اقتضاء العلم العمل (2)
الشيخ عبدالرزاق بن عبدالمحسن البدر
استكمالاً لما بدأنا الحديث عنه عن مكانة العلم ومنزلته العليَّة في ديننا الحنيف، ومنزلته العظيمة؛ حيث ذكرنا أنه أساسٌ، به يُبدأ؛ حيث لا يُمكن أن تُقام الشَّريعة وأن تُحقَّق العبوديَّة الَّتي خُلق العبد لأجلها وأُوجد لتحقيقها إلَّا بالعلم، وذكرنا بعض النقاط التي يتبين بها اقتضاء العلم العمل، الأولى أنَّ اقتضاء العلم العمل واضحٌ؛ من حيث إنَّ كِلَا الأمرين مقصودُ الخلق، والأمر الثاني أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم أخبر بأنَّ النَّاس يوم القيامة، يُسألون عن العلم الَّذي حصَّلوه، ماذا عملوا به؟ واليوم نستكمل هذه النقاط.
تهديدٌ ووعيدٌ
الأمر الثالث: أنَّ القرآنَ والسُّنَّةَ جاء فيهما تهديدٌ ووعيدٌ لمن لا يعمل بالعلم الَّذي تعلَّمه، يتعلَّم ويتفقَّه، وربَّما أيضًا يدعُو إلى هذا العلم ولا يعمل به! قال الله -سبحانه وتعالى-: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ}(الصف: 2-3)، وقال -جلَّ وعلا-: {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ – أي بالعمل به - وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}(البقرة:44)، وقال -جلَّ وعلا- عن نبيِّه شعيب -عليه السلام-: {وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ}(هود: 88}؛ فهذه ثلاث آيات في القرآن العظيم في هذا الباب.
حديث أسامة رضي الله عنه
وقد جاء في الحديث -حديث أسامة رضي الله عنه في الصَّحيحين وغيرهما- عن النَّبيّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «يُجَاءُ بِرَجُلٍ يَوْمَ القِيَامَةِ فَيُلْقَى فِي النَّارِ فَتَنْدَلِقَ أَقْتَابُهُ - أَي تخرُج أمعاؤه - وَيَدُورُ بِهَا كَمَا يَدُورُ الحِمَارُ بِالرَّحَى؛ فَيَأْتِيهِ أَهْلُ النَّارِ وَيَقُولُونَ: أَيْ فُلَانٌ، مَا شَأْنُكَ؟ أَلَمْ تَكُنْ تَأْمُرُنَا بِالمَعْرُوفِ وَتَنْهَانَا عَنِ المُنْكَرِ؟! قَالَ: بَلَى؛ كُنْتُ آمُرُكُمْ بِالمَعْرُوفِ وَلَا آتِيهِ، وَأَنْهَاكُمْ عَنِ المنْكَرِ وَآتِيهِ».
حديث أنس رضي الله عنه
وجاء في مسند الإمام أحمد من حديث أنس رضي الله عنه : «أنَّ النَّبيَّ -عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَام- رَأَى لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِهِ قَوْمًا تُقَرَّضُ شِفَاهُهُمْ بِمَقَارِيضَ مِنْ نَارٍ؛ فَقَالَ: مَنْ هَؤُلَاءِ؟! قَالُوا: هَؤُلَاءِ خُطَبَاءُ مِنْ أُمَّتِكَ، يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالبِرِّ وَيَنْسَوْنَ أَنْفُسَهُمْ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ أَفَلَا يَعْقِلُونَ»؛ فالشرع ودلائل الكتاب والسُّنَّة جاء فيهما وعيدٌ لمن لا يعمل بعلمه، ومن يدعو ولا يعمل، ويكون حظُّ النَّاس من علمه أكثر من حظِّه هو مِنْ علمه؛ ولهذا كان بعض السلف يقول في دعائه: «اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن يكون أحدٌ أَسْعَد بما علَّمتني منِّي، وأعوذ بك أن أكون عبرةً لغيري» ، قال شيخ الإسلام ابن تيمية -رحمه الله تعالى-: «وهو من أحسن الدُّعاء»، وهو دعاء كان يدعو به مطرِّف ابن عبد الله بن الشّخِّير، كما في الزهد للإمام أحمد وغيره، وهي دعوة عظيمة «اللَّهمَّ إنِّي أعوذ بك أن يكون أحدٌ أَسْعَد بما علَّمتني منِّي»، وغير الإنسان يكون أسعد بعلمه منه إذا كان يضيء للنَّاس الطَّريق ويحرق نفسه، فلا يعمل بما تعلَّمه، ولا يعمل بما يدعو الناس إليه.
الأعمال المقرِّبة إلى الله -تعالى
الأمر الرابع: أنَّ دلائل الشَّرع جاء فيها أنَّ الأعمال المقرِّبة إلى الله -سبحانه وتعالى- ذخيرة للعبد يوم القيامة يفوز بسببها برضا الله -جلَّ وعلا- وجنَّته؛ ولهذا في القرآن ما يقرُب منَ الخمسين آية، يُجمع فيها في مقام ذكر الثَّواب والأجر بين الإيمان والعمل، مع أنَّ العمل داخلٌ في مسمَّى الإيمان! لكن تَعْلِيَةً لمقام العمل وبيانًا لعظيم شأنه، ورَفيع ذكره، يُخصُّ بعد عموم: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(البقرة:277)، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}(النحل: 97)، {وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} (الأعراف:43)، {الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}(النحل: 32)، والآيات في هذا المعنى عديدة؛ فالعملُ سببٌ لدخول الجنَّة.
لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ
وقول -نبيِّنا عليه الصَّلاة والسَّلام-: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ». أي على سبيل المعَاوَضَة والمقابلة، وإلَّا فإنَّ العمل سببٌ من أسباب دخول الجنَّة، ودخول الجنَّة برحمة الله -سبحانه وتعالى-، قال: «لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ» قَالُوا: وَلَا أَنْتَ يَا رَسُولَ اللهِ؟! قَال: «لَا، وَلاَ أَنَا إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِيَ اللهُ بِفَضْلٍ وَرَحْمَةٍ»؛ فليست الأعمال في مقامٍ يكون دخولُ العبد الجنَّة عِوَضًا أو مقابلًا لذلك، بل الأعمال سببٌ، وإلَّا فإنَّ دخول الجنَّة إنَّما هو برحمة الله وفضله، الأعمال ذاتُها الَّتي يقوم بها العبد هي رحمة الله به وفضله عليه {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ}(النور:21).
حال السَّلف
الأمر الخامس مما يبيِّن هذا المقام، حال السَّلف -رحمهم الله- العجيبة في المبادرة للأعمال والمسارعة إليها والمواظبة على فعلها، والإتيان بها فَوْرَ سماعِها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفورَ سماعهم لحديثه -عليه الصَّلاة والسَّلام-، يُبادرون مبادرةً عجيبة، ويسارعون مسارعةً عظيمة للعمل بما يأمرهم به -صلوات الله وسلامه عليه-، ويواظبون على ذلك، وفي هذا المعنى يُنقل عنهم نقولٌ كثيرة جدًّا، تدلُّ على شدَّة عنايتهم وعظيم رعايتهم لهذا الأمر، ومن ذلكم: ما جاء في الصَّحيحين وغيرهما من حديث عليٍّ رضي الله عنه ، في قصَّة فاطمة -رضي الله عنها- بنت النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم عندما جاءت النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم تطلب خادمًا؛ فقال لها -عليه الصَّلاة والسَّلام-: «أَوَلَا أَدُلُّكِ عَلَى مَا هُوَ خَيْرٌ لَكِ مِنْ خَادِمٍ، إِذَا أَوَيْتِ إِلَى الفِرَاشِ تُسَبِّحِينَ اللهَ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتَحْمَدِينَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ، وَتُكَبِّرِينَهُ ثَلَاثًا وَثَلَاثِينَ»، قال عليّ رضي الله عنه: «فما تركتها – هذا موضع الشاهد - منذ سمعتُها من رسولِ الله صلى الله عليه وسلم »؛ فاختارَ أحدُ الحاضرين ليلةً عصيبةً، قد يُذهل في مثلها الإنسان، قال: ولا ليلة صفِّين؟! - وهي اللَّيلة الَّتي دارت فيها الحرب المعروفة والمعركة المشهورة- قال: «ولا ليلةَ صفِّين».
حديث أم حبيبة -رضي الله عنها
وجاء في صحيح مسلم من حديث أم حبيبة -رضي الله عنها- هذا الحديث، يرويه النُّعْمَانِ بنِ سالم، عن عَمْرو ابنِ أَوْس، عن عَنْبَسَةُ بن أبي سفيان، عن أمَّ حبيبة -رضي الله عنها- قالت: سَمِعْتُ رَسُولَ الله صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «مَنْ صَلَّى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ رَكْعَةً فِي يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بُنِيَ لَهُ بِهِنَّ بَيْتٌ فِي الجَنَّةِ»، قَالَتْ أُمُّ حَبِيبَةَ -رضي الله عنها-: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم، وقَالَ عَنْبَسَةُ: فَمَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ أُمِّ حَبِيبَةَ، وقَالَ عَمْرُو ابنُ أَوْسٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَنْبَسَةَ، وَقَالَ النُّعْمَانُ بنُ سَالِمٍ: مَا تَرَكْتُهُنَّ مُنْذُ سَمِعْتُهُنَّ مِنْ عَمْرِو ابنِ أَوْسٍ، والحديث بهذا السياق في صحيح مسلم؛ فهذه همَّة عالية جدًّا في المسارعة والمواظبة معًا، المسارعة إلى العمل، والمبادرة إلى القيام به، والمواظبة عليه.
حديث أبي هريرة رضي الله عنه
وجاء في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: «أَوْصَانِي خَلِيلِي بِثَلاَثٍ لَا أَدَعُهُنَّ حَتَّى أَمُوتَ – هذا موضع الشاهد - : صَوْمِ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ، وَصَلاَةِ الضُّحَى، ونَوْمٍ عَلَى وِتْرٍ»، ومثله تمامًا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث أبي الدَّرداء رضي اللهه عنه قال: «أوصاني حبيبي صلى الله عليه وسلم بثلاثٍ لن أدعَهُنَّ ما عشتُ» وذكر هذه الثَّلاث.
يا غُلام: سَمِّ اللهَ
ومثال آخر لأحد صغار الصَّحابة - وهو عُمر بن أبي سَلَمَة رضي الله عنه قال: كنت غُلامًا في حجْر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت يدي تطيش في الصَّحْفَة؛ فقال لي: «يا غُلام! سَمِّ اللهَ، وَكُلْ بِيَمِينِكَ، وَكُلْ مِمَّا يَلِيكَ» أخرّجه البخاري ومسلم، زاد البخاري عنه رضي الله عنه أنَّه قال: «فما زالت تلك طِعْمَتي بعدُ»، يعني منذ أن كان غلامًا صغيرًا في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فسمعه يقول هذه الكلمات قال: «فما زالت تلك طِعْمتي بعدُ»، ونلاحظ كثيرًا ما يُزجَر الصِّغار ويُنهون ويُنبَّهون مرَّة وثانية وثالثة، وهذا غلامٌ من صغار الصَّحابة من مرَّة واحدة قال: «فما زالت تلك طِعمتي بعد»؛ فهذا يدلُّ على المسارعة من جهة، والمواظبة على ذلك إلى الممات من جهة أخرى، هذا جانب .
السَّلف بعد الصَّحابة
أيضا إذا نظرنا في سير السَّلف الصَّالح بعد الصَّحابة، يُنقل عنهم في هذا المعنى نقولٌ عظيمة جدًّا، مثل قول سفيان الثَّوري -رحمه الله-: «ما بلغني حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلَّا عملتُ به»، وقال عمرو بن قيس الملَّائي -رحمه الله-: «إذا بلغَك الحديثُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعمل به ولو مرَّةً تَكُنْ من أهله»، وقوله: «فاعمل به ولو مرَّة»، هذا في السُّنن والرَّغائب، أمَّا الواجبات والفرائض، فلا يكفي ليكون من أهله أن يعمل به مرَّة .
ونقل ابن القيِّم -رحمه الله تعالى- عن شيخه - شيخ الإسلام ابن تيمية – لمـَّـا ذكر ابن القيِّم حديث أبي أمامة عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال: «مَنْ قَرَأَ آيَةَ الكُرْسِي دُبُرَ كُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجَنَّةِ إِلَّا أَنْ يَمُوتَ»، قال ابن القيِّم: «بلغني عن شيخ الإسلام ابن تيمية أنَّه قال: ما تركتها عُقَيْبَ كلِّ صلاة» .
وجاء عن الإمام أحمد -رحمه الله- أنَّه قال: «ما كتبتُ حديثًا - وقد كتب المسند ومعروف حجمه وكثرة الأحاديث الَّتي فيه - قال: ما كتبت حديثًا إلَّا عملتُ به، حتَّى إنَّني سمعتُ أنَّ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى الحاجم دينارًا؛ فاحتجمتُ وأعطيتُ الحاجم دينارًا» ؛ فهذه طريقة السَّلف في حرصهم ومواظبتهم ودأبهم وعظيم عنايتهم بالعلم، مسارعةً إلى فعلِه ومواظبةً عليه .