عرض مشاركة واحدة
  #106  
قديم 02-11-2021, 04:54 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,500
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (104)

سُورَةُ الْأَنْفَالِ (6)
صـ 71 إلى صـ 75


مِنْهَا : أَنَّهُ لَمْ يَنْقُلْ أَحَدٌ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَالَحَ أَهْلَهَا زَمَنَ الْفَتْحِ ، وَلَا جَاءَهُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فَصَالَحَهُ عَلَى الْبَلَدِ ، وَإِنَّمَا جَاءَهُ أَبُو سُفْيَانَ فَأَعْطَاهُ الْأَمَانَ لِمَنْ دَخَلَ دَارَهُ ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ ، [ ص: 71 ] أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ ، أَوْ أَلْقَى سِلَاحَهُ .

وَلَوْ كَانَتْ قَدْ فُتِحَتْ صُلْحًا لَمْ يَقُلْ : " مَنْ دَخَلَ دَارَهُ ، أَوْ أَغْلَقَ بَابَهُ ، أَوْ دَخَلَ الْمَسْجِدَ - فَهُوَ آمِنٌ " ، فَإِنَّ الصُّلْحَ يَقْتَضِي الْأَمَانَ الْعَامَّ .

وَمِنْهَا : أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : " إِنَّ اللَّهَ حَبَسَ عَنْ مَكَّةَ الْفِيلَ ، وَسَلَّطَ عَلَيْهَا رَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّهُ أَذِنَ لِي فِيهَا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " .

وَفِي لَفْظِ : " إِنَّهَا لَمْ تَحِلَّ لِأَحَدٍ قَبْلِي ، وَلَا تَحِلُّ لِأَحَدٍ بَعْدِي ، وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ " .

وَفِي لَفْظٍ : " فَإِنْ أَحَدٌ تَرَخَّصَ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَقُولُوا : إِنَّ اللَّهَ أَذِنَ لِرَسُولِهِ ، وَلَمْ يَأْذَنْ لَكُمْ ، وَإِنَّمَا أَذِنَ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ، وَقَدْ عَادَتْ حُرْمَتُهَا الْيَوْمَ كَحُرْمَتِهَا بِالْأَمْسِ " ، وَهَذَا صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً .

وَمِنْهَا : أَنَّهُ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ ، " أَنَّهُ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ جَعَلَ خَالِدَ بْنَ الْوَلِيدِ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُمْنَى ، وَجَعَلَ الزُّبَيْرَ عَلَى الْمُجَنِّبَةِ الْيُسْرَى ، وَجَعَلَ أَبَا عُبَيْدَةَ عَلَى الْحُسَّرِ ، فَأَخَذُوا بَطْنَ الْوَادِي ، ثُمَّ قَالَ : " يَا أَبَا هُرَيْرَةَ اهْتِفْ لِي بِالْأَنْصَارِ " ، فَجَاءُوا يُهَرْوِلُونَ ، فَقَالَ : " يَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، هَلْ تَرَوْنَ إِلَى أَوْبَاشِ قُرَيْشٍ ؟ " قَالُوا : نَعَمْ ، قَالَ : " انْظُرُوا إِذَا لَقِيتُوهُمْ غَدًا أَنْ تَحْصِدُوهُمْ حَصْدًا " ، وَأَخْفَى بِيَدِهِ ، وَوَضَعَ يَمِينَهُ عَلَى شِمَالِهِ ، وَقَالَ : " مَوْعِدُكُمُ الصَّفَا " ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا ، قَالَ : فَمَا أَشْرَفَ يَوْمَئِذٍ لَهُمْ أَحَدٌ إِلَّا أَنَامُوهُ ، وَصَعِدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الصَّفَا ، وَجَاءَتِ الْأَنْصَارُ ، فَأَطَافُوا بِالصَّفَا ، فَجَاءَ أَبُو سُفْيَانَ ، فَقَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أُبِيدَتْ خَضْرَاءُ قُرَيْشٍ ، لَا قُرَيْشَ بَعْدَ الْيَوْمِ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَلْقَى السِّلَاحَ فَهُوَ آمِنٌ ، وَمَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ " .

أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي " صَحِيحِهِ " مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ .

وَذَكَرَ أَهْلُ الْمَغَازِي تَفْصِيلَ مَا أُجْمِلَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ هَذَا ، فَبَيَّنُوا أَنَّهُ قُتِلَ مِنَ الْكُفَّارِ اثْنَا عَشَرَ ، وَقِيلَ : قُتِلَ مِنْ قُرَيْشٍ أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ ، وَمِنْ هُذَيْلٍ أَرْبَعَةٌ ، وَقُتِلَ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةٌ ، وَهُمْ سَلَمَةُ بْنُ الْمُيَلَاءِ الْجُهَنِيُّ ، وَكُرْزُ بْنُ جَابِرٍ الْمُحَارِبِيُّ نِسْبَةً إِلَى مُحَارِبِ بْنِ فِهْرٍ ، وَخُنَيْسُ بْنُ خَالِدٍ الْخُزَاعِيُّ ، أَخُو أُمِّ مَعْبَدٍ ، وَقَالَ كُرْزٌ قَبْلَ أَنْ يُقْتَلَ فِي دِفَاعِهِ عَنْ خُنَيْسٍ : [ الرَّجَزُ ]

[ ص: 72 ]
قَدْ عَلِمَتْ بَيْضَاءُ مِنْ بَنِي فِهْرِ

نَقِيَّةُ اللَّوْنِ نَقِيَّةُ الصَّدْرِ

لَأَضْرِبَنَّ الْيَوْمَ عَنْ أَبِي صَخْرِ
وَفِيهِ نَقْلُ الْحَرَكَةِ فِي الْوَقْفِ ، وَرَجَزُ حَمَاسِ بْنِ قَيْسٍ الْمَشْهُورِ يَدُلُّ عَلَى الْقِتَالِ يَوْمَ الْفَتْحِ ، وَذَكَرَهُ الشِّنْقِيطِيُّ فِي مَغَازِيهِ بِقَوْلِهِ : [ الرَّجَزُ ]


وَزَعَمَ ابْنُ قَيْسٍ أَنْ سَيَحْفِدَا

نِسَاءَهُمْ خِلْتَهُ وَأَنْشَدَا

إِنْ يُقْبِلُوا الْيَوْمَ فَمَالِيَ عِلَّهْ

هَذَا سِلَاحٌ كَامِلٌ وَأَلَّهْ

وَذُو غِرَارَيْنِ سَرِيعُ السَّلَّهْ

وَشَهِدَ الْمَأْزَقَ فِيهِ حُطَمَا

مُرَبَّبٌ مِنْ قَوْمِهِ فَانْهَزَمَا

وَجَاءَ فَاسْتَغْلَقَ بَابَهَا الْبَتُولْ

فَاسْتَفْهَمَتْهُ أَيْنَمَا كُنْتَ تَقُولْ

فَقَالَ وَالْفَزَعُ زَعْفَرَ دَمَهْ

إِنَّكَ لَوْ شَهِدْتَ يَوْمَ الْخَنْدَمَهْ

إِذْ فَرَّ صَفْوَانُ وَفَرَّ عِكْرِمَهْ

وَبُو يَزِيدَ قَائِمٌ كَالْمُؤْتَمَهْ

وَاسْتَقْبَلَتْنَا بِالسُّيُوفِ الْمُسْلِمَهْ

لَهُمْ نَهِيتٌ خَلْفَنَا وَهَمْهَمَهْ

يَقْطَعْنَ كُلَّ سَاعِدٍ وَجُمْجُمَهْ

ضَرْبًا فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا غَمْغَمَهْ

لَمْ تَنْطِقِي بِاللَّوْمِ أَدْنَى كَلِمَهْ
وَهَذَا الرَّجَزُ صَرِيحٌ فِي وُقُوعِ الْقِتَالِ وَالْقَتْلِ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ ، وَمِصْدَاقُهُ فِي الصَّحِيحِ كَمَا تَقَدَّمَ .

وَمِنْهَا أَيْضًا : أَنَّ أُمَّ هَانِئٍ ، بِنْتَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَجَارَتْ رَجُلًا ، فَأَرَادَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ، وَفِي لَفْظٍ عَنْهَا : " لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، أَجَرْتُ رَجُلَيْنِ مِنْ أَحْمَائِي ، فَأَدْخَلْتُهُمَا بَيْتًا ، وَأَغْلَقْتُ عَلَيْهِمَا بَابًا ، فَجَاءَ ابْنُ أُمِّي عَلَيَّ ، فَتَفَلْتُ عَلَيْهِمَا بِالسَّيْفِ " فَذَكَرْتُ حَدِيثَ الْأَمَانِ وَقَوْلَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " قَدْ أَجَرْنَا مَنْ أَجَرْتِ يَا أُمَّ هَانِئٍ " ، وَذَلِكَ ضُحًى بِبَطْنِ مَكَّةَ بَعْدَ الْفَتْحِ ، وَقِصَّتُهَا ثَابِتَةٌ فِي الصَّحِيحِ .

فَإِجَارَتُهَا لَهُ ، وَإِرَادَةُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَتْلَهُ ، وَإِمْضَاءُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِجَارَتَهَا - صَرِيحٌ فِي أَنَّهَا فُتِحْتَ عَنْوَةً .

وَمِنْهَا : أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، أَمَرَ بِقَتْلِ مِقْيَسِ بْنِ صُبَابَةَ ، وَابْنِ خَطَلٍ ، وَجَارِيَتَيْنِ .

وَلَوْ كَانَتْ فُتِحَتْ صُلْحًا ، لَمْ يُؤْمَرْ بِقَتْلِ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِهَا ، وَلَكَانَ ذِكْرُ هَؤُلَاءِ مُسْتَثْنًى مِنْ [ ص: 73 ] عَقْدِ الصُّلْحِ .

وَأَمْرُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقَتْلِ مَنْ ذَكَرَ ، ثَابِتٌ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ . \ 5 وَفِي السُّنَنِ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ : " أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، لَمَّا كَانَ يَوْمُ فَتْحِ مَكَّةَ ، قَالَ : أَمِّنُوا النَّاسَ إِلَّا امْرَأَتَيْنِ وَأَرْبَعَةَ نَفَرٍ ; اقْتُلُوهُمْ وَإِنْ وَجَدْتُمُوهُمْ مُتَعَلِّقِينَ بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ " ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ .

فَهَذِهِ أَدِلَّةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى أَنَّ مَكَّةَ - حَرَسَهَا اللَّهُ - فُتِحَتْ عَنْوَةً .

وَكَوْنُهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً : يَقْدَحُ فِيمَا ذَهَبَ إِلَيْهِ الشَّافِعِيُّ مِنْ وُجُوبِ قَسْمِ الْأَرْضِ الْمَغْنُومَةِ عَنْوَةً .

فَالَّذِي يَتَّفِقُ عَلَيْهِ جَمِيعُ الْأَدِلَّةِ ، وَلَا يَكُونُ بَيْنَهَا أَيُّ تَعَارُضٍ : هُوَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْقَوْلِ بِالتَّخْيِيرِ بَيْنَ قَسْمِ الْأَرْضِ ، وَإِبْقَائِهَا لِلْمُسْلِمِينَ ، مَعَ مَا قَدَّمْنَا مِنَ الْحُجَجِ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

وَإِذَا عَرَفْتَ أَنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ مَكَّةَ فُتِحَتْ عَنْوَةً ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْعُلَمَاءَ اخْتَلَفُوا فِي رِبَاعِ مَكَّةَ : هَلْ يَجُوزُ تَمَلُّكُهَا ، وَبَيْعُهَا ، وَإِيجَارُهَا ؟ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ :

أَحَدُهَا : أَنَّهُ لَا يَجُوزُ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعَطَاءٌ ، وَطَاوُسٌ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِسْحَاقُ . وَغَيْرُهُمْ .

وَكَرِهَهُ مَالِكٌ رَحِمَهُ اللَّهُ .

وَأَجَازَ جَمِيعَ ذَلِكَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ .

وَبِهِ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَجَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .

وَتَوَسَّطَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، فَقَالَ : تُمَلَّكُ ، وَتُوَرَّثُ ، وَلَا تُؤَجَّرُ ، وَلَا تُبَاعُ ، عَلَى إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، جَمْعًا بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، وَالرِّوَايَةُ الثَّانِيَةِ كَمَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ .
وَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ : تَنَاظَرَ فِيهَا الْإِمَامُ الشَّافِعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مَسْجِدِ الْخَيْفِ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ حَاضِرٌ ، فَأَسْكَتَ الشَّافِعِيُّ إِسْحَاقَ بِالْأَدِلَّةِ ، بَعْدَ أَنْ قَالَ لَهُ : مَا أَحْوَجَنِي أَنْ يَكُونَ غَيْرُكَ فِي مَوْضِعِكَ ، فَكُنْتُ آمُرُ بِفَرْكِ أُذُنَيْهِ ، أَنَا أَقُولُ لَكَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَأَنْتَ تَقُولُ : قَالَ طَاوُسٌ ، وَالْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَهَلْ لِأَحَدٍ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُجَّةٌ ؟ فِي كَلَامٍ طَوِيلٍ .

وَنَحْنُ نَذْكُرُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ أَدِلَّةَ الْجَمِيعِ ، وَمَا يَقْتَضِي الدَّلِيلُ رُجْحَانَهُ مِنْهَا .

[ ص: 74 ] فَحُجَّةُ الشَّافِعِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ وَمَنْ وَافَقَهُ بِأُمُورٍ :

الْأَوَّلُ : حَدِيثُ أُسَامَةَ ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا سَأَلَهُ : أَيْنَ تَنْزِلُ غَدًا ؟ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ أَوْ دُورٍ ؟ " ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ " مِنْ مَنْزِلٍ " ، وَفِي بَعْضِهَا " مَنْزِلًا " ، أَخْرَجَ هَذَا الْحَدِيثَ الْبُخَارِيُّ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ " تَوْرِيثِ دُورِ مَكَّةَ ، وَشِرَائِهَا " إِلَخْ ، وَفِي كِتَابِ " الْمَغَازِي " فِي غَزْوَةِ الْفَتْحِ فِي رَمَضَانَ فِي بَابِ : " أَيْنَ رَكَزَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّايَةَ يَوْمَ الْفَتْحِ " ، وَفِي كِتَابِ " الْجِهَادِ " فِي بَابِ : " إِذَا أَسْلَمَ قَوْمٌ فِي دَارِ الْحَرْبِ ، وَلَهُمْ مَالٌ وَأَرْضُونَ فَهِيَ لَهُمْ " ، وَأَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ فِي كِتَابِ " الْحَجِّ " فِي بَابِ : " النُّزُولِ بِمَكَّةَ لِلْحَاجِّ وَتَوْرِيثِ دُورِهَا " ، بِثَلَاثِ رِوَايَاتٍ هِيَ مِثْلُ رِوَايَاتِ الْبُخَارِيِّ .

فَقَوْلُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي هَذَا الْحَدِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " وَهَلْ تَرَكَ لَنَا عَقِيلٌ مِنْ رِبَاعٍ " ، صَرِيحٌ فِي إِمْضَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْعَ عَقِيلِ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ تِلْكَ الرِّبَاعَ .

وَلَوْ كَانَ بَيْعُهَا ، وَتَمَلُّكُهَا لَا يَصِحُّ لَمَا أَقَرَّهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ; لِأَنَّهُ لَا يُقِرُّ عَلَى بَاطِلٍ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ .

الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَضَافَ لِلْمُهَاجِرِينَ مِنْ مَكَّةَ دِيَارَهُمْ ، وَذَلِكَ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِلْكُهُمْ فِي قَوْلِهِ : لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ [ 59 \ 8 ] .

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : فَإِنْ قِيلَ : قَدْ تَكُونُ الْإِضَافَةُ لِلْيَدِ وَالسُّكْنَى ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ [ 33 \ 33 ] .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ حَقِيقَةَ الْإِضَافَةِ تَقْتَضِي الْمِلْكَ ، وَلِذَلِكَ لَوْ قَالَ : هَذِهِ الدَّارُ لِزَيْدٍ حَكَمَ بِمِلْكِهَا لِزَيْدٍ ، وَلَوْ قَالَ : أَرَدْتُ بِهِ السُّكْنَى وَالْيَدَ ، لَمْ يُقْبَلْ .

وَنَظِيرُ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : مَا احْتُجَّ بِهِ أَيْضًا مِنَ الْإِضَافَةِ فِي قَوْلِهِ : " مَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ " الْحَدِيثَ . وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّهُ فِي " صَحِيحِ مُسْلِمٍ " .

الثَّالِثُ : الْأَثَرُ الْمَشْهُورُ فِي سُنَنِ الْبَيْهَقِيِّ وَغَيْرِهِ : " أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْحَارِثِ ، اشْتَرَى مِنْ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ ، دَارَ السِّجْنِ لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بِأَرْبَعِمِائَةٍ " ، وَفِي رِوَايَةٍ : " بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ " ، وَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ أَحَدٌ مِنَ الصَّحَابَةِ .

وَرَوَى الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ وَالْبَيْهَقِيُّ : أَنَّ حَكِيمَ بْنَ حِزَامٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، بَاعَ دَارَ النَّدْوَةِ بِمَكَّةَ مِنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ بِمِائَةِ أَلْفٍ ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الزُّبَيْرِ : يَا أَبَا خَالِدٍ بِعْتَ مَأْثَرَةَ [ ص: 75 ] قُرَيْشٍ وَكَرِيمَتَهَا ، فَقَالَ : هَيْهَاتَ ذَهَبَتِ الْمَكَارِمُ فَلَا مَكْرُمَةَ الْيَوْمَ إِلَّا الْإِسْلَامُ ، فَقَالَ : اشْهَدُوا أَنَّهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ تَعَالَى ؛ يَعْنِي الدَّرَاهِمَ الَّتِي بَاعَهَا بِهَا .

وَعَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ عَمُودِ النَّسَبِ بِقَوْلِهِ يَعْنِي قُصَيًّا : [ الرَّجَزُ ]


وَاتَّخَذَ النَّدْوَةَ لَا يُخْتَرَعُ

فِي غَيْرِهَا أَمْرٌ وَلَا تُدَّرَعُ

جَارِيَةٌ أَوْ يُعْذَرُ الْغُلَامُ

إِلَّا بِأَمْرِهِ بِهَا يُرَامُ

وَبَاعَهَا بَعْدُ حَكِيمُ بْنُ حِزَامْ

وَأَنَّبُوهُ وَتَصَدَّقَ الْهُمَامْ

سَيِّدُ نَادِيهِ بِكُلِّ الثَّمَنِ

إِذِ الْعُلَى بِالدِّينِ لَا بِالدِّمَنِ
الرَّابِعُ : أَنَّهَا فُتِحَتْ صُلْحًا ، فَبَقِيَتْ عَلَى مِلْكِ أَهْلِهَا ، وَقَدْ قَدَّمْنَا ضَعْفَ هَذَا الْوَجْهِ .

الْخَامِسُ : الْقِيَاسُ ; لِأَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ أَرْضٌ حَيَّةٌ لَيْسَتْ مَوْقُوفَةً ، فَيَجُوزُ بَيْعُهَا قِيَاسًا عَلَى غَيْرِهَا مِنَ الْأَرْضِ .

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : بِأَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ لَا تُمَلَّكُ وَلَا تُبَاعُ بِأَدِلَّةٍ :

مِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي [ 22 \ 25 ] ، قَالُوا : وَالْمُرَادُ بِالْمَسْجِدِ : جَمِيعُ الْحَرَمِ كُلِّهِ لِكَثْرَةِ إِطْلَاقِهِ عَلَيْهِ فِي النُّصُوصِ ، كَقَوْلِهِ : سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [ 17 \ 1 ] ، وَقَوْلِهِ : إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الْآيَةَ [ 9 \ 7 ] ، وَقَوْلِهِ : هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ [ 5 \ 95 ] ، مَعَ أَنَّ الْمَنْحَرَ الْأَكْبَرَ مِنَ الْحَرَمِ " مِنًى " .

وَمِنْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا [ 27 \ 91 ] قَالُوا : وَالْمُحَرَّمُ لَا يَجُوزُ بَيْعُهُ .

وَمِنْهَا : مَا أَخْرَجَهُ الْبَيْهَقِيُّ مِنْ طَرِيقِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُهَاجِرٍ ، عَنْ أَبِيهِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ بَابَاهُ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا ، وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا " .

وَمِنْهَا : مَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ ، عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، عَنْ أَبِي نَجِيحٍ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو ، قَالَ : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : " مَكَّةُ حَرَامٌ ، وَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا ، وَحَرَامٌ أَجْرُ بُيُوتِهَا " .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.97 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 39.34 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.57%)]