عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16-10-2021, 03:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,615
الدولة : Egypt
افتراضي رد: آفاق الوحدة العضوية في قصيدة: خواطر عانس

الموجة الأولى (الأمل)

(1- 6)

يظل الأمل باعثًا على البحث عن أسباب الوصول، كما يظل دافعًا إلى تكرار المحاولة وانتظار المعجزة.

وهكذا تمارس تلك المرأة المنكوبة بالعنوسة المحاوَلة، وهي مفعمة بالأمل، فتكرر صيغة: "ربما يأتي"، في سياق الشرط "إذا"؛ لتدل على أن تلك الوصفة السحرية، كثيرًا ما تتحقق في سياق الفعل والحركة، وبخاصة إذا كان الاتصال المباشر بصاحب القرار، الله.

فـ: "ربما" تفيد الكثرة، و"إذا" تفيد التحقيق.

والتكرار لم يكن مرتبطًا بالصيغة فحسب، بل إن تنمية العلاقة الوجدانية أمر يستحق الالتفات إليه كدلالة من دلالات التكرار والتأكيد، فهي تبدأ تراتيل المجيء بصلاة في جوف الليل، ثم تعوِّل على تكثيف الدعاء، ثم تتبعه البكاء.

إن الشاعر الإنساني يلمح أن تلك العلاقة في ذلك الإطار محدودة، وربما كان ارتباطها بـ"الأنا" يجعل الاستجابة محدودة؛ ولذلك فهو يرى أن ثمرة تلك العلاقة هي الولوج إلى الباب الأرحب، حين ينعتق المرء من عبئه الذاتي؛ لينطلق إلى آفاق الإنسانية "إذا أشعلتُ في ليل الحزانى ضوء شمعة".

إن الوصفة السابقة قد تطورت، و"ربما يأتي" صارت "ربما ينسل"، إنها حالة من اليقين تصاحب ذلك الاتصال العجيب في مراحله الختامية؛ فالانسلال سرعة في خفة، إنه فعل أشبه برواية الأساطير، ولذلك جاء الانسلال (من خلف مجاهيل المدى)، وإتمامًا لتلك الصورة الحانية، يقرع الباب برقَّة.

إن سياق الإصرار قد آثر مفردات التجربة مترددة: بين الأفعال المُضعَّفة، والمزيدة، وصيغ الجموع، وإن شئت فاقرأ: "صليت - صعدت - رجرجت - أشعلت - ينسل - مجاهيل - يدق -

الموجة الثانية (الشوق)

(7- 16)

ينطق الشاعر تلك المرأة بأحاديث الشوق إلى الغائب المنتظر، ويجسِّد لنا في صور متتابعة طول ذلك الانتظار، فلم تعد وحدها التي تتوق للقاء، بل كل ما حاطها، انتقلت إليه مشاعرها الحارَّة، ورأت فيه شوقًا جارفًا: فبابها، وجدارها، ومخدعها، وإناء زهرها، وظلها...، لكن قوة المشاعر التي تحياها، جعلتها تنظر الأشياء في غير ما جُبِلت عليه، فجدار بيتها المنصوب لم يكن في انتصابه إلا سهمًا مشدودًا بأفكاره إلى القادم! ومَخْدعها على طول ما شهد بكاءها صار يبكي، بل نبت لكل ما في بيتها ذراعان، تراهما مشدودين على الدوام، يشاركانها التبتل والصلاة، والكل حولها يعزف نشيدَ الانتظار.

لا أصادر عليك إن حاولتَ أن تقرأ كل ما توهمتْه حيًّا، برؤية ذات دلالات رمزية، سواء كان "بابًا" أو "جدارًا"، "فالبيت" وكل ما بداخله لا شك يترجم عن كيانها الملهوف.

لكننا إذا أردنا أن نتفقد كم كان الشاعر موفَّقًا فيما قدمه من صور تؤازر ذلك الإحساس الجارف بالشوق، وترسم وجدان المرأة التعيسة من كل الاتجاهات، فلنقرأ صورًا ثلاثًا متتاليات، ساقها الشاعر في حديث الشوق.

لقد كان حديثًا يتقرَّى في كتاب الكون شوقًا أبديًّا، يجمع الأُلاَّف من أجل الحياة، لقد مثلت كل صورة رسمها شاعرنا وجهًا من وجوه التجربة التي يعانيها وجدان المرأة:
فالصورة "الأولى" كما تجسدت فيها الأشواق، كحالة من حالات الظمأ، حين تترقب الأرض أمطار السماء، فإنها ترصد - كذلك - مدى الارتباط العضوي، الذي بانتفائه تذهب الأرض عبثًا في مرحلة من الجفاف والبوار، إنه البحث الفطري عن واهب الحياة والخصوبة:
مثل ما بالرمل من تَوق إلى سَيْب المطرْ.


بينما تأتي الصورة "الثانية" في تحول اللَّحْن من حال القوَّة إلى الفعل، فلا يخفى ما فيها من دلالةٍ على التعطيل، إذا ظلَّ اللحن محرومًا من عزف الوتر، غير أن فقدان نشوة الحياة، دلالة أخرى تظهر عند التأمل، حينما نرصد الإحساس الجمالي الذي يبعثه الوتر في وجدان المتلقي:
مثلَ ما باللَّحنِ من شوقٍ إلى بوْحِ الوَتَرْ

وتأتينا الصورة (الثالثة) لتجسِّد ما يعانيه وجدان المرأة من حال الانكسار، وما أصابها من الجروح في رحلة الانتظار، فالزورق المجروح الذي تتقاذفه الأمواج في الليل البهيم، لا بد وأن يحتويه حالة من اليأس تصاحب الإحساس بالخوف والهلع؛ إذ كان الوصول للمرفأ الآمن - حينئذ - أمرًا أشبه بالمستحيلات:
من لُهَاثِ الشَّوْقِ للشاطِئِ في لَيْلِ البِحَارْ

الموجة الثالثة (اليأس)

(17- 22)

بديهيٌّ حين يطول الانتظار أن يغالب اليأس الأمل، وربما غلبه، ولكنَّ صاحبتنا يبدو عليها التماسك، فلا يخدعنك السطح الساكن، فإن البراكين تعمل في الأعماق البعيدة: "أمضغُ الآهات في صمت ضرير..".

وحينما تفتقد وقع خطاه عند بزوغ الفجر، بعد ليل طويل خاشع، فإنها مطاردة من إحساسين: "الوهم والجدب"؛ فالوهم يخنق الأحلام، ومن ثم يخنق الأمل؛ والجدب يحرق البراعم المُخْضَوْضِرَة، فتموت البراعم النضيرة، ولا يبقى من رسمها إلا الجفاف.

إن العالم الغريب - الذي يعيش في وجدان المرأة البئيسة - مليء بالمتناقضات، ولذلك نراها تلوك آهاتها، والآهات أصوات مسموعة، ولكنها قديرة على أن تلوكها في صمت ليس له أدنى بريق، فصمتها من لون غريب، موصوف بأنه ضرير.

الموجة الرابعة (الأمنيات)

(23- 26)

إن أقصى الأمنيات التي قرَّت لديها أن تلاقي طيفَه مرة، ولو في عالم خيالي صامت "ظلال الصمت"، حينها تغدو أسيرة، تسلس القياد من غير تردد "سليبة"؛ فهي في شوق لأحلام دفينة "دنيا انطلاقات غريبة".

الموجة الخامسة (النداء)

(27- 28)

إنَّ الأماني حملتها على إطلاق نداءات عديدة، وكأنها في جلسة روحية، تقرأ للغائب تراتيل القدوم:
فارسي الموعودُ .. يا حُلْمِي .. ويا فجري الظَّمِي
أَذْرُعِي تدعوكَ مِنْ خلفِ الضَّبَابِ المُعْتِمِ


لم يكن من تنتظره رجلاً كبقية الرجال، إنه فارس اللحظة المنتظرة "الموعود"، ومثال رسَمَت له الصورة المُثْلى في الخيال "حلمي"، إنه الإشراقة جاءتها بشوق عاطش "فجري الظمي"؛ لترَوِّيه كما يروي بها عطاش الأمنيات.

إنها في أجواء تلك التعويذات، لم تعد تنظر شخصًا من كثافة الضباب، بيد أن كل إحساس بها ظميء نبتت له ذراع/"أذرعي"، سوف ترتق أغباش الليالي والنهار "الضباب المعتم"، وتناديه ليأتي.

الموجة السادسة (الرؤية وسؤال الوجود)

(29- 34)

وفي الختام: جاء شاعرُنا ليكثف الرؤية التي تكشف عن وجه الصراع، وعن دواعي القلق، وعمَّا طرحته أبيات القصيدة من أماني، وعن سر ما ذرفته صاحبتنا من دموع، وأطلقته من آهات، وعن علة تلك النداءات، وذلك في رؤيتين:
(الأولى): "خوفٌ من الذبول"؛ فصاحبتنا كالكَرْمة الناضجة، حان قطافها، وإلا أسلمت إلى الذبول؛ "أوشك يذبل".

لقد أحسن الشاعر في وصفها بأنها "كَرْمة"، إشارة إلى أن مميزاتها مرهونة بفصل محدود من الزمان، وهي ما تزال في خدرها مدلاَّة، في مظهر بديع متقن، ومخبَر من سلافة الرحيق المسكر، وما عليه إلا أن يجِدَّ في بحثه.

و(الثانية): "سؤال عن حقيقة الوجود المعلق"، سؤال عن شطر الدائرة الغائب، فنصيبها من الحياة - حتى تجده - في فراغ.

الحب في وجدانها أكبر الحقائق، ونفسها في سعيها إليه تبحث عن أليف، ذلك الذي بنقرة سحرية من إصبعه، بنظرة مفتونة مصوبة بصوته الحاني، يقول: أنت؟ يبعث في كيانها الحياة، ويمنحها وثيقة الوجود.


[1] - راجع: النقد الأدبي الحديث، د.غنيمي هلال، ص:381، وقضايا معاصرة، ص:12 - 14، والأدب العربي المعاصر في مصر، د.شوقي ضيف، ص:67، والشعر المصري بعد شوقي، د.محمد مندور (1/8)، والاتجاه الوجداني في الشعر العربي المعاصر، د.عبد القادر القط، ص:325، وحركة التجديد الشعري، د.عبد الحكيم بلبع، ودراسات ونماذج، د.غنيمي هلال، ص:20، 39، والعامل الديني، د.الجيزاوي، والتيارات المعاصرة في النقد الأدبي، د. بدوي طبانة، ص:154.

[2] - التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، د.بدوي طبانة، ص:349.

[3] - راجع: في النقد الأدبي، د.شوقي ضيف، ص:154.

[4] - راجع: الاتجاه الوجداني، د.عبد القادر القط، ص:326، والتيارات المعاصرة في النقد الأدبي، د.بدوي طبانة، ص:342.

[5] - التيارات المعاصرة في النقد الأدبي، د.بدوي طبانة، ص:346-329.

[6] - راجع: العامل الديني في الشعر المصري، د.الجيزاوي، ص:244.

[7] - راجع: خمسة من شعراء الوطنية، د.بدوي طبانة، ص:29.

[8] - راجع: حركة التجديد الشعري في المهجر، د.عبد اللحكيم بلبع، ص:406 - 407، والتيارات المعاصرة في النقد الأدبي، ص:352 - 353.


[9] - راجع: التطور والتجديد في الشعر المصري الحديث، د. عبد المحسن طه بدر، ص:406-407، والتيارات المعاصرة في النقد الأدبي، د.بدوي طبانة، ص:352-353.

[10] - التيارات المعاصرة، د.بدوي طبانة، ص:350.

[11] - عن بناء القصيدة، د.علي عشري زايد، ص:29.

[12] - راجع: فصول في الشعر ونقده، د.شوقي ضيف، ص:298.

[13] - راجع: الاتجاهات الأدبية في العالم العربي الحديث، أنيس المقدسي، ص:387.

[14] - النقد الأدبي الحديث، ص:373، وراجع: في النقد الأدبي، د.شوقي ضيف، ص:153، والتيارات المعاصرة، د.بدوي طبانة، ص:354.

[15] - تقويم الشعر السنوي الخامس 1963.


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 24.50 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 23.87 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.56%)]