عرض مشاركة واحدة
  #70  
قديم 23-09-2021, 12:01 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,030
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (68)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (23)
صـ 436 إلى صـ 440


وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : الْمُرَادُ بِالْكَلْبِ هُنَا هُوَ الْكَلْبُ الْمُتَعَارَفُ خَاصَّةً ، وَلَا يُلْحَقُ بِهِ فِي هَذَا الْحُكْمِ سِوَى الذِّئْبِ ، وَاحْتَجَّ الْجُمْهُورُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [ ص: 436 ] [ 5 \ 4 ] ، فَاشْتَقَّهَا مِنَ اسْمِ الْكَلْبِ ، وَبِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي وَلَدِ أَبِي لَهَبٍ : " اللَّهُمَّ سَلِّطْ عَلَيْهِ كَلْبًا مِنْ كِلَابِكَ ، فَقَتَلَهُ الْأَسَدُ " ، رَوَاهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : التَّحْقِيقُ أَنَّ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ لَيْسَتْ مِنَ الصَّيْدِ ، فَيَجُوزُ قَتْلُهَا لِلْمُحْرِمِ وَغَيْرِهِ فِي الْحَرَمِ وَغَيْرِهِ . لِمَا تَقَرَّرَ فِي الْأُصُولِ مِنْ أَنَّ الْعِلَّةَ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا ; لِأَنَّ قَوْلَهُ " الْعَقُورُ " عِلَّةٌ لِقَتْلِ الْكَلْبِ ، فَيُعْلَمُ مِنْهُ أَنَّ كُلَّ حَيَوَانٍ طَبْعُهُ الْعَقْرُ كَذَلِكَ .

وَلِذَا لَمْ يَخْتَلِفِ الْعُلَمَاءُ فِي أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ أَبِي بَكْرَةَ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهِ : " لَا يَقْضِيَنَّ حَكَمٌ بَيْنَ اثْنَيْنِ وَهُوَ غَضْبَانُ " ، أَنَّ هَذِهِ الْعِلَّةَ الَّتِي هِيَ فِي ظَاهِرِ الْحَدِيثِ الْغَضَبُ تُعَمِّمُ مَعْلُولَهَا فَيَمْتَنِعُ الْحُكْمُ لِلْقَاضِي بِكُلِّ مُشَوِّشٍ لِلْفِكْرِ ، مَانِعٍ مِنَ اسْتِيفَاءِ النَّظَرِ فِي الْمَسَائِلِ كَائِنًا مَا كَانَ غَضَبًا أَوْ غَيْرَهُ ، كَجُوعٍ وَعَطَشٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَحُزْنٍ وَسُرُورٍ مُفْرِطَيْنِ ، وَحَقْنٍ وَحَقَبٍ مُفْرِطَيْنِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ فِي " مَرَاقِي السُّعُودِ " قَوْلُهُ فِي مَبْحَثِ الْعِلَّةِ : [ الرَّجَزُ ]


وَقَدْ تُخَصَّصُ وَقَدْ تُعَمَّمُ لِأَصْلِهَا لَكِنَّهَا لَا تُخْرَمُ


وَيَدُلُّ لِهَذَا مَا أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَمَّا يَقْتُلُ الْمُحْرِمُ فَقَالَ : " الْحَيَّةُ ، وَالْعَقْرَبُ ، وَالْفُوَيْسِقَةُ ، وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ ، وَالْكَلْبُ الْعَقُورُ ، وَالْحِدَأَةُ ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ " ، وَهَذَا الْحَدِيثُ حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ .

وَضَعَّفَ ابْنُ كَثِيرٍ رِوَايَةَ يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادٍ ، وَقَالَ فِيهِ ابْنُ حَجَرٍ فِي " التَّلْخِيصِ " فِيهِ يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ ، وَهُوَ ضَعِيفٌ ، وَفِيهِ لَفْظَةٌ مُنْكَرَةٌ وَهِيَ قَوْلُهُ : " وَيَرْمِي الْغُرَابَ وَلَا يَقْتُلُهُ " ، وَقَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : إِنْ صَحَّ هَذَا الْخَبَرُ حُمِلَ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ لَا يُتَأَكَّدُ نَدْبُ قَتْلِ الْغُرَابِ كَتَأْكِيدِ قَتْلِ الْحَيَّةِ وَغَيْرِهَا .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : تَضْعِيفُ هَذَا الْحَدِيثِ ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ مُتَعَقَّبٌ مِنْ وَجْهَيْنِ :

الْأَوَّلُ : أَنَّهُ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ ; لِأَنَّ يَزِيدَ بْنَ أَبِي زِيَادٍ مِنْ رِجَالِ صَحِيحِهِ وَأَخْرَجَ لَهُ الْبُخَارِيُّ تَعْلِيقًا ، وَمَنْعُ الِاحْتِجَاجِ بِحَدِيثٍ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ لَا يَخْلُو مِنْ نَظَرٍ ، وَقَدْ ذَكَرَ مُسْلِمٌ فِي مُقَدِّمَةِ " صَحِيحِهِ " ، أَنَّ مَنْ أَخْرَجَ حَدِيثَهُمْ فِي غَيْرِ الشَّوَاهِدِ وَالْمُتَابَعَاتِ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ قَبُولُ الرِّوَايَةِ فَيَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ عِنْدَ مُسْلِمٍ مَقْبُولُ الرِّوَايَةِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ [ ص: 437 ] الْعِرَاقِيُّ فِي أَلْفِيَّتِهِ : [ الرَّجَزُ ]


فَاحْتَاجَ أَنْ يَنْزِلَ فِي الْإِسْنَادِ إِلَى يَزِيدَ بْنِ أَبِي زِيَادِ


الْوَجْهُ الثَّانِي : أَنَّا لَوْ فَرَضْنَا ضَعْفَ هَذَا الْحَدِيثِ ، فَإِنَّهُ يُقَوِّيهِ مَا ثَبَتَ مِنَ الْأَحَادِيثِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا مِنْ جَوَازِ قَتْلِ الْكَلْبِ الْعَقُورِ فِي الْإِحْرَامِ وَفِي الْحَرَمِ ، وَالسَّبُعُ الْعَادِيُّ إِمَّا أَنْ يَدْخُلَ فِي الْمُرَادِ بِهِ ، أَوْ يُلْحَقَ بِهِ إِلْحَاقًا صَحِيحًا لَا مِرَاءَ فِيهِ ، وَمَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مِنْ أَنَّ الْكَلْبَ الْعَقُورَ يُلْحَقُ بِهِ الذِّئْبُ فَقَطْ ; لِأَنَّهُ أَشْبَهُ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ لَا يَظْهَرُ ; لِأَنَّهُ لَا شَكَّ فِي أَنَّ فَتْكَ الْأَسَدِ وَالنَّمِرِ مَثَلًا ، أَشَدُّ مِنْ عَقْرِ الْكَلْبِ وَالذِّئْبِ ، وَلَيْسَ مِنَ الْوَاضِحِ أَنْ يُبَاحَ قَتْلُ ضَعِيفِ الضَّرَرِ ، وَيُمْنَعَ قَتْلُ قَوِيِّهِ ; لِأَنَّ فِيهِ عِلَّةَ الْحُكْمِ وَزِيَادَةً ، وَهَذَا النَّوْعُ مِنَ الْإِلْحَاقِ مِنْ دَلَالَةِ اللَّفْظِ عِنْدَ أَكْثَرِ أَهْلِ الْأُصُولِ ، لَا مِنَ الْقِيَاسِ ، خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ وَقَوْمٍ ، كَمَا قَدَّمْنَا فِي سُورَةِ النِّسَاءِ .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ مَا نَصُّهُ : قُلْتُ : الْعَجَبُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - يَحْمِلُ التُّرَابَ عَلَى الْبُرِّ بِعِلَّةِ الْكَيْلِ ، وَلَا يَحْمِلُ السِّبَاعَ الْعَادِيَّةَ عَلَى الْكَلْبِ بِعِلَّةِ الْفِسْقِ وَالْعَقْرِ ، كَمَا فَعَلَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، رَحِمَهُمَا اللَّهُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الصَّيْدَ عِنْدَ الشَّافِعِيِّ هُوَ مَأْكُولُ اللَّحْمِ فَقَطْ ، فَلَا شَيْءَ عِنْدَهُ فِي قَتْلٍ مَا لَمْ يُؤْكَلْ لَحْمُهُ ، وَالصِّغَارُ مِنْهُ وَالْكِبَارُ عِنْدَهُ سَوَاءٌ ، إِلَّا الْمُتَوَلِّدَ مِنْ بَيْنِ مَأْكُولِ اللَّحْمِ وَغَيْرِ مَأْكُولِهِ ، فَلَا يَجُوزُ اصْطِيَادُهُ عِنْدَهُ ، وَإِنْ كَانَ يَحْرُمُ أَكْلُهُ ، كَالسَّمْعِ وَهُوَ الْمُتَوَلِّدُ مِنْ بَيْنِ الذِّئْبِ وَالضَّبُعِ ، وَقَالَ : لَيْسَ فِي الرَّخَمَةِ ، وَالْخَنَافِسِ ، وَالْقِرْدَانِ ، وَالْحَلَمِ ، وَمَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّ هَذَا لَيْسَ مِنَ الصَّيْدِ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا [ 5 \ 96 ] ، فَدَلَّ أَنَّ الصَّيْدَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْهِمْ ، هُوَ مَا كَانَ حَلَالًا لَهُمْ قَبْلَ الْإِحْرَامِ ، وَهَذَا هُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِ أَحْمَدَ .

أَمَّا مَالِكٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَذَهَبَ إِلَى أَنَّ كُلَّ مَا لَا يَعْدُو مِنَ السِّبَاعِ ، كَالْهِرِّ ، وَالثَّعْلَبِ ، وَالضَّبُعِ وَمَا أَشْبَهَهَا ، لَا يَجُوزُ قَتْلُهُ . فَإِنْ قَتَلَهُ فَدَاهُ ، قَالَ : وَصِغَارُ الذِّئَابِ لَا أَرَى أَنْ يَقْتُلَهَا الْمُحْرِمِ ، فَإِنْ قَتَلَهَا فَدَاهَا ، وَهِيَ مِثْلُ فِرَاخِ الْغِرْبَانِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : أَمَّا الضَّبُعُ فَلَيْسَتْ مِثْلَ مَا ذُكِرَ مَعَهَا لِوُرُودِ النَّصِّ فِيهَا ، دُونَ غَيْرِهَا ; بِأَنَّهَا صَيْدٌ يَلْزَمُ فِيهِ الْجَزَاءُ ، كَمَا سَيَأْتِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَلَمْ يُجِزْ مَالِكٌ لِلْمُحْرِمِ قَتْلَ الزُّنْبُورِ ، وَكَذَلِكَ النَّمْلُ ، وَالذُّبَابُ ، وَالْبَرَاغِيثُ ، وَقَالَ : [ ص: 438 ] إِنْ قَتَلَهَا مُحْرِمٌ يُطْعِمُ شَيْئًا ، وَثَبَتَ عَنْ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - إِبَاحَةُ قَتْلِ الزُّنْبُورِ ، وَبَعْضُ الْعُلَمَاءِ شَبَّهَهُ بِالْعَقْرَبِ ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ : إِذَا ابْتَدَأَ بِالْأَذَى جَازَ قَتْلُهُ ، وَإِلَّا فَلَا ، وَأَقْيَسُهَا مَا ثَبَتَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ; لِأَنَّهُ مِمَّا طَبِيعَتُهُ أَنْ يُؤْذِيَ .

وَقَدْ قَدَّمْنَا عَنِ الشَّافِعِيِّ ، وَأَحْمَدَ ، وَغَيْرِهِمْ أَنَّهُ لَا شَيْءَ فِي غَيْرِ الصَّيْدِ الْمَأَكُولِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ .
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ إِذَا صَادَ الصَّيْدَ الْمُحَرَّمَ عَلَيْهِ ، فَعَلَيْهِ جَزَاؤُهُ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلَكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [ 5 \ 95 ] .

اعْلَمْ أَوَّلًا أَنَّ الْمُرَادَ بِقَوْلِهِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ قَتْلَهُ ، ذَاكِرٌ إِحْرَامَهُ ، كَمَا هُوَ صَرِيحُ الْآيَةِ . وَقَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ .

وَمَا فَسَّرَهُ بِهِ مُجَاهِدٌ ، مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ لِقَتْلِهِ نَاسٍ لِإِحْرَامِهِ ، مُسْتَدِلًّا بِقَوْلِهِ تَعَالَى بَعْدَهُ : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ ، قَالَ : لَوْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ; لَوَجَبَتْ عَلَيْهِ الْعُقُوبَةُ لِأَوَّلِ مَرَّةٍ ، وَقَالَ : إِنْ كَانَ ذَاكِرًا لِإِحْرَامِهِ ، فَقَدْ بَطَلَ حَجُّهُ لِارْتِكَابِهِ مَحْظُورَ الْإِحْرَامِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ ، وَلَا ظَاهِرٌ لِمُخَالَفَتِهِ ظَاهِرَ الْقُرْآنِ بِلَا دَلِيلٍ ; وَلِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدٌ ارْتِكَابَ الْمَحْظُورِ ، وَالنَّاسِي لِلْإِحْرَامِ غَيْرُ مُتَعَمِّدٍ مَحْظُورًا .

إِذَا عَلِمْتَ ذَلِكَ ، فَاعْلَمْ أَنَّ قَاتِلَ الصَّيْدِ مُتَعَمِّدًا ، عَالِمًا بِإِحْرَامِهِ ، عَلَيْهِ الْجَزَاءُ الْمَذْكُورُ فِي الْآيَةِ ، بِنَصِّ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ ، خِلَافًا لِمُجَاهِدٍ ، وَلَمْ يَذْكُرِ اللَّهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حُكْمَ النَّاسِي ، وَالْمُخْطِئِ .

وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا : أَنَّ النَّاسِيَ هُوَ مَنْ يَقْصِدُ قَتْلَ الصَّيْدِ نَاسِيًا إِحْرَامَهُ ، وَالْمُخْطِئُ هُوَ مَنْ يَرْمِي غَيْرَ الصَّيْدِ ، كَمَا لَوْ رَمَى غَرَضًا فَيَقْتُلُ الصَّيْدَ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ لِقَتْلِهِ .

وَلَا خِلَافَ بَيْنِ الْعُلَمَاءِ أَنَّهُمَا لَا إِثْمَ عَلَيْهِمَا ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ الْآيَةَ [ 33 \ 5 ] ، وَلِمَا قَدَّمْنَا فِي " صَحِيحٍ مُسْلِمٍ " : " أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمَّا [ ص: 439 ] قَرَأَ : رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ 2 \ 286 ] ، أَنَّ اللَّهَ قَالَ : قَدْ فَعَلْتُ " .

أَمَّا وُجُوبُ الْجَزَاءِ عَلَيْهِمَا فَاخْتَلَفَ فِيهِ الْعُلَمَاءُ .

فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ : مِنْهُمُ الْمَالِكِيَّةُ ، وَالْحَنَفِيَّةُ ، وَالشَّافِعِيَّةُ إِلَى وُجُوبِ الْجَزَاءِ فِي الْخَطَإِ ، وَالنِّسْيَانِ ; لِدَلَالَةِ الْأَدِلَّةِ عَلَى أَنَّ غُرْمَ الْمَتْلَفَاتِ لَا فَرْقَ فِيهِ بَيْنَ الْعَامِدِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ ، وَقَالُوا : لَا مَفْهُومَ مُخَالَفَةٍ لِقَوْلِهِ مُتَعَمِّدًا ; لِأَنَّهُ جَرْيٌ عَلَى الْغَالِبِ ، إِذِ الْغَالِبُ أَلَّا يَقْتُلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ إِلَّا عَامِدًا ، وَجَرَى النَّصُّ عَلَى الْغَالِبِ مِنْ مَوَانِعِ اعْتِبَارِ دَلِيلِ خِطَابِهِ ، أَعْنِي مَفْهُومَ مُخَالَفَتِهِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " فِي مَوَانِعِ اعْتِبَارِ مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ : [ الرَّجَزُ ]


أَوْ جَهِلَ الْحُكْمَ أَوِ النُّطْقُ انْجَلَبْ لِلسُّؤْلِ أَوْ جَرَى عَلَى الَّذِي غَلَبْ


وَلِذَا لَمْ يَعْتَبِرْ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ [ 4 \ 23 ] ; لِجَرْيهِ عَلَى الْغَالِبِ ، وَقَالَ بَعْضُ مَنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ ، كَالزُّهْرِيِّ : وَجَبَ الْجَزَاءُ فِي الْعَمْدِ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَفِي الْخَطَإِ وَالنِّسْيَانِ بِالسُّنَّةِ ، قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ : إِنْ كَانَ يُرِيدُ بِالسُّنَّةِ الْآثَارَ الَّتِي وَرَدَتْ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعُمَرَ فَنِعِمَّا هِيَ ، وَمَا أَحْسَنَهَا أُسْوَةً .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ : بِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُئِلَ عَنِ الضَّبُعِ ، فَقَالَ : " هِيَ صَيْدٌ " ، وَجَعَلَ فِيهَا إِذَا أَصَابَهَا الْمُحْرِمُ كَبْشًا ، وَلَمْ يَقُلْ عَمْدًا وَلَا خَطَأً ، فَدَلَّ عَلَى الْعُمُومِ ، وَقَالَ ابْنُ بُكَيْرٍ مِنْ عُلَمَاءِ الْمَالِكِيَّةِ : قَوْلُهُ سُبْحَانَهُ : مُتَعَمِّدًا ، لَمْ يُرِدْ بِهِ التَّجَاوُزَ عَنِ الْخَطَإِ ، وَذِكْرُ التَّعَمُّدِ لِبَيَانِ أَنَّ الصَّيْدَ لَيْسَ كَابْنِ آدَمَ الَّذِي لَيْسَ فِي قَتْلِهِ عَمْدًا كَفَّارَةٌ .

وَقَالَ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " : إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ بِوُجُوبِ الْجَزَاءِ عَلَى الْمُخْطِئِ ، وَالنَّاسِي ، وَالْعَامِدِ ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ، وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَطَاوُسٍ ، وَالْحَسَنِ ، وَإِبْرَاهِيمَ ، وَالزُّهْرِيِّ ، وَبِهِ قَالَ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُمْ .

وَذَهَبَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ النَّاسِيَ ، وَالْمُخْطِئَ لَا جَزَاءَ عَلَيْهِمَا ، وَبِهِ قَالَ الطَّبَرَيُّ ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ فِي إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ ، وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ مَذْهَبُ دَاوُدَ ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَطَاوُسٍ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَمْرَيْنِ :

[ ص: 440 ] الْأَوَّلُ : مَفْهُومُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ غَيْرَ الْمُتَعَمِّدِ لَيْسَ كَذَلِكَ .

الثَّانِي : أَنَّ الْأَصْلَ بَرَاءَةُ الذِّمَّةِ ، فَمَنِ ادَّعَى شَغْلَهَا ، فَعَلَيْهِ الدَّلِيلُ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْقَوْلُ قَوِيٌّ جِدًّا مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ وَالدَّلِيلِ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : إِذَا صَادَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ ، فَأَكَلَ مِنْهُ ، فَعَلَيْهِ جَزَاءٌ وَاحِدٌ لِقَتْلِهِ ، وَلَيْسَ فِي أَكْلِهِ إِلَّا التَّوْبَةُ وَالِاسْتِغْفَارُ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْآيَةِ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ الْقَائِلِ بِأَنَّ عَلَيْهِ أَيْضًا جَزَاءَ مَا أَكَلَ ، يَعْنِي قِيمَتَهُ ، قَالَ الْقُرْطُبِيُّ : وَخَالَفَهُ صَاحِبَاهُ فِي ذَلِكَ ، وَيُرْوَى مِثْلُ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ عَطَاءٍ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : إِذَا قَتَلَ الْمُحْرِمُ الصَّيْدَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ ، حُكِمَ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ فِي كُلِّ مَرَّةٍ ، فِي قَوْلِ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ مِنْهُمْ مَالِكٌ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَغَيْرُهُمْ ، وَهُوَ ظَاهِرُ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا الْآيَةَ ; لِأَنَّ تَكْرَارَ الْقَتْلِ يَقْتَضِي تَكْرَارَ الْجَزَاءِ ، وَقَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : لَا يُحْكَمُ عَلَيْهِ بِالْجَزَاءِ إِلَّا مَرَّةً وَاحِدَةً ، فَإِنْ عَادَ لِقَتْلِهِ مَرَّةً ثَانِيَةً لَمْ يُحْكَمْ عَلَيْهِ ، وَقِيلَ لَهُ : يَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْكَ ; لِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ .

وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ ، وَإِبْرَاهِيمُ ، وَمُجَاهِدٌ ، وَشُرَيْحٌ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَيْضًا أَنَّهُ يَضْرِبُ حَتَّى يَمُوتَ .
الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةُ : إِذَا دَلَّ الْمُحْرِمُ حَلَالًا عَلَى صَيْدٍ فَقَتَلَهُ ، فَهَلْ يَجِبُ عَلَى الْمُحْرِمِ جَزَاءٌ ; لِتَسَبُّبِهِ فِي قَتْلِ الْحَلَالِ لِلصَّيْدِ بِدَلَالَتِهِ لَهُ عَلَيْهِ أَوْ لَا ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَذَهَبَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ إِلَى أَنَّ الْمُحْرِمَ الدَّالَّ يَلْزَمُهُ جَزَاؤُهُ كَامِلًا ، وَيُرْوَى نَحْوُ ذَلِكَ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَعَطَاءٍ ، وَمُجَاهِدٍ ، وَبَكْرٍ الْمُزَنِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَيَدُلُّ لِهَذَا الْقَوْلِ سُؤَالُ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَصْحَابَهُ : " هَلْ أَشَارَ أَحَدٌ مِنْهُمْ إِلَى أَبِي قَتَادَةَ عَلَى الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ؟ " .




__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 33.67 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.04 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.87%)]