عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 14-10-2021, 04:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,786
الدولة : Egypt
افتراضي رد: الأساس التقابلي في البلاغة العربية - مقاربة تأويلية



7 - 4 - التقابل في المضاعفة

من الظواهر البلاغية ذات الملمح التقابلي "المضاعفة"، وتقوم على ملاحظة التقابل بين معنى مصرح به، ومعنى كالمشار إليه[25]، مثل قول أبي العيناء: "سألتُك حاجة فرددتَ بأقبح من وجهك"؛ يتضمن الكلام قبح الوجه مقابل قبح الرد؛ فالمتلقي ينتقل من معنى إلى معنى مشار إليه عبر إحداث التقابل بينهما، أو جعل الأول معبرا للثاني. وفي كل الأحوال هناك عبور من البنية الظاهرة إلى البنية العميقة.



7- 5 التقابل في التلطف

التلطف هو أن تتلطف للمعنى الحسن حتى تهجنه، وللمعنى الهجين حتى تحسنه[26]، ويحضر كثيرا في التواصل اليومي، ويقوم على قوة البديهة. وقد تضمنت منه كتب الأدب أمثلة كثيرة، مثل "الأغاني" و"العقد الفريد"، و"الشعر والشعراء"، وغيرها من كتب الموازنات والأخبار، وشروح الشعر.قال رجل لآخر كان يراه فيبغضه: ما اسمك؟ فقال: سعد. قال: على الأعداء.



ولو شئنا أن نتبع هذا النمط من التلطف في الخطابات اليومية من وجهة تقابلية لطال بنا المقام، لأن أغلب التخاطبات تتأسس على التقابل في المواقف، والتقاول، والآراء، وعلى قلب المعاني، كما حصل في قول الرجل الذي جعل اسم "سعد" قدحا في مخاطبه، فهو سعد على الأعداء أي يسعد العدو، لأنه يحقق لهم ما يبغون من النصر لجبنه أو ضعفه أو خيانته.



دخل سعيد بن مُرَّة على معاوية، فقال له: أَ أَنتَ سعيد؟ فقال: أنا ابن مُرَّة، وأمير المؤمنين السعيد. يحمل هذا الحوار الموجز كل مظاهر التقابل الحواري من حضور الطرفين المتخاطبين، وتقابل مقاميهما، ثم التقابل الدلالي في اسم المخاطَب، السعادة والمرارة، وقد استغلها المخَاطَب خير استغلال، فحوَّل الخطاب لصالحه، ليربح مقصد التواصل، انطلاقا من استحضار البعد الصناعي في مقابلة المعاني والمقاصد والغايات.



ويروى أن الحجاج بن يوسف الثقفي، قال لـسعيد بن جُبير رضي الله عنه، وقد أحضره بين يديه ليقتله: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جُبير. قال: بل أنت شقي بن كُسير! وقد كان الحجاج من الفصحاء المعدودين، وقد تضمن كلامه هذا أسلوباً من أساليب العرب وهو التلطف التهجيني، فنقل الاسمين إلى ضديهما، فقابل (سعيد) بـ (شقي)، وقابل (جبير) بـ (كسير) حسب ما يريده من المقاصد في ذلك المقام. فإذا كانت لقوله بلاغة التقابل وتداولها الناس على ذلك الأساس، فهل لفعله بالمقتول بلاغة الفعل؟ تلك بلاغة أخرى لابد من الـتأسيس لها تحت مسمى: "بلاغة الأفعال"، أو "بلاغة الأعمال" وهي التي تُبَلِّغ صاحبها أقصى درجات الإنسانية التي خُلق من أجلها[27].



روي أن أبا بكر مر برجل فقال له: أتبيع كذا؟ فقال: لا عافاك الله! فقال أبو بكر: علمتم لو تعلمون؛ قل: لا، وعافاك الله.كما أن التقابل حاصل في المقامات الاعتبارية للمتخاطبَين، فإن التقابل المقصدي حاضر بقوة في هذا المقام، إما أن الرجل عالم بقوله ومريد له، وإما أنه جاهل بنظام الخطاب، فحمل جوابُه دعاءً على أبي بكر: لا عافاك الله!، قد يكون مريدا له، وقد لا يكون، وقد تم أخذ كلامه على قصدية سوء التلطف، فتم تصحيح نظام الخطاب، وإحداث الفصل بين "لا" و"عافاك الله". وقد قيل البلاغة معرفة الفصل من الوصل.و قال المأمون:" البليغ من كان كلامه في مقدار حاجته، لا يجيل الفكرة في اختلاس ما صعب من الألفاظ، ولا يُكرِه المعاني على إنزالها في غير منازلها.."[28].



7 - 6 - الأخذ و وجوه التقابل

من وجوه الاشتغال بالتقابل في الخطاب النقدي القديم مقاربة البلاغيين بين المعاني والموازنة بينها، وهو نوع من الدراسات يبين حدود التفاعل المعنوي بين الأبيات، ومدى أخذ الشاعر عن غيره، وقد تناولت الظاهرة من هذا المنظور التقابلي غير الصريح كتب كثيرة، ونقف عند بعض الملامح من مقاربة العسكري، إذ ليس هدفنا تناول ظاهرة السرقات، وإنما التأكيد على هذا الملمح التقابلي الخفي الذي كان حاضرا في دراسة الأشعار، والحُكم على الشعراء بالأخذ أو عدمه..

قال ابن الرومي:





يُقتِّر عيسى على نفسه

وليس بِباقٍ ولا خالِد



ولو يستطيع لتقتيره

تنفس من مَنخر واحد






قال العسكري: "والناس يظنون أن ابن الرومي ابتكر هذا المعنى، وإنما أخذه ممن حكاه أبو عثمان أن بعضهم قبَر إحدى عينيه وقال: إن النظر بهما في زمان واحد من الإسراف"[29].



يقوم هذا النوع من التتبع على المقابلة بين المعاني، راصدا الأصل و الفرع، المبتدئ والتابع، وهي خطة ضمنية تحكمت في تتبع المعاني، والغاية من الوقوف عليها، الإشارة إلى بنيوية الفكر التقابلي في الدراسات البلاغية، ثم الإفادة من كل ذلك بهدف بناء تصور عميق، وجودي وقوي في مقاربة النصوص والخطابات يجد دعمه في ممارسة تأويلية ما فتئت تتشكل في ثقافة تأسست على المعنى، تحفل به وبخصوصياته وبمنتجه ومؤوله. ولذلك لا بد من توضيح معالم هذا الاهتمام، ثم توسيع مبادئه وخاصة ما قام على التقابل من أجل بناء أنساقه، وإعطائها القوة الإجرائية اللائقة به، لتحليل الخطابات انطلاقا منه.



تطرق العسكري إلى ما يتعلق بـ"الأخذ" - أو التناص بالمفهوم النقدي الحديث - من منظور إنتاجي، أي ما يتعلق بتحديد وسائل الكتابة، وهي موجهة إلى الكُتَّاب والشعراء ليأخذوا المعاني ممن قبلهم، ويحسنوا التصرف فيها، إذ ليس "لأحد من أصناف القائلين غنى عن تناول المعاني ممن تقدمهم والصب على قوالب من سبقهم..ولولا أن القائل يؤدي ما سمع لما كان في طاقته أن يقول.."[30].



على أن الذي يعنينا في تناول العسكري كغيره من الذين عالجوا مسألة "السرقات الشعرية" أو "الأخذ" ليس محتواها، أو الأحكام الصادرة في حق الشعراء، والمعاني، والتطورات التي عرفتها صناعة المعاني، وغيرها، وإنما البعد التقابلي في تناول المعنى، ورصده عبر المقارنة وعرض النماذج الشعرية.ومن ذلك: قال أعرابي "إن الندى حيث ترى الضِّغاط" أي الزحام.

قال: فأخذه بشار وشرحه وبيَّنه:





يسقط الطير حيث ينتثر ال

حَبُّ وتُغشى منازل الكُرماء






ومثله قول الآخر:





يَزْدحِم الناس على بابه

والمَنْهَل الَعذبُ كثير الزِّحام






توقف العسكري عند الأخذ القبيح راصدا مظاهره، ومقدما الأمثلة والنماذج، من منظور تقابلي سار فيه على منوال الأخذ الجيد. وإن كان هدفه التنبيه على محاسن القول وإمداد الكُتاب والشعراء بما يلزم من أدوات الكتابة، غير أن خطواته في العرض والتقديم تسمح باكتشاف آليات تقابلية عميقة بإمكانها أن تخصب الخطاب النقدي اليوم.ومن الصيغ الدالة على هذا قوله:"بيت عبد الصمد أبين معنى مع شدة الاختصار، وبيت البحتري كالعويص لا يُقام إعرابه إلا بعد نظر طويل"[31]، "قد يتفق مبتدئ المعنى والآخذ منه في الإساءة؛ قال...فأتى بعبارة غير مُرضية ونسج غير حسن، وأخذه أبو نواس فقال...فأتى أيضا برصف مرذول ونظم مردود. وقد يستوي الآخذ والمأخوذ منه في الإجادة؛ في التعبير عن المعنى الواحد..."[32].



كان العسكري مدركا للإضافات التي قدمها في تناول مسألة السرقات، إذ توقف الذين تطرقوا للموضوع عند تبيان مواطن السرق، في حين أنه بَيَّن بالمثال قول المبتدئ وقول التابع، وبَيَّن فضل الأول على الآخر، أو الآخر على الأول. وكل هذا يقوم على الموازنات والمفاضلات، وأساسهما النووي التقابل بين الأقوال والمعاني، والأبيات والبنيات، الإجادة والإساءة. وقد اتخذ التقابل بين المعاني في بعض الأحيان مظاهر تقويمية حاضرة بقوة من قبيل: قال الشاعر...والجيد قول الآخر:...ثم يورده، أو" ومن الرديء قول امرئ القيس: "ومن الأبيات العارية الخَرِبة"، "ومن المتناقض"، "ومن المعيب قول الشاعر"[33]، " ومن المعاني البشعة.."، " وقد تبع في هذا القول حسان بن ثابت"، " ومن الخطأ"، والجيد في ذكر الوشاح قول ذي الرمة"... وهو في مثل هذه الأحكام يتحرك بمنظار تقابلي يقوم على الموازنات، والمقارنات، والمفاضلات بين المعاني، ويستند إلى معايير في المعنى الجيد والمعنى الرديء. كلما تم اللجوء إلى معيار، أو نموذج، أو مثال، فثمة اشتغال بالتقابلات، وهو ما يدعو إلى النفاذ إلى هذا البعد التأويلي العميق الذي ظل يحرك الدراسات البلاغية القديمة، والشروح الشعرية، وكتب النقد القديم، من أجل وضع نظريات تأويلية عربية جديدة، تقوم على تلك الأسس القوية التي وجدت مقوماتها وأدواتها في التراث البلاغي والنقدي العربي.



اجتمع في كتاب "الصناعتين" التنظير البلاغي والنقد الشعري وخطاب الموازنات، وأدبيات الاستدلال، والتنظير لصناعة الشعر والنثر، وتأويل الشعر وشرح المعاني؛ وقد ظل- كما يبين عنوانه "الصناعتين" - وَفِيًّا لمنطلقاته وأهدافه الكامنة في توجيه الكُتاب والشعراء إلى ما ينبغي التزامه في صناعة القول عبر تحديد ما يحتاجه الكاتب والشاعر في صناعة الكلام، وعبر اختيار الأمثلة الشعرية والنثرية الفائقة الصياغة قصد احتذائها، والتنبيه على الأخطاء والعيوب ومراعاة الأحوال والمقامات، بغية الرقي بهذه الصناعة، وهو ما يشكل نظرية قائمة المعالم للكتابة الشعرية والنثرية (الرسائل والخطب..) قديما، وما يتعلق بها من حسن التأليف ووضوح المعنى. قال: "فهذه جملة إذا تدبرها صانع الكلام استغنى بها عن غيرها"[34].



كتاب "الصناعتين" مُؤَلّف متعدد المداخل، غزير المادة، غير أننا قاربنا بعض الظواهر البلاغية الواردة فيه من منظور تقابلي وتأويلي، هادفين إلى إيجاد السند التراثي لمنهاجية التقابل: التقابل في الكون، وفي الخطابات الدارسة، وفي التناول البلاغي، ونظريات المعنى، بهدف تحيين الآليات العميقة الخفية في العلوم الآلية، وبنائها بناء جديدا.



7 - 7 - التقابل في ظاهرتي المطابقة والمقابلة

من الظواهر البلاغية ذات الخلفية التقابلية المطابقة (الطباق)، وهي الجمع بين الشيء وضده في جزء من أجزاء الكلام، في مثل قوله تعالى: ﴿ يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل ﴾[35]. وقال عليه الصلاة والسلام: "خير المال عين ساهرة لعين نائمة"، أي أن عين الماء ينام صاحبها وهي تسقي أرضه. وقول القائل: "لا تتكل على عُذر مني، فقد اتَّكَلْتُ على كفاية منك". حاولت المباحث البلاغية القديمة رصد الطباقات الجيدة، وتبيان المطابقات المعيبة، منبهة إلى جودة التطبيق. والذي يعنينا من الوقوف عند هذه الظاهرة كذلك - هو التقابل الحاصل بين الطرفين.



المقابلة من الظواهر البلاغية التي تنبني لفظا ومعنى على تقابل ما، وهي إيراد الكلام ثم مقابلته بمثله في المعنى أو اللفظ على جهة الموافقة أو المخالفة، وهي إما مقابلة في المعاني كما في قوله تعالى: ﴿ ومكروا مكْرًا ومَكَرْنا مَكْرا ﴾[36]، أو مقابلة اللفظ والمعنى، مثل: لو رآه صاديا لسقاه، بين "صاديا" و"سقى".



قيل للرشيد: إن عبد الملك بن صالح يُعِدُّ كلامه؛ فأنكر ذلك الرشيد، وقال: إذا دخل فقولوا له: وُلِد لأمير المؤمنين في هذه الليلة ابنٌ ومات له ابنٌ، ففعلوا.فقال:سَرَّك الله يا أمير المؤمنين فيما ساءَكَ، ولا ساءَكَ فيما سَرَّك، وجعلَ واحدةً بواحدة، ثواب الشاكر، وأجر الصابر. فعرفوا أن بلاغته طبع"[37]. ورصد البلاغيون الجيد من المقابلات والرديء منها والمختار، ونقف عندها مرة أخرى لرصد انتظامات الخطاب وفق نسق تقابلي، وتشكله وفق ألوان مختلفة انطلاقا من قانون واحد تتأسس عليه الخطابات.



7 - 8 - التقابل في التقسيم

من الألوان البلاغية التي رصدها القدماء ما يسمى بالتقسيم الصحيح، ويعني تقسيم الكلام قسمة متساوية، تحتوي جميع أجناسه، مثل قوله تعالى: ﴿ هو الذي يُريكُم البَرْقَ خَوْفا وطَمَعًا ﴾[38]، لأن الناس عند رؤية البرق بين خائف وطامع لا ثالث لهما.



ووقف أعرابي على مجلس الحسن، فقال: "رحم الله عَبْدا أعطى من سَعَةٍ، أو آسى من كَفاف، أو آثَر من قِلَّة. فقال الحسن: ما ترك لأَحَد عُذرا، فانصرف الأعرابي بخير كثير"[39].



إن التقسيم وصحته مبنيان بشكل تقابلي، أي إن المنتج تصوَّرَ المعاني تصورا ذهنيا تقابليا ثنائيا أو ثلاثيا أو غير ذلك، بحيث تتقابل العناصر بأي شكل من أشكال التقابل (التراتب، التتابع، التعالق، التناقض، التخالف، تقابل الذوات، تقابل الأزمنة...)، وتتواجه في البنية الذهنية للمتكلم، وتبعا لذلك فهي تتواجه (وجها لوجه) في بنية الخطاب، ثم تتواجه بعديا في ذهن المتلقي، إذ ستفهم وفق المسار التقابلي الذي بُنيت به أَوَّلا.



أشار العسكري كذلك إلى عيوب التقسيم، مثلما أشار إلى المعيب من الظواهر البلاغية الأخرى، وظل مقصده من تناول الظواهر البلاغية تحسين الصناعتين الكتابة والشعر، وتجنيب الكُتاب والشعراء مزالق الوقوع في الأخطاء، والرُّقي بمُنْتَجِهم الإبداعي عبر الإشارة إلى النماذج الجيدة، والتحذير من الوقوع في النماذج التي يراها معيبة. لا يتجه وقوفنا عند هذه الظواهر إلى المنحى البلاغي، وإنما لرصد خاصية التقابل الضمني الحاضر في إنتاج المعنى، وفي التشكلات البلاغية المختلفة، وكأننا نعود بالمعنى إلى أوليات صناعته، إذ منطلقه مبدأ تقابلي، يتكون بأشكال تعبيرية مختلفة، و تأخذ هذه الأشكال أسامٍ متنوعة حسب الملمح الغالب عليها، لكنها تنطلق في العمق من أساس تقابلي خطابي وتداولي ثم بنيوي ودلالي.



وتعين العودة إلى الدراسات البلاغية القديمة على التوقف عند مظاهره، دون التقيد بالأطر الدقيقة التي رسمها علم البلاغة لنفسه، ودون أن يعني ذلك أننا نقوض أسس هذا العلم؛ فالمفاهيم تبقى كما هي لمن أراد أن يعمل بها في مقاربة النصوص، والآليات المتوصل إليها من تحليل النصوص كذلك، وإنما هدفنا التأسيس لتأويلية تقابلية بليغة انطلاقا من هذا العلم، ومن غيره، أو لبلاغة جديدة، عبر استكشاف آليات بناء الخطاب إنتاجا، ثم البناء عليها في مقاربة الخطابات والنصوص، باعتماد ما توصل إليه البلاغيون من أدوات قرائية، وما تمدنا به العلوم الأخرى من أدوات ومفاهيم.



7 - 9 - التقابل في الأَرْداف والتَّوابع

ومن التقابل الخفي ما سماه العسكري: الأرداف والتوابع، في مثل قوله تعالى: ﴿ فيهن قاصرات الطرف ﴾[40]، لأن قصر الطرف دال على العفاف على جهة التوابع والأرداف، فقصور الطرف ردف للعفاف، والعفاف ردف وتابع لقصر الطرف[41].



ويهمنا في هذا المقام أن المعنى الحاضر يدل على معنى غير حاضر، ولكن المتلقي يبنيه، فالكلام لا يُدفع إلينا دائما على جهة التمام، وإنما يفسح لنا مجال التتميم وإكمال المعنى الضمني.ومثله قوله تعالى: ﴿ ولكم في القِصاص حياة ﴾ [42]، لأن الناس يتكافون عن القتل من أجل القِصاص، فيحيون، فكأن الحياة ردف للقصاص الذي يتجنبون القتل من أجله.



وهذا من الأبنية التي يخفى فيها التقابل ظاهريا، لكن التأمل التأويلي يستكشف بنية غائبة مكملة فيبنيها، ويستحضرها على أساس أنها المكمل المقابل المضمِر لغرض بلاغي.



7 - 10 - التقابل في الكناية

تتضمن الكناية بدورها هذا البناء القاعدي الخفي للتقابل، انطلاقا مما هو مصرح به مقابل غير المصرح به. ومثل ذلك في كتاب الله عز وجل: ﴿ أو جاء أحدكم من الغائط أو لامستم النساء ﴾[43]، فكنى عن قضاء الحاجة بالغائط، وجمعه غوط وغياط. قيل للمطْمَئنّ من اَلأَرض غائطٌ، ولموضع قَضاء الحاجة غائط، لأَنَّ العادة أَن يَقْضِيَ في المُنْخَفِض من الأَرض حيث هو أَستر له، ثم اتُّسَعَ فيه حتى صار يطلق على النجْوِ نفْسِه[44]. وبالملامسة عن الجماع، وهو نوع تقابل - مثل الذي في المماثلة - بين معنى مصرح به، ومعنى مكنى عنه لغاية لطيفة وبليغة، وهو تجنب التصريح والاكتفاء بالتلميح، صونا للخطاب.وتبعا لهذا المسار الحاصل في بناء القول القائم على الكناية والتعريض يفهم باستحضار المتقابلات على المستوى الذهني.وفي مثل قول رؤبة:



يا ابن هشامٍ أَهْلَكَ الناسَ اللبن

فكلهم يعدو بقوسٍ وقَرَنْ






وهي كنايات عن القتال بينهم أيام الربيع.



7 - 11 - التقابل في التعاكس

من الأبنية البلاغية التي تحضر فيها التقابلات الظاهرة بشكل حضوري، ما سماه العسكري ب" العكس"، ونسميه التقابل العكسي، وهو: "أن تعكس الكلام فتجعل في الجزء الأخير ما جعلته في الجزء الأول"[45]. وهو إجراء في صناعة الكَلِم يقوم على إعادة البنية القولية بشكل عكسي، مع إضافة معنى جديد، وهذا في الحقيقة تقابل ذو مظهر لفظي بنائي، يحمل تقابلا في معنيين (أ) و (ب) بحيث يتمم أحدهما الآخر. مثل: "أسأل الله الذي رحمني بك أن يرحمك بي". وقول القائل: "اللهم أَغْنِني بالفقر إليك، ولا تُفْقِرني بالغنى عنك". وقولهم: "كان الناس ورقا لا شوك فيه، فصاروا شوكا لا ورق فيه".



وأمثلة هذا كثيرة نصادفها في الكتابات الأدبية وفي الأمثال، وفي التخاطب اليومي، ولا تقتصر على الكلام الأدبي، وهي دليل على تأسس القول ذهنيا على بعد تقابلي سواء من حيث المعاني المراد التعبير عنها، أو كذلك في هيأت التعبير عنها لفظيا وتركيبا.



7 - 12 - التقابل في الالتفات

في جل الظواهر البلاغية نجد نوعا أو أكثر من أنواع التقابل، كما بيَّنا، وفي الالتفات نوع تقابل؛ قال جرير:





طرب الحمام بذي الأراك فشاقني

لا زِلْتَ في غللٍ وأَيْكٍ ناضِر




حيث التفت إلى الحمام فدعا له، وفي هذا الالتفات تقابل الذوات (الشاعر / الحمام)، وينبئ عنه حضور ضمير المتكلم في (شاقني) وضمير الخطاب في (لا زلتَ). هذا النوع من التقابل يسمح للمتلقي بتحديد ذوات التخاطب أو الذوات موضوع الخطاب، وتمييزها فيتضح المعنى ومقصدية التواصل من خلال ذلك.



9-13-تقابل السلب والإيجاب

وإذا تتبعنا الظواهر البلاغية واللغوية سنجد في كل منها نوعا من التقابل الظاهر أو الخفي كذلك، ومن ذلك ما سماه البلاغيون "السلب والإيجاب"، وهو نفي الشيء من جهة وإثباته من جهة أخرى، أو الأمر به من جهة، والنهي عنه من جهة أخرى". قال تعالى: ﴿ فلا تقل لهما أُفٍّ ولا تنهرهما وقل لهما قولا كريما ﴾[46]. ومثل هذا الأسلوب كثير في كلامنا، وفي مخاطباتنا اليومية، وهو يُظهر السمة التقابلية في التواصل، وفي بناء المعنى وإرساله، والتأكيد عليه.



كما أن التقابل حاصل في البنيات الاستثنائية، وفي التصدير، والتشطير (توازن المصراعين مع قيام كل منهما بنفسه)، مثل قول الشاعر:



فأما الذي يحصيهم فمُكثِر

وأما الذي يُطريهم فمُقلل






7- 14-تقابل المجاورة

وهي نوع تقابل لفظي، حيث تتردد في البيت لفظتان، وتقع كل واحدة منهما بجنب الأخرى، دون أن تكون لغوا[47]؛ كقول علقمة:



ومُطعَم الغُنم يوم الغُنم مُطمعه

أنىَّ توجَّه والمحروم محروم






فـ"الغُنم يوم الغُنم" مجاورة، وفهم البيت يقتضي التقابل بينهما، "والمحروم محروم" مجاورة. على أن محلل البيت يمكنه أن لا يقف عند نوع واحد من أنواع التقابل المذكورة، وإنما ينطلق من التقابل باعتباره خلفية منهاجية وتأويلية، فيقف عند كل الظواهر اللغوية والنحوية والبلاغية التي تبني المعنى فيه.



إن التقابل يؤسس لهذه الخلفية التأويلية ولا يلغي التحليل بالآليات الذي ذكرنا، وإنما يُنَظِّم عملَها، ويسهم في إبرازها والوقوف عليها، إذ يحتاج الخطاب الـتأويلي إلى نسق ناظم ليعمل بدقة ورؤية واضحة، وتبعا لذلك فهو لا يستغني عن آليات التحليل النحوي أو البلاغي، أو الموضوعي التيماتي، أو الدلالي، أو السميائي، وإنما يستوعب كل ما يسمح البناء النصي بحضوره، وله جدوى في المقاربة التأويلية.



7-15-المقارنة والتقابل

يشير القرطاجني إلى جانب من صناعة المعاني، وهو المقارنة بينها لإثبات التماثل أو التناسب أو التضاد والمقابلة أو المخالفة، أو قران الحقيقة والمجاز. وهذه الإمكانيات إنما تختلف في منظور العرض وأداته، وأما الجوهري فيها فهو التقابل، غير أن التقابل عام ولا يسمح بإظهار الفروق والسمات المميزة للأساليب، لكنه النسق المتحكم في تلك الآليات كلها، لأن التناسب بين المعاني تقابل، والتخالف تقابل، والتضاد تقابل، والاستعارة والمجاز قائمان على التقابل، وقد بينا هذا في تناولنا لأهم أبواب البلاغة العريبة القائمة أساسا على آلية التقابل.



وقد يحصل هذا التقابل بأن يكون المعنى (أ) عمدة في الكلام، وبقية المعاني (ب) و (ج) و (د).. تتميمات، وتوسيعات أو تحقق صحة مفهوم.



تتحصل المعاني في الأذهان عن الأمور الموجودة في الأعيان[48]، بأعلام من العبارة؛ وقد ذكرنا هذا، و وضحناه في المقدمات، وبَيَّنا كيف تتفرع التقابلات النصية عن التقابلات الوجودية، غير أن من المعاني ما ليس له وجود خارج الذهن أصلا، وإنما تتحصل بالتأليف بين المعاني والألفاظ الدالة عليها، "والتقاذف بها إلى جهات من الترتيب والإسناد". هذا البناء الجديد للمعاني يتم داخل الذهن. " فإذا أردت أن تقارن بين المعاني وتجعل بعضها بإزاء بعض وتناظر بينها، فانظر مأخذا يمكنك معه أن تُكَوِّن المعنى الواحد وتوقعه في حيزين، فيكون له في كليهما فائدة، فتناظر بين موقع المعنى في الحيز وموقعه في الحيز الآخر"[49]، فينتج عن ذلك اقتران التماثل، أو التناسب عند قرن المعنى بما يناسبه أو التطابق أو التقابل عند قرن المعنى بما يطابقه، أو تشافع الحقيقة والمجاز عندما يقترن الشيء بما يشبهه.



وهذه الإشارات التي تتجه إلى المنحى التقابلي في تأسيس المعنى وبناء الخطاب، تبين أن القرطاجني سعى في "المنهاج" إلى إنضاج صناعة الكلام، والوصول بها إلى درجات البلاغة الكاملة، مبينا آلات ذلك وكيفياته، ومشيرا إلى ما يجب أن يكون عليه التأليف والكتابة.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 39.26 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 38.63 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.60%)]