
01-11-2021, 04:28 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,740
الدولة :
|
|
تدبر آية قرآنية من عدة علوم
تدبر آية قرآنية من عدة علوم
عبدالله بن عبده نعمان العواضي
قال الله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 177].
سنتحدث عن بيان هذه الآية من عدة فنون:
الأول: المناسبة:
قال ابن كثير: "إن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولًا بالتوجه إلى بيت المقدس، ثم حولهم إلى الكعبة، شقَّ ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين؛ فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره، والتوجه حيثما وجه، واتباع ما شرع، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل، وليس في لزوم التوجه إلى جهة من المشرق إلى المغرب بر ولا طاعة، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه"[1].
وقال البقاعي: "ولَمَّا بيَّن سبحانه وتعالى كفر أهل الكتاب الطاعنين في نسخ القبلة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكتمان الحق وغير ذلك إلى أن ختم بكفرهم بالاختلاف في الكتاب، وكتمان ما فيه من مؤيِّدات الإسلام - أتبعه الإشارة إلى أن أمر الفروع أحق من أمر الأصول؛ لأن الفروع ليست مقصودة لذاتها، والاستقبال الذي جعلوا من جملة شقاقهم أن كتموا ما عندهم من الدلالة على أحقيته، وأكثروا الإفاضة في عيب المتقين به ليس مقصودًا لذاته، وإنما المقصود بالذات الإيمان، فإذا وقع تبِعتْه جميع الطاعات من الصلاة المشترط فيها الاستقبال وغيره"[2].
وقال ابن عاشور: "فأهل الكتاب رأوا أن المسلمين كانوا على شيء من البر باستقبالهم قِبلتهم، فلما تحولوا عنها لمزوهم بأنهم أضاعوا أمرًا من أمور البر، يقول: عد عن هذا وأعرضوا عن تهويل الواهنين، وهبوا أن قبلة الصلاة تغيرت، أو كانت الصلاة بلا قبلة أصلًا، فهل ذلك أمر له أثر في تزكية النفوس واتصافها بالبر، فذكرُ المشرق والمغرب اقتصار على أشهر الجهات، أو هو للإشارة إلى قبلة اليهود وقبلة النصارى، لإبطال تهويل الفريقين على المسلمين حين استقبلوا الكعبة، ومنهم من جعله لكل من يسمع الخطاب"[3].
الثاني: أسباب النزول:
قال قتادة: ذُكر لنا أن رجلًا سأل نبي الله صلى الله عليه وسلم عن البر، فأنزل الله هذه الآية، وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم دعا الرجل، فتلاها عليه، وقد كان الرجل قبل الفرائض إذا شهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا عبده ورسوله، ثم مات على ذلك يرجى له ويطمع له في خير، فأنزل الله: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾، وكانت اليهود توجهت قِبَلَ المغرب، والنصارى قِبَلَ المشرق: ﴿ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾[4].
الثالث: القراءات:
الموضع الأول: قرأ عاصم - برواية حفص - وحمزة: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ ﴾ بالنصب، وقرأ الباقون بالرفع.
توجيه القراءتين:
من رفع فالمعنى: ليس البر كله توليتكم، فيكون البر اسم ليس، ويكون ﴿ أن تولوا ﴾ الخبر، وحجتهم قراءة أُبي: (ليس البر بأن تولوا)، ألا ترى كيف أدخل الباء على الخبر، والباء لا تدخل في اسم ليس، إنما تدخل في خبرها.
والحجة لمن قرأ بالنصب: أنه جعل أن مع صلتها الاسم، فيكون المعنى: ليس توليتكم وجوهكم قبل المشرق والمغرب البر كله، وجعل البر خبر ليس، ودليله أن ليس وأخواتها إذا أتى بعدهن معرفتان كنت مخيرًا فيهما، وإن أتى بعدهن معرفة ونكرة، كان الاختيار أن تجعل المعرفة الاسم والنكرة الخبر.
قال أبو علي: كلا المذهبين حسن؛ لأن كل واحد من الاسمين: اسم ليس وخبرها معرفة، فإذا اجتمعا في التعريف تكافئا في كون أحدهما اسمًا والآخر خبرًا كما تتكافأ النكرتان.
الموضع الثاني: قرأ نافع وابن عامر: ﴿ ولكنِ البر ﴾ بتخفيف النون من لكن، وقرأه بقية العشرة بتشديد نون ﴿ ولكنَّ ﴾.
توجيه القراءتين:
فمن شدَّد نصب البر اسمًا لـ(لكن)، ومن خفَّف رفع البر على الابتداء، وكسرت النون لالتقاء الساكنين[5].
الرابع: معاني المفردات:
1- البر:
البَرُّ: خلاف البحر، وتُصُوِّرَ منه التوسع، فاشتُق منه البِرُّ، للتوسع في فعل الخير، تشبيهًا له بالبحر،
فالبِر: سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل، ولذلك توصف به الأفعال القوية الإحسان، فيقال: بر الوالدين وبر الحج، والمراد به هنا: بر العبد ربَّه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره [6].
2- الرقاب:
الرقاب: جمع رقبة، والرقبة: مؤخر العنق، واشتقاقها من المراقبة، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم، ولهذا المعنى يقال: أعتق الله رقبته، ولا يقال: أعتق الله عنقه؛ لأنها لما سميت رقبة، كانت كأنها تراقب العذاب، ومن هذا يقال للتي لا يعيش لها ولد: رقوب؛ لأجل مراعاتها موت ولدها، وقد يعبر بالرقبة عن الشخص بجملته.
والمراد: فك الرقاب من العبودة، وهم المكاتَبون الذين يسعون في فك رقابهم من العبودة بأداء كتاباتهم التي فارقوا عليها ساداتهم[7].
3- البأساء، البأس:
البُؤْسُ والبَأْسُ والبَأْسَاءُ: الشدة والمكروه، إلا أن البؤس في الفقر والحرب أكثر، والبأس والبأساء في النكاية، والبأساء: اسم مشتق من البؤس، إلا أنه مؤنث وليس بصفة، وقيل: هو صفة أقيمت مقام الموصوف، والبؤس والبأساء: الفقر، يقال منه: بَئِسَ الرجل: إذا افتقر، والبأس: شدة القتال[8].
4- الضراء:
الضُّرُّ: سوءُ الحال، والضَّرَّاءُ يقابل بالسَّرَّاء والنَّعماء، والضر بالنفع[9].
واختلف المفسرون في البأساء والضراء، فأكثرهم على أن البأساء هو الفقر، وأن الضراء الزمانة في الجسد، وإن اختلفت عبارتهم في ذلك، فالبأساء الشدة في المال، والضراء شدة الحال على الإنسان، وهو قول ابن مسعود، وقتادة، والربيع، والضحاك.
وقيل: البأساء: القتال، والضراء: الحصار، ذكره الماوردي، وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى أشد، فذكر أولًا الصبر على الفقر، ثم الصبر على المرض وهو أشد من الفقر، ثم الصبر على القتال وهو أشد من الفقر والمرض.
قال الراغب: استوعب أنواع الصبر؛ لأنه إما أن يكون فيما يحتاج إليه من القوت فلا يناله، وهو: البأساء، أو فيما ينال جسمه من ألم وسقم، وهو: الضراء في مدافعة مؤذيه، وهو: البأساء [10].
الخامس: معنى الآية:
يقول تعالى: ليس الخير كله أن تصلُّوا فحسب دون أن تعملوا، وهذا حين نزلت الفرائض والحدود، فأمر الله بالفرائض والعمل بها، أو ليس البر - أيها اليهود والنصارى - أن يولي بعضكم وجهه قبل المشرق وبعضكم قبل المغرب، ولكن البر هو بر مَن آمَن وعمل صالحًا، فآمن إيمانًا صحيحًا بالله واليوم الآخر والكتاب والنبيين[11]، وأعطى ماله في حين محبته إياه، وضنه به، ورغبته فيه؛ قال تعالى: ﴿ وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلا شُكُورًا ﴾ [الإنسان:8-9]، وقال تعالى: ﴿ لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ﴾ [آل عمران:92].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، أي الصدقة أعظم أجرًا؟ قال: (أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح، تخشى الفقر وتأمُل الغنى)[12].
وقوله: ﴿ ذوي القربى ﴾ هم: قرابات الرجل، وهم أَولى مَن أعطى من الصدقة؛ كما ثبت في الحديث: (الصدقة على المسكين صدقة، وعلى ذوي الرحم ثنتان: صدقة وصلة)[13].
فهم أحق الناس بك وببرك وإعطائك، وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير ما موضع من كتابه العزيز.
﴿ واليتامى ﴾ هم: الذين لا كاسب لهم، وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ والقدرة على التكسب، ﴿ والمساكين ﴾ وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم، فيُعطون ما تُسَدُّ به حاجتُهم وخَلَّتُهم، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس المسكين بهذا الطوَّاف الذي تردُّه التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان، ولكن المسكين الذي لا يجد غنًى يُغنيه، ولا يُفطَنُ له فيُتصدَّق عليه).
﴿ وابن السبيل ﴾ وهو: المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته، فيُعطى ما يوصله إلى بلده، وكذا الذي يريد سفرًا في طاعة، فيعطى ما يكفيه في ذهابه وإيابه، ويدخل في ذلك الضيف.
﴿ والسائلين ﴾ وهم الذين يتعرضون للطلب، فيعطون من الزكوات والصدقات، ﴿ وفي الرقاب ﴾ وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم.
وقوله: ﴿ وأقام الصلاة وآتى الزكاة ﴾؛ أي: وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها، وسجودها، وطُمأنينتها، وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي.
وقوله: ﴿ وآتى الزكاة ﴾ يحتمل أن يكون المراد به زكاة النفس، وتخليصها من الأخلاق الدنية، ويحتمل أن يكون المراد زكاة المال، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين إنما هو التطوع والبر والصلة.
وقوله: ﴿ والموفون بعهدهم إذا عاهدوا ﴾؛ يعني: والذين لا ينقضون عهد الله بعد المعاهدة، ولكن يوفون به ويتمونه على ما عاهدوا عليه من عاهدوه عليه.
وقوله: ﴿ والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ﴾؛ أي: في حال الفقر، وفي حال المرض وفي حال القتال والتقاء الأعداء.
فمن فعل هذه الأشياء، فهم الذين صدقوا الله في إيمانهم، وحقَّقوا قولهم بأفعالهم، لا من ولى وجهه قبل المشرق والمغرب وهو يخالف الله في أمره، وينقض عهده وميثاقه، ويكتم الناس بيان ما أمره الله ببيانه، ويكذب رسله، فأولئك الذين اتقوا عقاب الله، فتجنبوا عصيانه[14].
السادس: العقيدة:
لقد بيَّنت هذه الآية الكريمة أن الأعمال الصالحة داخلة في مسمى الإيمان؛ خلافًا لمن أخرجها منها، وقد ساق الطبري بسنده - عند هذه الآية - عن الربيع: ﴿ أولئك الذين صدقوا ﴾ قال: فتكلموا بكلام الإيمان، فكانت حقيقته العمل، صدقوا الله، قال: وكان الحسن يقول: هذا كلام الإيمان، وحقيقته العمل، فإن لم يكن مع القول عمل، فلا شيء[15].
وبوب ابن مَنده (المتوفى 395هـ) في كتابه" الإيمان" باب: ذكر ما يدل على أن اسم الإيمان يقع على غير ما ذكر جبريل عليه السلام، وذكر تحته هذه الآية التي نحن بصدد بيانها[16].
وفي كتاب الإيمان لأبي عبدالله العدني (المتوفى: 243هـ) ساق بسنده عن عكرمة قال: سئل الحسن بن علي مقبله من الشام: عن خصال الإيمان؟ فتلا هذه الآية: ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب.. ﴾ الآية[17].
وقال ابن بطة (المتوفى: 387هـ): "فقد أخبر الله تعالى في كتابه في آي كثيرة منه أن هذا الإيمان لا يكون إلا بالعمل, وأداء الفرائض بالقلوب والجوارح, وبيَّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرحه في سنته, وأعلَمه أمَّته, وكان مما قال الله تعالى في كتابه مما أعلمنا أن الإيمان هو العمل, وأن العمل من الإيمان ما قاله في سورة البقرة: ﴿ ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله... ﴾"[18].
السابع: الفقه:
اختلف العلماء في المراد بالإيتاء في قوله تعالى: ((وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ...)) إلى أقوال:
القول الأول: أنه الزكاة، وبيَّن بذلك مصارفها، قال الطبري: "وقال آخرون: المال الأول هو الزكاة، ولكن الله وصف إيتاء المؤمنين من آتوه ذلك، في أول الآية، فعرف عباده - بوصفه ما وصف من أمرهم - المواضع التي يجب عليهم أن يضعوا فيها زكواتهم، ثم دلهم بقوله بعد ذلك: ﴿ وآتى الزكاة ﴾ أن المال الذي آتاه القوم هو الزكاة المفروضة كانت عليهم، إذ كان أهل سهمانها هم الذين أخبر في أول الآية أن القوم آتوهم أموالهم".
وقال الرازي رادًّا هذا القول: "وهذا ضعيف؛ وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله: ﴿ وأقام الصلاة وآتى الزكاة ﴾، ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا، فثبت أن المراد به غير الزكاة".
القول الثاني: أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجبًا، ثم إنه صار منسوخًا بالزكاة.
القول الثالث: هي نوافل الصدقات والمبار.
القول الرابع: أنها حقوق تجب سوى الزكاة؛ كالحاجات الضرورية؛ مثل: إطعام المضطر، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول:
أما النص: فقوله عليه الصلاة والسلام: (لا يؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعانَ، وجاره طاوٍ إلى جنبه).
وروي عن فاطمة بنت قيس: (أن في المال حقًّا سوى الزكاة)، ثم تلت: ﴿ وآتى المال على حبه ﴾، وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته، فهل عليه شيء سواه؟ فقال: نعم، يصل القرابة، ويعطي السائل، ثم تلا هذه الآية.
وأما المعقول فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة، وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم، ولو امتنعوا من الإعطاء، جاز الأخذ منهم قهرًا، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب.
وقال ابن تيمية: ويعتقد الغالط منهم (أن لا حق في المال سوى الزكاة )" أن هذا عام، ولم يعلم أن الحديث المروي في الترمذي عن فاطمة (إن في المال حقًّا سوى الزكاة)، ومن قال بالأول، أراد الحق المالي الذي يجب بسبب المال، فيكون راتبًا وإلا فنحن نعلم بالاضطرار من دين الإسلام أن الله قد أوجب إيتاء المال في غير الزكاة المفروضة في مواضع: مثل الجهاد بالمال عند الحاجة والحج بالمال، ونفقة الزوجة والأقارب، والمماليك من الآدميين والبهائم، ومثل ما يجب من الكفارات من عتق وصدقة، وهدي كفارات الحج، وكفارات الأيمان، والقتل وغيرها، وما يجب من وفاء النذور المالية إلى أمثال ذلك، بل المال مستوعب بالحقوق الشرعية الراتبة أو العارضة بسبب من العبد أو بغير سبب منه[19].
الثامن: مقاصد الشريعة:
هذه الآية الكريمة تشير إلى مقصد من مقاصد الشريعة، وهو أن الاشتغال بالجزئي الذي يغفل معه عن الكلي أمر منهي عنه، "فهنا في هذه الآية بيان أن المهم ليس أن تكون الصلاة إلى هذه الجهة أو إلى تلك الجهة، بقدر ما هو أهم من ذلك هو أن تكون مؤمنًا بالله وباليوم الآخر وبالملائكة والكتاب والنبيين..."[20].
ويذكر الشاطبي أن الانشغال بأمر عن أمر هو أهم منه تكلُّف، ثم يقول: "ولهذا أصل في الشريعة صحيح، نبه عليه قوله تعالى: ﴿ لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ ﴾ [البقرة: 177] إلى آخر الآية"[21].
ونحن في الواقع نجد بعض المسلمين اليوم من الحريصين على الصلاة حيث ينادى بها، ومن الذين يلازمون التلاوة في المساجد، ويسابقون على الصف الأول، ويعتقد أن هذا هو الإسلام فحسب، فإذا خرج عن المسجد ساءت معاملته مع من حوله الأقربين منهم والأبعدين، وتناول من الحرام في المال وغيره ما استطاع، وهذا فهم قاصر للدين وللصلاة.
إن الإسلام ليس محصورًا في الصلاة بل هو التزام عام يشمل الصلاة وغيرها من شعائره؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً ﴾ [البقرة:208].
"يقول تعالى آمرًا عباده المؤمنين به المصدقين برسوله أن يأخذوا بجميع عرى الإسلام وشرائعه، والعمل بجميع أوامره، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك... وقال مجاهد: أي: اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر"[22].
وأما الصلاة، فإنها إذا صلَحت أصلحت حياة صاحبها، فدعته لامتثال الأوامر وترك النواهي؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ ﴾ [العنكبوت:45].
وقال ابن عاشور: "ونفي البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة؛ إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد، فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين، ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان، وصلوات النوافل على الدابة في السفر، ولذلك قال: ﴿ ولكن البر من آمن... ﴾... إلخ، فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة، وفيه جماع صلاح النفس والجماعة، ونظير هذا قوله تعالى: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ﴾ [التوبة: 19] الآيات، فيكون النفي على معنى نفي الكمال، وإما لأن المنفي عنه البر هو استقبال قبلتي اليهود والنصارى، فقد تقدم لنا أن ذلك الاستقبال غير مشروع في أصل دينهم، ولكنه شيء استحسنه أنبياؤهم ورهبانهم، ولذلك نفي البر عن تولية المشرق والمغرب تنبيهًا على ذلك"[23].
التاسع: النحو:
1- ولكن البر من آمن:
إن قال قائل: كيف قيل: ﴿ ولكن البر من آمن بالله ﴾، وقد علمت أن "البر" فعل، و"من" اسم، فكيف يكون الفعل هو الإنسان؟ يعني: إن "البر" معنى من المعاني، فلا يكون خبره الذوات، فكيف أخبر عن المعنى بالذات؟
عن ذلك أجوبة:
أ- هناك حذف تقديره: ولكن البر بر مَن آمن بالله، فحذف المضاف وهو كثير في الكلام كقوله: ﴿ وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ ﴾ [البقرة: 93]؛ أي: حب العجل، ويقولون: الجود حاتم والشعر زهير، والشجاعة عنترة، ومعناها: الجود جود حاتم، والشجاعة شجاعة عنترة والشعر شعر زهير، وهذا اختيار الفراء، والزجاج، وقطرب، وعلى هذا خرجه سيبويه، قال في كتابه: وقال جل وعز: ﴿ ولكن البر من آمن ﴾ وإنما هو: ولكن البر بر من آمن بالله؛ انتهى.
ورجح هذا الرازي قائلًا: "واعلم أن الوجه الأول أقرب إلى مقصود الكلام، فيكون معناه: ولكن البر الذي هو كل البر الذي يؤدي إلى الثواب العظيم بر من آمن بالله".
ب- وقال أبو عبيدة: البر ها هنا بمعنى: البار بجعل البر هو نفس من آمن، على طريق المبالغة، والفاعل قد يسمى بالمصدر، كما يسمى المفعول به، ومنه قوله تعالى: ﴿ لْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ ﴾ [الملك: 30]، وقالت الخنساء: فإنما هي إقبال وإدبار؛ أي: مقبلة ومدبرة.
ج- وقيل: معناه: ولكن ذا البر، فحذف كقولهم: ﴿ هم درجات عند الله ﴾ أي: ذوو درجات قاله الزجاج[24].
2- والصابرين:
في نصبه وجهان: الأول:نصب بفعل مضمر تقديره: أعني أو أمدح، والقطع إلى الرفع أو النصب في صفات المدح والذم والترحم، وعطف الصفات بعضها على بعض مذكور في علم النحو، وإنما نصب ذلك حثًّا على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته.
قال الشاعر:
لا يَبْعُدَنْ قَوْمِي الذينَ هُمُ
سُمُّ العُداةِ وآفَةُ الجَزْرِ 
النَازِلينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ
والطَّيِّبُونَ معاقدَ الأُزْر 
وقال الفارسي: إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح والذم، فالأحسن أن تخالف بإعرابها، ولا تجعل كلها جارية على موصوفها؛ لأن هذا الموضع من موضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول، فإذا خولف بإعراب الأوصاف، كان المقصود أكمل؛ لأن الكلام عند الاختلاف يصير كأنه أنواع من الكلام، وضروب من البيان، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهًا واحدًا أو جملة واحدة؛ انتهى كلامه.
الثاني:نصب عطفًا على ﴿ ذوي القربى ﴾[25]، والوجه الأول أولى، والله أعلم.
قال الراغب: "ولَما كان الصبر من وجه مبدأ الفضائل، ومن وجه جامعًا للفضائل؛ إذ لا فضيلة إلا وللصبر فيها أثر بليغ، غيَّر إعرابه تنبيهًا على هذا المقصد"[26].
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|