فأبو كثير لم يتحرَّر من القافية في الأبيات - أو الأسطر - السابقة، بقدر ما نوَّع فيها تنويعًا يدفَع الرَّتابة التي قد تحدُث من تَكرارها؛ فقد جعل لكلِّ سطرين قافية واحدة؛ كما في قوله في البيتين الأول والثاني: (الحياه - الإله)، وقوله في البيتين التاليين: (أبقى - رفقَا)، ثم فيما تلاهما: (الحبيب - رحيب)... وهكذا.
وفي محاولةٍ لأنْ يحيا نبْض عصره في تجربته الشعريَّة، اتَّجَه في صُوَره الشعريَّة إلى إلغاء ما يمكن أنْ يُسمَّى بالمعجم الشعري؛ ذلك الذي كان يتحرَّى جَزالة الألفاظ ورَصانتها في القصيدة العربية التقليدية والرومانسية، وهنا حطَّم الشاعر الجديد ما كان يُردِّده بعض النقَّاد المحافظين من أنَّ هناك ألفاظًا شعريَّة وألفاظًا غير شعريَّة؛ حيث أصبحت كلُّ لفظةٍ قادرةً على أنْ تَفِي بالمعنى المراد، طالما أنَّ الشاعر أحسن توظيفها واستعمالها في مكانها الصحيح.
وخِلال ما سبَق، يتَّضِح لنا أنَّ الشعر الحر شعرٌ يجري وفق القواعد العروضية للقصيدة العربية، ويلتزم بها ولا يخرج عنها إلا من حيث الشكل، والتحرُّر من القافية الواحدة في أغلب الأحيان؛ فالوزن العروضي موجودٌ، والتفعيلة مُوزَّعة توزيعًا جديدًا ليس إلا، فإذا أراد الشاعرُ أنْ ينسج قصيدةً ما على بحرٍ معيَّن، وليكن "الرمل" مثلاً، استَوجَب عليه أنْ يلتزم في قصيدته بهذا البحر وتفعيلاته من مَطلَعها إلى مُنتهاها، وليس له من الحريَّة سِوى عدم التقيُّد بنظام البيت التقليدي والقافية الموحَّدة، وإنْ كان الأمر لا يمنع من ظهور القافية واختفائها من حينٍ لآخَر حسب ما تقتضيه النغمة الموسيقيَّة وانتهاء الدفقة الشعوريَّة، كما رأينا في المثال السابق.
وقد ألَحَّ أبو كثيرٍ كثيرًا في التأكيد على أصالته ورِيادته للشعر الحر، ورأى أنَّ مَنحاه في كتابة هذا اللون الفني يختلف عن مَنحَى كثيرٍ من الشعراء المحدَثين؛ كجميل صدقي الزهاوي، ومحمد فريد أبي حديد، وغيرهما؛ حيث إنهم بنوا كثيرًا من أشعارهم على الشعر المرسل من القافية، وانحصَرَ تجديدهم في التحرُّر من القافية وحسب، وما عدا هذا فإنَّ نظمهم سارَ على النهج القديم، حتى إنْ لم يلتزموا بوحدة البيت من المعنوية والإعرابية، لكنهم التزموا بوحدته الموسيقيَّة؛ إذ كان لكلِّ بيت أو سطر وحدته النغمية التي يستقلُّ بها عن بقيَّة الأبيات، يقول أبو كثير: "وهذه الطريقة تختلف اختلافًا أساسيًّا عن الطريقة التي سلَكَها كثيرٌ من الشعراء المحدَثِين؛ كالزهاوي وأبي حديد، وغيرهما ممَّا أسموه الشعر المرسل؛ فالنظم على طريقتهم تلك لا يختلف عن النظم العربي القديم إلا في إرساله من القافية، وإذا اتَّفق أحيانًا أنَّ البيت ليس بوحدةٍ فيه من حيث المعنى أو الإعراب، فإنَّه على أيِّ حال يكون وحدةً مستقلَّة من حيث النَّغم الموسيقي؛ أي: إنَّ النغم لا يطَّرد في بيتين بل ينقطع عند نهاية البيت الأول، ويبتدئ من جديدٍ في أوَّل البيت التالي، وهكذا دواليك، وفي نظري أنَّ هذه الطريقة الجديدة - التي لم أعلم أحدًا سبقني إليها - هي أصلح طريقة للشعر التمثيلي"[20].
ومهما يكنْ من أمرٍ فإنَّ بعض ذوي الأصالة الفنيَّة من شُعَراء مدرسة الشعر الحر المُعاصِرة، قد مزَجُوا في أشعارهم بين الشعر الحر والشعر المرسل - على حدِّ قول أستاذنا الدكتور عثمان موافي[21] - وأصبح هذا المزْج سمةً غالبةً على أشعارهم؛ مثل: نازك الملائكة، والسيَّاب، وصلاح عبدالصبور، وعبدالوهاب البيَّاتي.
وممَّا يُصوِّر هذا قصيدةُ نازك الملائكة (الخيط المشدود إلى شجرة السرو)، التي تقول فيها[22]:
فِي سَواد الشَّارِعِ المُظلِم والصَّمتِ الأصمّْ
حَيْثُ لا لَوْنَ سِوَى لَوْنِ الدَّياجِي المدلهمّْ
حَيْثُ يُرخِي شَجَرُ الدِّفلَى أَساه
فَوْقَ وجهِ الأرض ظَلاَّ
قصَّةً حدَّثني صَوتٌ بها ثم اضمَحَلاَّ
وتَلاشَتْ في الدَّياجِي شَفتاهْ
قصَّة الحب الذي يحسبه قلبك ماتَا
وهْو ما زالَ انفِجارًا وَحَياهْ
وغَدًا يعصرك الشَّوْقُ إليَّ
وتُنادِيني فتَعيَى
تضغَطُ الذِّكرى على صَدرِك عِبئَا
من جُنونٍ ثم لا تلمَسُ شيئَا
أي شيءٍ حلم لفْظ رَقِيق
أي شيءٍ ويُنادِيكَ الطَّرِيق
ويَراكَ اللَّيل في الدَّرْبِ وَحِيدًا تَسأَلُ الأمسَ البَعِيدَا
فتُفِيق
أنْ يَعُودا
فالقصيدة - كما نلاحظ - قائمةٌ على السطر لا الشطر، وقد اعتمدَتْ في مُوسيقاها على بحر الرمل، وهو من الأبحر الموحَّدة التفعيلة؛ حيث يقوم على تفعيلةٍ سُباعيَّة هي (فاعلاتن)، وقد أعادَت الشاعرة توزيعَها بشكلٍ جديد؛ بحيث تستَوعِب تجربتها الوجدانيَّة، فتارةً تتكرَّر أربع مرَّات كما في السطرين الأول والثاني مثلاً، وتارةً تتكرَّر ثلاثًا كما في السَّطرين الثالث والرابع، وتارةً ثالثة تأتي مفردةً كما في السطرين الأخيرين.
ويُلاحَظ كذلك أنَّ الشاعرة لم تتحرَّر تمامًا من القافية الموحَّدة، بل جاءت بعض قوافيها مسجوعةً مثل: (الأصم - المدلهم)، ومثل: (ظَلاَّ - اضمحَلاَّ)، ومثل: (عبئَا - شيئَا)، وغيرها، ممَّا يُؤكِّد أنَّ التنويع في القوافي يُعَدُّ من أخصِّ خصائص الشعر المرسل، كما أنَّ التنويع في الكم الصوتي للإيقاع يُعَدُّ خصيصةً من خصائص الشعر الحر.
ومن هنا فإنَّ الشعر الحر يُعَدُّ أسلوبًا جديدًا أعاد توزيع وترتيب تفاعيل الخليل، وهو شعرٌ ذو شطر واحد لا شطرين، وليس له طولٌ ثابت، "وإنما يصحُّ أنْ يتغيَّر في كلِّ سطرٍ شعري عدد التفعيلات، ويكون هذا التغيُّر وفْق قانونٍ عروضي يتحكَّم فيه"[23].
وفي ترجمته (روميو وجولييت)، اعتمد باكثير على هذا اللون الجديد، وبدَتْ جمله متماسكة، يأخُذ بعضها بتلابيب بعض، وتكمل الجملة سابقتها، ويتَّضِح هذا من قوله[24]:
أوَّاه إن استَيْقظت وحَوْلي هذي المَرائِي التي
تقشَعِرُّ لها الأبْدانُ، ألَيْسَ يجنُّ جُنُوني
فألعَبُ بالمُتَناثِر من أوْصال جُدُودِي
وأقصد نَحْوَ الممزَّق تيبالت أنسله من أكفانِه
ثم أَعمدُ فِي هذه السُّورة العُظْمَى
لفقار نسيب كبير فأحملها كالهراوة
أحطِّم رَأسِي بها وأطيرُ دِماغي شعاعَا!
وَيْكأنِّي أرى شبَحًا لنسيبي تيبالت
ينشُد روميو الذي شكَّه بذُبابِ حُسامِه
قِفْ يا تيبالت مكانَكَ! ها أنا يا روميو جِئتُك!
أنا شاربةٌ هذا مِن أجْلِك!
فالوحدة هنا ليست وحدة الوزن والقافية، ولكنَّها وحدة المعنى والجملة التامَّة، كما أنَّ النَّغَمَ الموسيقيَّ لا ينتهي بانتهاء السطر، بل يطَّرد ليستغرق السطرين والثلاثة، وقد اعتمد الشاعر على وسائل شتَّى لتحقيق هذا الترابُط المعنوي والسردي الرائع بين الأسطر؛ فاستخدم الاسم الموصول (التي) في نهاية السطر الأوَّل، وجاءت جملة الصلة (تقشعرُّ لها الأبدان) في السطر الثاني، كما استخدم كثيرًا من حُروف العطف؛ مثل: (الفاء) التي تُفِيد التعقيب والترتيب في أوَّل السطر الثالث، و(الواو) في أوَّل السطر الرابع، و(ثم) في أوَّل السطر الخامس... وهكذا.
وتُطالِعنا أشعار عدَّة لباكثير، غير مسرحيَّاته الشعريَّة، تنهج هذا النهج الجديد، الذي يعتَمِد على التنويع في القوافي، واستخدام الموسيقا بحرفيَّة جديدة تخضَع في تشكيلها للحالة النفسية أو الموقف الانفعالي، "بحيث أصبحت القصيدة الجديدة صورةً موسيقيَّة متكاملة، تتلاقَى فيها الأنغام المختلفة وتفترق مُحدِثة نوعًا من الإيقاع الذي يُساعِد على تنسيق مشاعر الشاعر وأحاسيسه المشتَّتة، وحتى يستطيع الشاعر أنْ يجعَلَها صورةً مقفلة ومكتفية بذاتها، ولها دلالتها الشعوريَّة الخاصَّة، التي يستطيع متلقِّي القصيدة أنْ يُدرِكها في غير عناء، وأنْ يحسَّ تساوقها مع المضمون الكلي للقصيدة"[25]، ويتضح هذا بجلاء في قصيدته التي يقول فيها[26]:
في غُرفَةٍ واجِمَةٍ قَفْرةٍ
ليسَتْ لها بارِقةٌ لِلمُنَى
هادِئة لا عَنْ طُمَأنينةٍ
ساكنة مِثْل سُكُون الفَنَا
النُّور فِي أرْجائِهَا حائِرٌ
يَصِيح من يَأسٍ: أقَبرِي هُنا؟!
وَلاَ جَوابٌ غيْر هَمْسٍ بِها
وبك يَا ابْنَ الشَّمسِ أينَ السَّنَا؟
لا ذَنْبَ للنُّورِ ولا غَيْرِه
في غُرفةٍ خالِيَةٍ مِن (أنا)
يا لَيْتَ لليأس سبيلاً إلى
قَلْبِي فَأَحْيا بِفُؤادٍ خَلِي
وا عَجَبًا منِّي أأستَنجِد اليأس
كأنِّي لم يَمُتْ مَأمَلِي
ما أنا فِيهِ اليَأس لَوْ لم أكُنْ
عن راحَةِ اليائِسِ في مَعزِل
مُصِيبتي هذا الشُّعور الذي
يَربِط ماضيَّ بمستَقبَلِي
وما الَّذِي أنْسانِيَ اسمِي فَلا
أذكُرُ ما اسمِي خالدٌ أمْ علي!
يتبع