عرض مشاركة واحدة
  #19  
قديم 30-09-2021, 03:24 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,520
الدولة : Egypt
افتراضي رد: فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام


فتح العليم العلام الجامع لتفسير ابن تيمية الإمام علم الأعلام وشيخ الإسلام
المؤلف:شيخ الاسلام أحمد بن عبد الحليم ابن تيمية
سُورَةُ الْفَاتِحَةِ
المجلد الثانى
الحلقة (19)

من صــ 367 الى صــ 373



ولهذا قال تعالى: {وهم يكفرون بالرحمن قل هو ربي لا إله إلا هو عليه توكلت وإليه متاب} فذكر هنا الأسماء الثلاثة:
(الرحمن و (ربي و (الإله وقال: {عليه توكلت وإليه متاب} كما ذكر الأسماء الثلاثة في أم القرآن؛ لكن بدأ هناك باسم الله؛ولهذا بدأ في السورة بـ (إياك نعبد) فقدم الاسم وما يتعلق به من العبادة؛ لأن تلك السورة فاتحة الكتاب وأم القرآن فقدم فيها المقصود الذي هو العلة الغائية فإنها علة فاعلية للعلة الغائية.
وقد بسطت هذا المعنى في مواضع؛ في أول " التفسير " وفي " قاعدة المحبة والإرادة " وفي غير ذلك.
فصل:
ولما كان علم النفوس بحاجتهم وفقرهم إلى الرب قبل علمهم بحاجتهم وفقرهم إلى الإله المعبود وقصدهم لدفع حاجاتهم العاجلة قبل الآجلة كان إقرارهم بالله من جهة ربوبيته أسبق من إقرارهم به من جهة ألوهيته وكان الدعاء له والاستعانة به والتوكل عليه فيهم أكثر من العبادة له والإنابة إليه. ولهذا إنما بعث الرسل يدعونهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له الذي هو المقصود المستلزم للإقرار بالربوبية وقد أخبر عنهم أنهم {ولئن سألتهم من خلقهم ليقولن الله} وأنهم إذا مسهم الضر ضل من يدعون إلا إياه وقال:
{وإذا غشيهم موج كالظلل دعوا الله مخلصين له الدين} فأخبر أنهم مقرون بربوبيته وأنهم مخلصون له الدين إذا مسهم الضر في دعائهم واستعانتهم ثم يعرضون عن عبادته في حال حصول أغراضهم.

وكثير من المتكلمين إنما يقررون الوحدانية من جهة الربوبية وأما الرسل فهم دعوا إليها من جهة الألوهية وكذلك كثير من المتصوفة المتعبدة وأرباب الأحوال إنما توجههم إلى الله من جهة ربوبيته؛ لما يمدهم به في الباطن من الأحوال التي بها يتصرفون وهؤلاء من جنس الملوك وقد ذم الله عز وجل في القرآن هذا الصنف كثيرا فتدبر هذا فإنه تنكشف به أحوال قوم يتكلمون في الحقائق ويعملون عليها وهم لعمري في نوع من الحقائق الكونية القدرية الربوبية لا في الحقائق الدينية الشرعية الإلهية وقد تكلمت على هذا المعنى في مواضع متعددة وهو أصل عظيم يجب الاعتناء به والله سبحانه أعلم.
فصل:
وذلك أن الإنسان بل وجميع المخلوقات عباد لله تعالى فقراء إليه مماليك له وهو ربهم ومليكهم وإلههم لا إله إلا هو فالمخلوق ليس له من نفسه شيء أصلا؛ بل نفسه وصفاته وأفعاله وما ينتفع به أو يستحقه وغير ذلك إنما هو من خلق الله والله عز وجل رب ذلك كله ومليكه وبارئه وخالقه ومصوره.
وإذا قلنا ليس له من نفسه إلا العدم فالعدم ليس هو شيئا يفتقر إلى فاعل موجود؛ بل العدم ليس بشيء وبقاؤه مشروط بعدم فعل الفاعل لا أن عدم الفاعل يوجبه ويقتضيه كما يوجب الفاعل المفعول الموجود؛ بل قد يضاف عدم المعلول إلى عدم العلة وبينهما فرق وذلك أن المفعول الموجود إنما خلقه وأبدعه الفاعل وليس المعدوم أبدعه عدم الفاعل فإنه يفضي إلى التسلسل والدور؛ ولأنه ليس اقتضاء أحد العدمين للآخر بأولى من العكس؛ فإنه ليس أحد العدمين مميزا لحقيقة استوجب بها أن يكون فاعلا وإن كان يعقل أن عدم المقتضي أولى بعدم الأثر من العكس فهذا لأنه لما كان وجود المقتضي هو المفيد لوجود المقتضي صار العقل يضيف عدمه إلى عدمه إضافة لزومية؛ لأن عدم الشيء إما أن يكون لعدم المقتضي أو لوجود المانع.
وبعد قيام المقتضي لا يتصور أن يكون العدم إلا لأجل هاتين الصورتين أو الحالتين؛ فلما كان الشيء الذي انعقد سبب وجوده يعوقه ويمنعه المانع المنافي وهو أمر موجود وتارة لا يكون سببه قد انعقد صار عدمه تارة ينسب إلى عدم مقتضيه وتارة إلى وجود مانعه ومنافيه. وهذا معنى قول المسلمين:
ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن؛ إذ مشيئته هي الموجبة وحدها لا غيرها فيلزم من انتفائها انتفاؤه لا يكون شيء حتى تكون مشيئته لا يكون شيء بدونها بحال فليس لنا سبب يقتضي وجود شيء حتى تكون مشيئته مانعة من وجوده بل مشيئته هي السبب الكامل فمع وجودها لا مانع ومع عدمها لا مقتضى {ما يفتح الله للناس من رحمة فلا ممسك لها وما يمسك فلا مرسل له من بعده} {وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يردك بخير فلا راد لفضله} {قل أفرأيتم ما تدعون من دون الله إن أرادني الله بضر هل هن كاشفات ضره أو أرادني برحمة هل هن ممسكات رحمته قل حسبي الله عليه يتوكل المتوكلون}.
وإذا عرف أن العبد ليس له من نفسه خير أصلا؛ بل ما بنا من نعمة فمن الله وإذا مسنا الضر فإليه نجأر والخير كله بيديه كما قال: {ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك} وقال: {أولما أصابتكم مصيبة قد أصبتم مثليها قلتم أنى هذا قل هو من عند أنفسكم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم في سيد الاستغفار الذي في صحيح البخاري:
{اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت أعوذ بك من شر ما صنعت أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت} وقال في دعاء الاستفتاح الذي في صحيح مسلم:{لبيك وسعديك والخير بيديك والشر ليس إليك تباركت ربنا وتعاليت}. وذلك أن الشر إما أن يكون موجودا أو معدوما فالمعدوم سواء كان عدم ذات أو عدم صفة من صفات كمالها أو فعل من أفعالها مثل عدم الحياة أو العلم أو السمع أو البصر أو الكلام أو العقل أو العمل الصالح على تنوع أصنافه مثل معرفة الله ومحبته وعبادته والتوكل عليه والإنابة إليه ورجائه وخشيته وامتثال أوامره واجتناب نواهيه وغير ذلك من الأمور المحمودة الباطنة والظاهرة من الأقوال والأفعال.
فإن هذه الأمور كلها خيرات وحسنات وعدمها شر وسيئات؛ لكن هذا العدم ليس بشيء أصلا حتى يكون له بارئ وفاعل فيضاف إلى الله وإنما هو من لوازم النفس التي هي حقيقة الإنسان قبل أن تخلق وبعد أن خلقت؛ فإنها قبل أن تخلق عدم مستلزم لهذا العدم وبعد أن خلقت - وقد خلقت ضعيفة ناقصة - فيها النقص والضعف والعجز فإن هذه الأمور عدمية فأضيف إلى النفس من باب إضافة عدم المعلول إلى عدم علته وعدم مقتضيه وقد تكون من باب إضافته إلى وجود منافيه من وجه آخر سنبينه إن شاء الله تعالى.
و " نكتة الأمر " أن هذا الشر والسيئات العدمية ليست موجودة حتى يكون الله خالقها فإن الله خالق كل شيء.
والمعدومات تنسب تارة إلى عدم فاعلها وتارة إلى وجود مانعها فلا تنسب إليه هذه الشرور العدمية على الوجهين:
أما " الأول " فلأنه الحق المبين فلا يقال عدمت لعدم فاعلها ومقتضيها.
وأما " الثاني " - وهو وجود المانع - فلأن المانع إنما يحتاج إليه إذا وجد المقتضي ولو شاء فعلها لما منعه مانع وهو - سبحانه - لا يمنع نفسه ما شاء فعله؛ بل هو فعال لما يشاء؛ ولكن الله قد يخلق هذا سببا ومقتضيا ومانعا فإن جعل السبب تاما لم يمنعه شيء وإن لم يجعله تاما منعه المانع لضعف السبب وعدم إعانة الله له فلا يعدم أمر إلا لأنه لم يشأه كما لا يوجد أمر إلا لأنه يشاؤه وإنما تضاف هذه السيئات العدمية إلى العبد لعدم السبب منه تارة ولوجود المانع منه أخرى.
أما عدم السبب فظاهر فإنه ليس منه قوة ولا حول ولا خير ولا سبب خير أصالة ولو كان منه شيء لكان سببا فأضيف إليه لعدم السبب؛ ولأنه قد صدرت منه أفعال كان سببا لها بإعانة الله له فما لم يصدر منه كان لعدم السبب.
وأما وجود المانع المضاد له المنافي فلأن نفسه قد تضيق وتضعف وتعجز أن تجمع بين أفعال ممكنة في نفسها متنافية في حقه فإذا اشتغل بسمع شيء أو بصره أو الكلام في شيء أو النظر فيه أو إرادته أو اشتغلت جوارحه بعمل كثير اشتغلت عن عمل آخر وإن كان ذلك خيرا لضيقه وعجزه؛ فصار قيام إحدى الصفات والأفعال به مانعا وصادا عن آخر.
والضيق والعجز يعود إلى عدم قدرته فعاد إلى العدم الذي هو منه والعدم المحض ليس بشيء حتى يضاف إلى الله تعالى وأما إن كان الشيء موجودا كالألم وسبب الألم فينبغي أن يعرف أن الشر الموجود ليس شرا على الإطلاق ولا شرا محضا وإنما هو شر في حق من تألم به وقد تكون مصائب قوم عند قوم فوائد. ولهذا جاء في الحديث الذي رويناه مسلسلا {آمنت بالقدر خيره وشره وحلوه ومره} وفي الحديث الذي رواه أبو داود:
{لو أنفقت ملء الأرض ذهبا لما قبله منك حتى تؤمن بالقدر خيره وشره وتعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك} فالخير والشر هما بحسب العبد المضاف إليه كالحلو والمر سواء وذلك أن من لم يتألم بالشيء ليس في حقه شرا ومن تنعم به فهو في حقه خير كما {كان النبي صلى الله عليه وسلم يعلم من قص عليه أخوه رؤيا أن يقول:
خيرا تلقاه وشرا توقاه خيرا لنا وشرا لأعدائنا} فإنه إذا أصاب العبد شر سر قلب عدوه؛ فهو خير لهذا وشر لهذا؛ ومن لم يكن له وليا ولا عدوا فليس في حقه خيرا ولا شرا وليس في مخلوقات الله ما يؤلم الخلق كلهم دائما ولا ما يؤلم جمهورهم دائما؛ بل مخلوقاته إما منعمة لهم أو لجمهورهم في أغلب الأوقات كالشمس والعافية فلم يكن في الموجودات التي خلقها الله ما هو شر مطلقا عاما.
فعلم أن الشر المخلوق الموجود شر مقيد خاص وفيه وجه آخر هو به خير وحسن وهو أغلب وجهيه كما قال تعالى: {أحسن كل شيء خلقه} وقال تعالى:
{صنع الله الذي أتقن كل شيء} وقال تعالى: {ما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما إلا بالحق} وقال: {ويتفكرون في خلق السماوات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا}. وقد علم المسلمون أن الله لم يخلق شيئا ما إلا لحكمة؛ فتلك الحكمة وجه حسنه وخيره ولا يكون في المخلوقات شر محض لا خير فيه ولا فائدة فيه بوجه من الوجوه؛ وبهذا يظهر معنى قوله:
{والشر ليس إليك} وكون الشر لم يضف إلى الله وحده؛ بل إما بطريق العموم أو يضاف إلى السبب أو يحذف فاعله.



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 23.49 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 22.86 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.67%)]