
14-10-2021, 05:54 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,714
الدولة :
|
|
رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
المجلد الثانى
الحلقة (100)
سُورَةُ الْأَنْفَالِ (2)
صـ 51 إلى صـ 55
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ .
ذَكَرَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّهُ أَلْقَى النُّعَاسَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لِيَجْعَلَ قُلُوبَهُمْ آمِنَةً غَيْرَ خَائِفَةٍ مِنْ عَدُوِّهَا ; لِأَنَّ الْخَائِفَ الْفَزِعَ لَا يَغْشَاهُ النُّعَاسُ ، وَظَاهِرُ سِيَاقِ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ هَذَا النُّعَاسَ أُلْقِيَ عَلَيْهِمْ يَوْمَ بَدْرٍ ; لِأَنَّ الْكَلَامَ [ ص: 51 ] هُنَا فِي وَقْعَةِ بَدْرٍ ، كَمَا لَا يَخْفَى .
وَذَكَرَ فِي سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ أَنَّ النُّعَاسَ غَشِيَهُمْ أَيْضًا يَوْمَ أُحُدٍ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي وَقْعَةِ أُحُدٍ : ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا الْآيَةَ [ 154 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ .
الْمُرَادُ بِالْفَتْحِ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عِنْدَ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ : الْحُكْمُ وَذَلِكَ أَنَّ قُرَيْشًا لَمَّا أَرَادُوا الْخُرُوجَ إِلَى غَزْوَةِ بَدْرٍ تَعَلَّقُوا بِأَسْتَارِ الْكَعْبَةِ ، وَزَعَمُوا أَنَّهُمْ قُطَّانُ بَيْتِ اللَّهِ الْحَرَامِ ، وَأَنَّهُمْ يَسْقُونَ الْحَجِيجَ ، وَنَحْوَ ذَلِكَ ، وَأَنَّ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَرَّقَ الْجَمَاعَةَ ، وَقَطَعَ الرَّحِمَ ، وَسَفَّهَ الْآبَاءَ ، وَعَابَ الدِّينَ ، ثُمَّ سَأَلُوا اللَّهَ أَنْ يَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ، وَبَيْنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، بِأَنْ يُهْلِكَ الظَّالِمَ مِنْهُمْ ، وَيَنْصُرَ الْمُحِقَّ ، فَحَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ وَأَهْلَكَهُمْ ، وَنَصَرَهُ ، وَأَنْزَلَ الْآيَةَ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفَتْحِ هُنَا الْحُكْمُ أَنَّهُ تَعَالَى أَتْبَعَهُ بِمَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْخِطَابَ لِكُفَّارِ مَكَّةَ ، وَهُوَ قَوْلُهُ : وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ [ 8 \ 19 ] ، وَيُبَيِّنُ ذَلِكَ إِطْلَاقُ الْفَتْحِ بِمَعْنَى الْحُكْمِ فِي الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ عَنْ شُعَيْبٍ وَقَوْمِهِ : عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ [ 7 \ 87 ] ، أَيِ احْكُمْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ، وَيَدُلُّ لِذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى : عَنْ شُعَيْبٍ فِي نَفْسِ الْقِصَّةِ وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ [ 7 \ 87 ] ، وَهَذِهِ لُغَةُ حِمْيَرَ ؛ لِأَنَّهُمْ يُسَمُّونَ الْقَاضِيَ فَتَّاحًا وَالْحُكُومَةَ فَتَّاحَةً .
وَمِنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ : [ الْوَافِرُ ]
أَلَا أَبْلِغْ بَنِي عَمْرٍو رَسُولًا بِأَنِّي عَنْ فُتَاحَتِكُمْ غَنِيٌّ أَيْ عَنْ حُكُومَتِكُمْ وَقَضَائِكُمْ ، أَمَّا مَا ذَكَرَهُ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ مِنْ أَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ : إِنْ تَسْتَفْتِحُوا لِلْمُؤْمِنِينَ ، أَيْ : تَطْلُبُوا الْفَتْحَ وَالنَّصْرَ مِنَ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْخِطَابَ فِي قَوْلِهِ بَعْدَهُ : وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِلْكَافِرِينَ ، فَهُوَ غَيْرُ ظَاهِرٍ ، كَمَا تَرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ .
أَمَرَ تَعَالَى النَّاسَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنْ يَعْلَمُوا : أَنَّ أَمْوَالَهُمْ وَأَوْلَادَهُمْ فِتْنَةٌ يُخْتَبَرُونَ بِهَا ، هَلْ يَكُونُ الْمَالُ وَالْوَلَدُ سَبَبًا لِلْوُقُوعِ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ؟ وَزَادَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ أَنَّ الْأَزْوَاجَ فِتْنَةٌ أَيْضًا ، كَالْمَالِ وَالْوَلَدِ ، فَأَمَرَ الْإِنْسَانَ بِالْحَذَرِ مِنْهُمْ أَنْ يُوقِعُوهُ فِيمَا لَا يُرْضِي اللَّهَ ، ثُمَّ أَمَرَهُ إِنِ اطَّلَعَ عَلَى مَا يَكْرَهُ مِنْ أُولَئِكَ الْأَعْدَاءِ الَّذِينَ هُمْ أَقْرَبُ النَّاسِ لَهُ وَأَخَصُّهُمْ بِهِ وَهُمُ الْأَوْلَادُ وَالْأَزْوَاجُ - أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَيَصْفَحَ وَلَا يُؤَاخِذَهُمْ فَيَحَذَرَ مِنْهُمْ أَوَّلًا وَيَصْفَحَ [ ص: 52 ] عَنْهُمْ إِنْ وَقَعَ مِنْهُمْ بَعْضُ الشَّيْءِ ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ فِي " التَّغَابُنِ " : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ [ 64 \ 14 ، 15 ] .
وَصَرَّحَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ بِنَهْيِ الْمُؤْمِنِينَ عَنْ أَنْ تُلْهِيَهُمُ الْأَمْوَالُ وَالْأَوْلَادُ عَنْ ذِكْرِهِ جَلَّ وَعَلَا ، وَأَنَّ مَنْ وَقَعَ فِي ذَلِكَ فَهُوَ الْخَاسِرُ الْمَغْبُونُ فِي حُظُوظِهِ ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [ 63 \ 9 ] ، وَالْمُرَادُ بِالْفِتْنَةِ فِي الْآيَاتِ : الِاخْتِبَارُ وَالِابْتِلَاءُ ، وَهُوَ أَحَدُ مَعَانِي الْفِتْنَةِ فِي الْقُرْآنِ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ .
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَالسُّدِّيُّ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَعِكْرِمَةُ ، وَالضَّحَاكُ ، وَقَتَادَةُ ، وَمُقَاتِلُ بْنُ حَيَّانَ ، وَغَيْرُ وَاحِدٍ : فُرْقَانًا : مَخْرَجًا ، زَادَ مُجَاهِدٌ : فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ : فُرْقَانًا : نَجَاةً ، وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ : نَصْرًا . وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ : فُرْقَانًا أَيْ : فَصْلًا بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، قَالَهُ ابْنُ كَثِيرٍ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : قَوْلُ الْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ : إِنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ : الْمَخْرَجُ يَشْهَدُ لَهُ قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا الْآيَةَ [ 65 \ 2 ] ، وَالْقَوْلُ بِأَنَّهُ النَّجَاةُ أَوِ النَّصْرُ ، رَاجِعٌ فِي الْمَعْنَى إِلَى هَذَا ; لِأَنَّ مَنْ جَعَلَ اللَّهُ لَهُ مَخْرَجًا أَنْجَاهُ وَنَصَرَهُ ، لَكِنَّ الَّذِي يَدُلُّ الْقُرْآنُ وَاللُّغَةُ عَلَى صِحَّتِهِ فِي تَفْسِيرِ الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ هُوَ قَوْلُ ابْنِ إِسْحَاقَ ; لِأَنَّ الْفُرْقَانَ مَصْدَرٌ زِيدَتْ فِيهِ الْأَلِفُ وَالنُّونُ ، وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ أَيِ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَاهُ فِي قَوْلِهِ : تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [ 25 \ 1 ] ، أَيِ الْكِتَابَ الْفَارِقَ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَقَوْلِهِ : وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ [ 3 \ 4 ] ، وَقَوْلِهِ : وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ [ 2 \ 53 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ [ 21 \ 48 ] ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْفُرْقَانِ هُنَا : الْعِلْمُ الْفَارِقُ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْحَدِيدِ : يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ الْآيَةَ [ 57 \ 28 ] .
لِأَنَّ قَوْلَهُ هُنَا : وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ ، يَعْنِي : عِلْمًا وَهُدًى تُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْحَقِّ وَالْبَاطِلِ ، وَيَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنُّورِ هُنَا الْهُدَى ، وَمَعْرِفَةُ الْحَقِّ قَوْلُهُ تَعَالَى فِيمَنْ كَانَ [ ص: 53 ] كَافِرًا فَهَدَاهُ اللَّهُ : لَمُشْرِكُونَ أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ الْآيَةَ [ 6 \ 122 ] ، فَجَعَلَ النُّورَ الْمَذْكُورَ فِي الْحَدِيدِ : هُوَ مَعْنَى الْفُرْقَانِ الْمَذْكُورِ فِي الْأَنْفَالِ كَمَا تَرَى ، وَتَكْفِيرَ السَّيِّئَاتِ ، وَالْغُفْرَانَ الْمُرَتَّبَ عَلَى تَقْوَى اللَّهِ فِي آيَةِ الْأَنْفَالِ ، كَذَلِكَ جَاءَ مُرَتَّبًا أَيْضًا عَلَيْهَا فِي آيَةِ الْحَدِيدِ ، وَهُوَ بَيَانٌ وَاضِحٌ كَمَا تَرَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا الْآيَةَ .
قَدْ بَيَّنَّا قَبْلُ هَذِهِ الْآيَاتِ الْمُصَرِّحَةَ بِكَذِبِهِمْ ، وَتَعْجِيزِ اللَّهِ لَهُمْ عَنِ الْإِتْيَانِ بِمِثْلِهِ ، فَلَا حَاجَةَ إِلَى إِعَادَتِهَا هُنَا ، وَقَوْلُهُ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ عَنْهُمْ : إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ [ 8 \ 31 ] ، رَدَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ كَذِبَهُمْ وَافْتِرَاءَهُمْ هَذَا فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا [ 25 \ 5 ، 6 ] ، وَمَا أَنْزَلَهُ عَالِمُ السِّرِّ فِي السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَهُوَ بَعِيدٌ جِدًّا مِنْ أَنْ يَكُونَ أَسَاطِيرَ الْأَوَّلِينَ ، وَكَقَوْلِهِ : وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [ 16 \ 103 ] ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ :
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ .
ذَكَرَ هُنَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ كُفَّارَ مَكَّةَ فِي غَايَةِ الْجَهْلِ حَيْثُ قَالُوا : فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا الْآيَةَ [ 8 \ 32 ] ، وَلَمْ يَقُولُوا فَاهْدِنَا إِلَيْهِ ، وَجَاءَ فِي آيَاتٍ أُخَرَ مَا يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ أَيْضًا كَقَوْلِهِ عَنْهُمْ : وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ [ 38 \ 16 ] ، وَقَوْلِهِ : وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ الْآيَةَ [ 22 \ 47 ] ، وَقَوْلِهِ : وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ [ 11 \ 8 ] ، وَذَكَرَ عَنْ بَعْضِ الْأُمَمِ السَّالِفَةِ شِبْهَ ذَلِكَ كَقَوْلِهِ فِي قَوْمِ شُعَيْبٍ : فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ [ 26 \ 187 ] ، وَقَوْلِهِ عَنْ قَوْمِ صَالِحٍ : يَاصَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ [ 7 \ 77 ] ، وَسَيَأْتِي لِهَذَا إِنْ شَاءَ اللَّهُ زِيَادَةُ إِيضَاحٍ فِي سُورَةِ " سَأَلَ سَائِلٌ " [ 70 \ 1 ]
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ .
صَرَّحَ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ بِنَفْيِ وِلَايَةِ الْكُفَّارِ عَلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، وَأَثْبَتَهَا لِخُصُوصِ الْمُتَّقِينَ ، وَأَوْضَحَ هَذَا الْمَعْنَى فِي قَوْلِهِ : مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ [ ص: 54 ] أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ [ 9 \ 17 ، 18 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً .
الْمُكَاءُ : الصَّفِيرُ ، وَالتَّصْدِيَةُ : التَّصْفِيقُ ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَالْمَقْصُودُ عِنْدَهُمْ بِالصَّفِيرِ وَالتَّصْفِيقِ التَّخْلِيطُ حَتَّى لَا يَسْمَعَ النَّاسُ الْقُرْآنَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا قَوْلُهُ تَعَالَى : وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ [ 41 \ 26 ] .
قَوْلُهُ تَعَالَى : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ .
ظَاهِرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ كُلَّ شَيْءٍ حَوَاهُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ فَإِنَّهُ يُخَمَّسُ حَسْبَمَا نُصَّ عَلَيْهِ فِي الْآيَةِ ، سَوَاءً أَوْجَفُوا عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ أَوْ لَا ، وَلَكِنَّهُ تَعَالَى بَيَّنَ فِي سُورَةِ " الْحَشْرِ " أَنَّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ غَيْرِ إِيجَافِ الْمُسْلِمِينَ عَلَيْهِ الْخَيْلَ وَالرِّكَابَ ، أَنَّهُ لَا يُخَمَّسُ وَمَصَارِفُهُ الَّتِي بَيَّنَ أَنَّهُ يُصْرَفُ فِيهَا كَمَصَارِفِ خُمُسِ الْغَنِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ هُنَا ، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : فِي فَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ الْآيَةَ [ 6 ] ، ثُمَّ بَيَّنَ شُمُولَ الْحُكْمِ لِكُلِّ مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ جَمِيعِ الْقُرَى بِقَوْلِهِ : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ الْآيَةَ [ 7 ] .
اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ أَكْثَرَ الْعُلَمَاءِ : فَرَّقُوا بَيْنَ الْفَيْءِ وَالْغَنِيمَةِ فَقَالُوا : الْفَيْءُ : هُوَ مَا يَسَّرَهُ اللَّهُ لِلْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْكُفَّارِ مِنْ غَيْرِ انْتِزَاعِهِ مِنْهُمْ بِالْقَهْرِ ، كَفَيْءِ بَنِي النَّضِيرِ الَّذِينَ نَزَلُوا عَلَى حُكْمِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَمَكَّنُوهُ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَفْعَلُ فِيهَا مَا يَشَاءُ لِشِدَّةِ الرُّعْبِ الَّذِي أَلْقَاهُ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ ، وَرَضِيَ لَهُمْ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَرْتَحِلُوا بِمَا يَحْمِلُونَ عَلَى الْإِبِلِ غَيْرَ السِّلَاحِ ، وَأَمَّا الْغَنِيمَةُ : فَهِيَ مَا انْتَزَعَهُ الْمُسْلِمُونَ مِنَ الْكَفَّارِ بِالْغَلَبَةِ وَالْقَهْرِ ، وَهَذَا التَّفْرِيقُ يُفْهَمُ مِنْ قَوْلِهِ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ الْآيَةَ ، مَعَ قَوْلِهِ : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ الْآيَةَ ، ظَاهِرٌ فِي أَنَّهُ يُرَادُ بِهِ بَيَانُ الْفَرْقِ بَيْنَ مَا أَوْجَفُوا عَلَيْهِ وَمَا لَمْ يُوجِفُوا عَلَيْهِ كَمَا تَرَى ، وَالْفَرْقُ الْمَذْكُورُ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ عَقَدَهُ الشَّيْخُ أَحْمَدُ الْبَدَوِيُّ الشِّنْقِيطِيُّ فِي نَظْمِهِ لِلْمَغَازِي بِقَوْلِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِيَ النَّضِيرِ : [ الرَّجَزُ ]
وَفَيْئُهُمْ وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ مَا لَمْ يَكُنْ أُخِذَ عَنْ قِتَالِ [ ص: 55 ] أَمَّا الْغَنِيمَةُ فَعَنْ زِحَافٍ
وَالْأَخْذُ عَنْوَةً لَدَى الزِّحَافِ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ إِلَخْ .
وَقَوْلُهُ : وَفَيْئُهُمْ مُبْتَدَأٌ خَبَرُهُ لِخَيْرِ مُرْسَلٍ ، وَقَوْلُهُ : وَالْفَيْءُ فِي الْأَنْفَالِ . . . إِلَخْ ، كَلَامٌ اعْتِرَاضِيٌّ بَيْنَ الْمُبْتَدَأِ وَالْخَبَرِ بَيَّنَ بِهِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَلَا إِشْكَالَ فِي الْآيَاتِ ; لِأَنَّ آيَةَ : وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ ، ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْغَنِيمَةِ ، وَآيَةَ : مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ ذُكِرَ فِيهَا حُكْمُ الْفَيْءِ وَأُشِيرَ لِوَجْهِ الْفَرْقِ بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ بِقَوْلِهِ : فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ أَيْ فَكَيْفَ يَكُونُ غَنِيمَةً لَكُمْ ، وَأَنْتُمْ لَمْ تَتْعَبُوا فِيهِ وَلَمْ تَنْتَزِعُوهُ بِالْقُوَّةِ مِنْ مَالِكِيهِ .
وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : إِنَّ الْغَنِيمَةَ وَالْفَيْءَ وَاحِدٌ ، فَجَمِيعُ مَا أُخِذَ مِنَ الْكُفَّارِ عَلَى أَيِّ وَجْهٍ كَانَ غَنِيمَةً وَفَيْئًا ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ رَحِمَهُ اللَّهُ وَهُوَ الْمَعْرُوفُ فِي اللُّغَةِ ، فَالْعَرَبُ تُطْلِقُ اسْمَ الْفَيْءِ عَلَى الْغَنِيمَةِ ، وَمِنْهُ قَوْلُ مُهَلْهِلِ بْنِ رَبِيعَةَ التَّغْلِبِيِّ : [ الْوَافِرُ ]
فَلَا وَأَبِي جَلِيلَةَ مَا أَفَأْنَا مِنَ النَّعَمِ الْمُؤَبَّلِ مِنْ بَعِيرِ
وَلَكِنَّا نَهَكْنَا الْقَوْمَ ضَرْبًا عَلَى الْأَثْبَاجِ مِنْهُمْ وَالنُّحُورِ
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|