقدم .
وكثرة الرواة من المرجحات على التحقيق ، كما قدمنا في سورة " البقرة " في الكلام على آية الربا .
ومنها : أن أحاديثه كحديث عمرو بن شعيب ، ومن ذكر معه أقوى سندا من حديث سقوط الزكاة الذي رواه عافية بن أيوب .
ومنها : أن ما دل على الوجوب مقدم على ما دل على الإباحة ; للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب كما تقرر في الأصول ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " في مبحث الترجيح باعتبار المدلول : [ الرجز ]
وناقل ومثبت والآمر بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة . . . إلخ .
ومعنى قوله : "
ثم هذا الآخر على إباحة
" أن ما دل على الأمر مقدم على ما دل على الإباحة كما ذكرنا .
ومنها : دلالة النصوص الصريحة على وجوب الزكاة في أصل الفضة ، والذهب ، وهي دليل على أن الحلي من نوع ما وجبت الزكاة في عينه ، هذا حاصل ما يمكن أن يرجح به هذا القول .
وأما القول بعدم وجوب الزكاة في الحلي المباح ، فيرجح بأن الأحاديث الواردة في التحريم إنما كانت في الزمن الذي كان فيه التحلي بالذهب محرما على النساء ، والحلي المحرم تجب فيه الزكاة اتفاقا .
وأما أدلة عدم الزكاة فيه ، فبعد أن صار التحلي بالذهب مباحا .
والتحقيق : أن التحلي بالذهب كان في أول الأمر محرما على النساء ، ثم أبيح ، كما يدل له ما ساقه البيهقي من أدلة تحريمه أولا وتحليله ثانيا ، وبهذا يحصل الجمع بين [ ص: 134 ] الأدلة ، والجمع واجب إن أمكن كما تقرر في الأصول وعلوم الحديث ، وإليه الإشارة بقول صاحب " مراقي السعود " : [ الرجز ]
والجمع واجب متى ما أمكنا إلا فللأخير نسخ بينا
ووجهه ظاهر ; لأن إعمال الدليلين أولى من إلغاء أحدهما ، ومعلوم أن الجمع إذا أمكن أولى من جميع الترجيحات .
فإن قيل : هذا الجمع يقدح فيه حديث عائشة المتقدم ، فإن فيه " فرأى في يدي فتخات من ورق " الحديث .
والورق : الفضة ، والفضة لم يسبق لها تحريم ، فالتحلي بها لم يمتنع يوما ما .
فالجواب ما قاله الحافظ البيهقي - رحمه الله تعالى - قال : من قال : لا زكاة في الحلي ، زعم أن الأحاديث والآثار الواردة في وجوب زكاته كانت حين كان التحلي بالذهب حراما على النساء ، فلما أبيح لهن سقطت زكاته .
قال : وكيف يصح هذا القول مع حديث عائشة ، إن كان ذكر الورق فيه محفوظا ، غير أن رواية القاسم ، وابن أبي مليكة ، عن عائشة في تركها إخراج زكاة الحلي مع ما ثبت من مذهبها من إخراج زكاة أموال اليتامى - يوقع ريبة في هذه الرواية المرفوعة ، فهي لا تخالف النبي صلى الله عليه وسلم فيما روته عنه ، إلا فيما علمته منسوخا . اهـ .
وقد قدمنا في سورة " البقرة " الكلام على مخالفة الصحابي لما روي في آية الطلاق ، وبالجملة فلا يخفى أنه يبعد أن تعلم عائشة أن عدم زكاة الحلي فيه الوعيد من النبي لها بأنه حسبها من النار ، ثم تترك إخراجها بعد ذلك عمن في حجرها ، مع أنها معروف عنها القول بوجوب الزكاة في أموال اليتامى .
ومن أجوبة أهل هذا القول : أن المراد بزكاة الحلي عاريته ، ورواه البيهقي ، عن ابن عمر ، وسعيد بن المسيب ، والشعبي ، في إحدى الروايتين عنه .
هذا حاصل الكلام في هذه المسألة .
وأقوى الوجوه بحسب المقرر في الأصول وعلم الحديث : الجمع إذا أمكن ، وقد أمكن هنا .
قال مقيده عفا الله عنه : وإخراج زكاة الحلي أحوط ; لأن " من اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " - " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 135 ] المسألة الرابعة : اعلم أن جماهير علماء المسلمين من الصحابة ومن بعدهم على وجوب الزكاة في عروض التجارة ، فتقوم عند الحول ، ويخرج ربع عشرها كزكاة العين ، قال ابن المنذر : أجمع عامة أهل العلم على وجوب زكاة التجارة ، قال : رويناه عن عمر بن الخطاب ، وابنه عبد الله ، وابن عباس ، والفقهاء السبعة : سعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، وعروة بن الزبير ، وأبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث ، وخارجة بن زيد ، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وسليمان بن يسار ، والحسن البصري ، وطاوس ، وجابر بن زيد ، وميمون بن مهران ، والنخعي ، ومالك ، والثوري ، والأوزاعي ، والشافعي ، والنعمان ، وأصحابه ، وأحمد ، وإسحاق ، وأبي ثور ، وأبي عبيد ، اهـ ، بواسطة نقل النووي في " شرح المهذب " ، وابن قدامة في " المغني " ، ولمالك - رحمه الله - تفصيل في عروض التجارة ; لأن عروض التجارة عنده تنقسم إلى عرض تاجر مدير ، وعرض تاجر محتكر ، فالمدير هو الذي يبيع ويشتري دائما ، والمحتكر هو الذي يشتري السلع ويتربص بها حتى يرتفع سعرها فيبيعها ، وإن لم يرتفع سعرها لم يبعها ولو مكثت سنين .
فعروض المدير عنده وديونه التي يطالب بها الناس إن كانت مرجوة يزكيها عند كل حول ، والدين الحال يزكيه بالعدد ، والمؤجل بالقيمة .
أما عرض المحتكر فلا يقوم عنده ولا زكاة فيه حتى يباع بعين فيزكي العين على حول أصل العرض ، وإلى هذا أشار ابن عاشر ، في " المرشد المعين " بقوله : [ الرجز ]
والعرض ذو التجر ودين من أدار قيمتها كالعين ثم ذو احتكار زكى لقبض ثمن أو دين
عينا بشرط الحول للأصلين
زاد مالك في مشهور مذهبه شرطا ، وهو أنه يشترط في وجوب تقويم عروض المدير أن يصل يده شيء ناض من ذات الذهب أو الفضة ، ولو كان ربع درهم أو أقل ، وخالفه ابن حبيب من أهل مذهبه ، فوافق الجمهور في عدم اشتراط ذلك .
ولا يخفى أن مذهب الجمهور هو الظاهر ، ولم نعلم بأحد من أهل العلم خالف في وجوب زكاة عروض التجارة ، إلا ما يروى عن داود الظاهري ، وبعض أتباعه .
ودليل الجمهور آية ، وأحاديث ، وآثار وردت بذلك عن بعض الصحابة رضي الله عنهم ، ولم يعلم أن أحدا منهم خالف في ذلك ، فهو إجماع سكوتي .
