اقتضاء العلم العمل (3)
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه عن مكانة العلم ومنزلته العليَّة في ديننا الحنيف، ومنزلته العظيمة؛ حيث ذكرنا أنه أساسٌ به يُبدأ؛ حيث لا يُمكن أن تُقام الشَّريعة وأن تُحقَّق العبوديَّة الَّتي خُلق العبد لأجلها وأُوجد لتحقيقها إلَّا بالعلم، وذكرنا بعض النقاط التي يتبين بها اقتضاء العلم العمل، واليوم نستكمل هذه النقاط.
جانب المنهيَّات
الأمر السادس: في جانب المنهيَّات، ما جاء النهي عنه والزجر عن فعله - أيضًا - كانوا أهل مسارعة ومواظبة ومبادرة عجيبة في هذا الباب؛ ولهذا جاء في الصَّحيحين عن عمر رضي الله عنه أنَّ النَّبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»، وقد سمعَه النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم- كما جاء في بعض الرِّوايات - يحلف بأبيه؛ ولنلاحظ هنا أنَّ هذا أمر اعتادوا عليه في جاهليَّتهم قبل الإسلام ، اعتادوا على الحلف بالآباء ودَرَجَ اللِّسان على ذلك ، يقول عمر : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إِنَّ اللهَ يَنْهَاكُمْ عَنْ أَنْ تَحْلِفُوا بِآبَائِكُمْ»، قال عمر: «فَوَالله مَا حَلَفْتُ بِهَا مُنْذُ سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم ذَاكِرًا وَلَا آثِرًا»، يعني: لا من قولي، ولا أيضًا حاكيًا لقول غيري.
همَّة السَّلف
من الطَّرائف الَّتي تُنقل في هذا الباب - وهذا أذكره فقط للمقارنة؛ ولندرك أيضًا همَّة السَّلف وعظيم عنايتهم في هذا الباب - يُذكر أنَّ شخصًا سمع رجلًا يحلف بالنَّبيِّ؛ فناصحه وأخذ يشرح له الأدلَّة حتَّى اقتنع وعَزَمَ على ألَّا يحلف؛ فمن باب التَّأكيد لمن يعظه قال له: «والنَّبيِّ! لن أحلف بالنَّبيِّ بعد اليوم!» نلاحظ هنا اللِّسان دَرَجَ على شيء من الصُّعوبة بمكان أن يَنْفَلِتَ منه الإنسان ويواظب دون أن يقع منه ولا مجرَّد فَلْتَةِ لسانٍ؛ فعُمر رضي الله عنه يحلف: «والله! ما حلفت بها بعد لا ذاكرًا ولا آثرًا»؛ فهذا ممَّا يبيِّن لنا عظيم عناية السَّلف ورعايتهم للعلم، ما أن يسمع الحديثَ - سواءً في باب الأمر أم في باب الزَّجر - إلَّا يواظب عليه مواظبةً عجيبةً حتَّى فيما أَلِفَتْهُ النَّفسُ واعتادت عليه .
حديث أنس رضي الله عنه
ومن هذا الباب: ما جاء في حديث أنس في الصَّحيحين، وقد كان صلى الله عليه وسلم خادمًا عند أبي طَلْحة، وكان يومًا يسقيهم الخمر قبل التَّحريم، وبَيْنَا هو كذلك يسقيهم الخمر؛ إذ أتى آتٍ وقال: حُرِّمت الخمر؛ فأمروا فورًا بإراقتها مع تعلُّق النُّفوس واعتيادهم على ذلك؛ فأراقوها فورًا في اللَّحظة نفسها، وكان ذلك آخر عهدهم بها.
حديث ابن عبَّاس -رضي الله عنه
كذلك ما جاء في حديث ابن عبَّاس في صحيح مسلم: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم رَأَى خَاتَمًا مِنْ ذَهَبٍ فِي يَدِ رَجُلٍ؛ فَنَزَعَهُ فَطَرَحَهُ وَقَالَ: «يَعْمِدُ أَحَدُكُمْ إِلَى جَمْرَةٍ مِنْ نَارٍ فَيَجْعَلُهَا فِي يَدِهِ»؛ فَقِيلَ لِلرَّجُلِ بَعْدَ مَا ذَهَبَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : خُذْ خَاتَمَكَ انْتَفِعْ بِهِ - يعني: تبيعه، تتركه لأهلك، هذه وجوه مباحة - قَالَ: لَا وَالله! لَا آخُذُهُ أَبَدًا وَقَدْ طَرَحَهُ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم »، حتى نفسه زهدت في هذا المباح مِن شدَّة العناية والالتزام بما جاء عن النَّبيِّ -صلوات الله وسلامه عليه.
ثبات العلم ورسوخه
الأمر السابع في هذا الباب: أنَّ العناية بالعمل سببٌ لثبات العلم ورسوخه وقوَّته، وإذا تُرك العمل ذهب العلم، كما جاء عن عليٍّ رضي الله عنه أنَّه قال: «هتف بالعلم العمل؛ فإنْ أجابه وإلَّا ارْتحل» يعني لا يبقى؛ فالعمل بالعلم سببٌ لثباته؛ ولهذا جاء عن الشَّعبيّ -رحمه الله- أنَّه قال: «كنَّا نستعين على حفظ الحديث بالعمل به» ، وجاء عن أبي الدَّرداء رضي الله عنه أنَّه قال : «إنَّك لن تكون عالماً حتَّى تكون متعلِّمًا، ولن تكون متعلِّمًا حتَّى تكون عاملًا بما تعلَّمتَ»، وفي هذا المعنى العظيم يُنقل عن السَّلف -رحمهم الله- نصوصٌ كثيرة، وإذا نظر أيضًا المسلم إلى الواقع العملي في حياة السَّلف، يجد ذلك واضحًا جليًّا في سِيَرِهم العطرة وأخبارهم المباركة -رضي الله عنهم ورحمهم- وألحقنا جميعًا بالصَّالحين من عباده .
العمل بالعلم أبلغ في الدَّعوة
الأمر الثامن: أنَّ العمل بالعلم أبلغ في الدَّعوة من القول بلا عمل، قد مرَّ معنا قول الله -سبحانه وتعالى- عن شعيب: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}(هود:88)، جاء عن مالك بن دينار أنَّه قال: «إنَّ العالِم إذا لم يعمل زلَّت موعظتُه عن القلوب»، وجاء عن المأمون أنَّه قال: «نحنُ إلى أن نوعَظَ بالأعمال أحوجُ من أن نوعَظَ بالأقوال»؛ لأنَّ الَّذي يعمل ويواظب؛ فعمله ومواظبته على العمل هي بحدِّ ذاتها دعوة، ويكون بذلك للنَّاس أسوةً وقدوةً، ويكون فعلًا إمامًا، قال -تعالى-: {وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا}(الفرقان:74)، لا يكون الإنسان بهذه المنزلة إمامًا، إلَّا إذا اجتمعت فيه صفات الخير؛ بحيث يكون قدوة للنَّاس في صفات الخير، أمَّا أن يستكثر من العلوم، ولا يكون من أهل العمل؛ فهذا كما أنَّه لم ينتفِع، لا يُنتفعُ بعلمه.
مواقف مؤثِّرة
وأَذكر من المواقف المؤثِّرة: أنَّني مرَّة زُرْتُ أحدَ المسنِّين من العبَّاد في المسجد الَّذي يصلِّي فيه، وكان صاحبَ عبادةٍ ويجلس في المسجد - انتظار الصَّلاة بعد الصَّلاة - فسلَّمت عليه وتحدَّثت معه وقلت له: ما شاء الله في حيِّكم هذا مجموعة من طلبة العلم، قال: حيُّنا هذا! قلت: إيْ نَعَم، في حيِّكم مجموعة - ما شاء الله - من طلبة العلم، قال: حيّنا هذا! - يُعِيدُهَا عليَّ، استفهام إنكاري! - قال: حيّنا هذا؟! قلت: نعم، قال: يا وَلَدِي! الَّذي لا يحافظ على الصَّلاة ما هو طالب علم .
أين أثر العلم؟
ولهذا أحيانًا بعض النَّاس قد يستكثر من العلوم والحفظ والمذاكرة، لكن تفقده - خاصَّة في صلاة الفجر -، إذا كانت الفريضة العظيمة - الَّتي أعظم أركان الإسلام بعد الشَّهادتين، وأوَّل ما يُسأل عنه يوم القيامة - إذا كان مضيعاً لها؛ فأين أثر العلم؟! يُفتقد في صلاة الفجر والصَّحابة -رضي الله عنهم- كما جاء عن ابن عمر: «كنَّا إذا فقَدنا الرَّجل في الفجر والعشاء أسأنا به الظَّنَّ»، وفي الحديث: «إنَّ أثقل صلاة على المنافقين صلاةُ الفجر وصلاةُ العشاء»، وفي زماننا هذا - زمن السَّهر باللَّيل - كثيرًا ما تُضيَّع صلاة الفجر، وكثيرًا ما يُفرَّط فيها، وربَّما بعضهم يسهر اللَّيل في مناقشات علميَّة في بعض المسائل، أو في بعض الموضوعات، ثمَّ ينام عن صلاة الفجر، لو كان يَسهر باللَّيل على القرآن حفظًا له وقراءةً له، إذا كان على حساب صلاة الفجر؛ فإنَّ سهره محرَّم ولا يحلُّ له، ويَأثَم على ذلك السَّهر، وأكثر صلاةٍ تُضيَّع في هذا الزَّمان، هي أفضل الصَّلوات على الإطلاق أتدرون ما هي؟ جاء في الحديث وقد حسّنه الألباني -رحمه الله- في بعض كتبه أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: «أَفْضَلُ الصَّلَوَاتِ عند الله صَلَاةُ الصُّبْح يَوْمَ الجُمُعَةِ في جَمَاعَةِ» حسنه الألباني بهذا اللفظ، وصلاة الصُّبح يوم الجمعة في جماعة هي أكثر صلاة تُضيَّع الآن!
اللَّهمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلمًا نَافِعًا
الأمر التاسع -وقد مرَّ معنا-: أنَّ النَّبيَّ -عليه الصَّلاة والسَّلام- كان كلَّ يوم - كما قدَّمت من حديث أمِّ سلمة -رضي الله عنها- يُواظب على الدُّعاء بــ: «اللَّهمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا»، وكنت أريد أن أقف وقفة موسَّعة بعض الشيء مع هذه الدعوة، لكن أشير باختصار أن هذه الدَّعوة مناسبة غاية المناسبة في صَدْر اليوم وبدايته؛ لأنَّ اليوم هو ميدان الأعمال، وأهداف المسلم في يومه هذه الأمور الثَّلاثة لا رابع لها: علمٌ نافع، وعملٌ متقبَّل، ورزق طيِّب؛ ولهذا من المناسب أن تبدأ يومك بعد أن تصلِّيَ الفجر بهذه الدَّعوة: «اللَّهمَّ إنِّي أَسْأَلُكَ عِلْمًا نَافِعًا، وَرِزْقًا طَيِّبًا، وَعَمَلًا مُتَقَبَّلًا» ثمَّ تنطلق في يومك وقد استعنتَ بالله وطلبتَ مدَّه وعونَه في طلب العلم، والاجتهاد في العمل، وتحصيل الرِّزق .
ذمُّ مَنْ لا يشتغل بالعمل
الأمر الأخير: أنَّ السَّلف -رحمهم الله- وَرَدَ عنهم نقولٌ كثيرة جدًّا في ذمِّ مَنْ لا يشتغل بالعمل ولا يعتني بالعمل، يُنقل عنهم نقول عديدة لعلها تُراجع في كتاب (اقتضاء العلم العمل)، قد جمع الخطيب -رحمه الله تعالى- فيه نقولاً عظيمة، ومن جميل ما يُنقل في هذا الباب: أنَّ سفيان -رحمه الله تعالى- سُئِل، قيل له: طلب العلم أحبُّ إليك أو العمل؟ فقال: «إنَّما يُراد العلم للعمل، فلا تَدَع طلب العلم للعمل، ولا تدَع العمل لطلب العلم» كلمة عظيمة جداً .
وصيَّة عظيمة
وهذه وصيَّة عظيمة وبليغة ونافعة ومؤثِّرة للخطيب البغدادي -رحمه الله- في كتابه «اقتضاء العلم العمل»، يقول -رحمه الله-: «إنِّي موصيك - يا طالبَ العلم - بإخلاص النِّيَّة في طلبه، وإجهاد النَّفس على العمل بموجَبه؛ فإنَّ العِلمَ شجرةٌ، والعَمَلَ ثمرةٌ ، وليس يُعدُّ عالمـًا مَنْ لم يَكُن بعلْمِه عاملًا ، فلا تَأْنَس بالعمل ما دُمْتَ مستوحشًا من العلم، ولا تَأْنَسْ بالعلم ما كنتَ مقصِّرًا في العمل ، ولكن اجْمَع بينهما وإن قلَّ نصيبُك منهما ، وما شيءٌ أضعف مِنْ عالمٍ تَرَكَ النَّاس عِلْمَه لفساد طريقتِه، وجاهلٌ أخذ النَّاسُ بجهله لنَظَرِهم إلى عبادته، والقليلُ مِنْ هذا مع القليل مِنْ هذَا أنجى في العاقبة، إذا تفضَّل الله بالرَّحمة وتمَّم على عبدِه النِّعمة؛ فأمَّا المدافعة والإهمال، وحبُّ الهُوَيْنَا والاسترسال، وإيثارُ الخفض والدَّعة، والميلُ مع الرَّاحة والسَّعة؛ فإنَّ خواتيم هذه الخصال ذميمةٌ، وعُقباها كريهةٌ وخيمةٌ ، والعلم يُراد للعمل، كما العمل يُراد للنَّجاة؛ فإذا كان العمل قاصرًا عن العلم، كان العلم كَلًّا على العالِم، ونعوذ بالله من علمٍ عاد كلًّا، وأورث ذلًّا، وصار في رقبة صاحبِه غلًّا » انتهى كلامه -رحمه الله.