عرض مشاركة واحدة
  #68  
قديم 22-09-2021, 11:59 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,835
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (66)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (21)
صـ 426 إلى صـ 430


وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَمُرَةَ : " يَا عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ سَمُرَةَ ، لَا تَسْأَلِ الْإِمَارَةَ ، فَإِنَّكَ إِنْ أُعْطِيتَهَا مِنْ غَيْرِ مَسْأَلَةٍ أُعِنْتَ عَلَيْهَا ، وَإِنْ أُعْطِيتَهَا عَنْ مَسْأَلَةٍ وُكِلْتَ إِلَيْهَا ، وَإِذَا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرَأَيْتَ غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا فَأْتِ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ ، وَكَفِّرْ عَنْ يَمِينِكَ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ أَيْضًا ، وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ . وَهَذَا هُوَ الْحَقُّ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافًا لِمَنْ قَالَ : [ ص: 426 ] كَفَّارَتُهَا تَرْكُهَا مُتَمَسِّكًا بِأَحَادِيثَ وَرَدَتْ فِي ذَلِكَ ، قَالَ أَبُو دَاوُدَ : وَالْأَحَادِيثُ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كُلُّهَا : " فَلْيُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهِ " ، وَهِيَ الصِّحَاحُ ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .

قَوْلُهُ تَعَالَى : تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ، لَمْ يُقَيِّدْ هُنَا رَقَبَةٍ كَفَّارَةَ الْيَمِينِ بِالْإِيمَانِ ، وَقَيَّدَ بِهِ كَفَّارَةَ الْقَتْلِ خَطَأً .

وَهَذِهِ مِنْ مَسَائِلِ الْمُطْلَقِ وَالْمُقَيَّدِ فِي حَالَةِ اتِّفَاقِ الْحُكْمِ ، مَعَ اخْتِلَافِ السَّبَبِ ، وَكَثِيرٌ مِنَ الْعُلَمَاءِ يَقُولُونَ فِيهِ بِحَمْلِ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، فَتَقَيُّدُ رَقَبَةِ الْيَمِينِ وَالظِّهَارِ بِالْقَيْدِ الَّذِي فِي رَقَبَةِ الْقَتْلِ خَطَأً ، حَمْلًا لِلْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ أَبُو حَنِيفَةَ وَمَنْ وَافَقَهُ .

وَقَدْ أَوْضَحْنَا هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ فِي كِتَابِنَا " دَفْعِ إِيهَامِ الِاضْطِرَابِ " ، فِي سُورَةِ النِّسَاءِ عِنْدَ قَوْلِهِ تَعَالَى : فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ [ 4 \ 92 ] ; وَلِذَلِكَ لَمْ نُطِلِ الْكَلَامَ بِهَا هُنَا ، وَالْمُرَادُ بِالتَّحْرِيرِ الْإِخْرَاجُ مِنَ الرِّقِّ ، وَرُبَّمَا اسْتَعْمَلَتْهُ الْعَرَبُ فِي الْإِخْرَاجِ مِنَ الْأَسْرِ ، وَالْمَشَقَّاتِ ، وَتَعَبِ الدُّنْيَا وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَمِنْهُ قَوْلُ وَالِدَةِ مَرْيَمَ : إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا [ 3 \ 35 ] ، أَيْ مِنْ تَعَبِ أَعْمَالِ الدُّنْيَا ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْفَرَزْدَقِ هَمَّامِ بْنِ غَالِبٍ التَّمِيمِيِّ : [ الْكَامِلُ ]


أَبَنِي غُدَانَةَ إِنَّنِي حَرَّرْتُكُمْ فَوَهَبْتُكُمْ لِعَطِيَّةَ بْنِ جِعَالِ


يَعْنِي حَرَّرْتُكُمْ مِنَ الْهِجَاءِ ، فَلَا أَهْجُوكُمْ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ الْآيَةَ .

يُفْهَمُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ ; لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ إِنَّهَا : رِجْسٌ ، وَالرِّجْسُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ كُلُّ مُسْتَقْذَرٍ تَعَافُّهُ النَّفْسُ .

وَقِيلَ : إِنَّ أَصْلَهُ مِنَ الرَّكْسِ ، وَهُوَ الْعُذْرَةُ وَالنَّتْنُ . قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : وَيَدُلُّ لِهَذَا مَفْهُومُ الْمُخَالَفَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى فِي شَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ : وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [ 76 \ 21 ] ; لِأَنَّ وَصْفَهُ لِشَرَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ بِأَنَّهُ طَهُورٌ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ خَمْرَ الدُّنْيَا لَيْسَتْ كَذَلِكَ ، وَمِمَّا يُؤَيِّدُ هَذَا أَنَّ كُلَّ الْأَوْصَافِ الَّتِي مَدَحَ بِهَا تَعَالَى خَمْرَ الْآخِرَةِ مَنْفِيَّةٌ عَنْ خَمْرِ الدُّنْيَا ، كَقَوْلِهِ : لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ [ 37 \ 47 ] ، وَكَقَوْلِهِ : لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ [ 56 \ 19 ] ، بِخِلَافِ خَمْرِ الدُّنْيَا فَفِيهَا غَوْلٌ يَغْتَالُ الْعُقُولَ [ ص: 427 ] وَأَهْلُهَا يُصَدَّعُونَ ، أَيْ يُصِيبُهُمُ الصُّدَاعُ الَّذِي هُوَ وَجَعُ الرَّأْسِ بِسَبَبِهَا ، وَقَوْلُهُ : لَا يُنْزَفُونَ ، عَلَى قِرَاءَةِ فَتْحِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْمَفْعُولِ ، فَمَعْنَاهُ : أَنَّهُمْ لَا يَسْكَرُونَ ، وَالنَّزِيفُ السَّكْرَانُ ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ : [ الطَّوِيلُ ]


نَزِيفٌ تَرَى رَدْعَ الْعَبِيرِ يُجِيبُهَا كَمَا ضَرَّجَ الضَّارِي النَّزِيفَ الْمُكْلَمَا


يَعْنِي أَنَّهَا فِي ثِقَلِ حَرَكَتِهَا كَالسَّكْرَانِ ، وَأَنَّ حُمْرَةَ الْعَبِيرِ الَّذِي هُوَ الطِّيبُ فِي جَيْبِهَا كَحُمْرَةِ الدَّمِ عَلَى الطَّرِيدِ الَّذِي ضَرَّجَهُ الْجَوَارِحُ بِدَمِهِ ، فَأَصَابَهُ نَزِيفُ الدَّمِ مِنْ جُرْحِ الْجَوَارِحِ لَهُ ، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الْمُتَقَارِبُ ]


وَإِذْ هِيَ تَمْشِي كَمَشْيِ النَّزِيفِ يَصْرَعُهُ بِالْكَثِيبِ الْبُهُرْ


وَقَوْلُهُ أَيْضًا : [ الطَّوِيلُ ]


نَزِيفٌ إِذَا قَامَتْ لِوَجْهٍ تَمَايَلَتْ تُرَاشِي الْفُؤَادَ الرَّخْصَ أَلَّا تَخْتَرَا


وَقَوْلُ ابْنِ أَبِي رَبِيعَةَ أَوْ جَمِيلٍ : [ الْكَامِلُ ]


فَلَثَمَتْ فَاهَا آخِذًا بِقُرُونِهَا شُرْبَ النَّزِيفِ بِبَرْدِ مَاءِ الْحَشْرَجِ


وَعَلَى قِرَاءَةِ يَنْزِفُونَ بِكَسْرِ الزَّايِ مَبْنِيًّا لِلْفَاعِلِ ، فَفِيهِ وَجْهَانِ مِنَ التَّفْسِيرِ لِلْعُلَمَاءِ :

أَحَدُهُمَا : أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا حَانَ مِنْهُمُ النُّزْفُ وَهُوَ السُّكْرُ ، وَنَظِيرُهُ قَوْلُهُمْ : أَحْصَدَ الزَّرْعُ إِذَا حَانَ حَصَادُهُ ، وَأَقْطَفَ الْعِنَبُ إِذَا حَانَ قِطَافُهُ ، وَهَذَا الْقَوْلُ مَعْنَاهُ رَاجِعٌ إِلَى الْأَوَّلِ .

وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ أَنْزَفَ الْقَوْمُ إِذَا فَنِيَتْ خُمُورُهُمْ ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْحُطَيْئَةِ : [ الطَّوِيلُ ]


لَعَمْرِي لَئِنْ أَنْزَفْتُمُوا أَوْ صَحَوْتُمُوا لَبِئْسَ النَّدَامَى أَنْتُمْ آلٌ أَبْجَرَا


وَجَمَاهِيرُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ الْخَمْرَ نَجِسَةُ الْعَيْنِ لِمَا ذَكَرْنَا ، وَخَالَفَ فِي ذَلِكَ رَبِيعَةُ ، وَاللَّيْثُ ، وَالْمُزَنِيُّ صَاحِبُ الشَّافِعِيِّ ، وَبَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنَ الْبَغْدَادِيِّينَ وَالْقَرَوِيِّينَ ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ فِي " تَفْسِيرِهِ " .

وَاسْتَدَلُّوا لِطَهَارَةِ عَيْنِهَا بِأَنَّ الْمَذْكُورَاتِ مَعَهَا فِي الْآيَةِ مِنْ مَالِ مَيْسِرٍ ، وَمَالِ قِمَارٍ ، وَأَنْصَابٍ ، وَأَزْلَامٍ لَيْسَتْ نَجِسَةَ الْعَيْنِ ، وَإِنْ كَانَتْ مُحَرَّمَةَ الِاسْتِعْمَالِ .

[ ص: 428 ] وَأُجِيبَ مِنْ جِهَةِ الْجُمْهُورِ بِأَنَّ قَوْلَهُ : رِجْسٌ ، يَقْتَضِي نَجَاسَةَ الْعَيْنِ فِي الْكُلِّ ، فَمَا أَخْرَجَهُ إِجْمَاعٌ ، أَوْ نَصٌّ خَرَجَ بِذَلِكَ ، وَمَا لَمْ يُخْرِجْهُ نَصٌّ وَلَا إِجْمَاعٌ لَزِمَ الْحُكْمُ بِنَجَاسَتِهِ ; لِأَنَّ خُرُوجَ بَعْضِ مَا تَنَاوَلَهُ الْعَامُّ بِمُخَصِّصٍ مِنَ الْمُخَصِّصَاتِ ، لَا يَسْقُطُ الِاحْتِجَاجُ بِهِ فِي الْبَاقِي ، كَمَا هُوَ مُقَرَّرٌ فِي الْأُصُولِ ، وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِ صَاحِبِ " مَرَاقِي السُّعُودِ " : [ الرَّجَزُ ]


وَهُوَ حُجَّةٌ لَدَى الْأَكْثَرِ إِنْ مُخَصِّصٌ لَهُ مُعَيِّنًا يَبِنْ


وَعَلَى هَذَا ، فَالْمُسْكِرُ الَّذِي عَمَّتِ الْبَلْوَى الْيَوْمَ بِالتَّطَيُّبِ بِهِ الْمَعْرُوفُ فِي اللِّسَانِ الدَّارِجِيِّ بِالْكُولَانْيَا نَجَسٌ لَا تَجُوزُ الصَّلَاةُ بِهِ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى فِي الْمُسْكِرِ : فَاجْتَنِبُوهُ ، يَقْتَضِي الِاجْتِنَابَ الْمُطْلَقَ الَّذِي لَا يُنْتَفَعُ مَعَهُ بِشَيْءٍ مِنَ الْمُسْكِرِ ، وَمَا مَعَهُ فِي الْآيَةِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ ، كَمَا قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : لَا يَخْفَى عَلَى مُنْصِفٍ أَنَّ التَّضَمُّخَ بِالطِّيبِ الْمَذْكُورِ ، وَالتَّلَذُّذَ بِرِيحِهِ وَاسْتَطَابَتَهُ ، وَاسْتِحْسَانَهُ مَعَ أَنَّهُ مُسْكِرٌ ، وَاللَّهُ يُصَرِّحُ فِي كِتَابِهِ بِأَنَّ الْخَمْرَ رِجْسٌ فِيهِ مَا فِيهِ ، فَلَيْسَ لِلْمُسْلِمِ أَنْ يَتَطَيَّبَ بِمَا يَسْمَعُ رَبَّهُ يَقُولُ فِيهِ : إِنَّهُ رِجْسٌ ، كَمَا هُوَ وَاضِحٌ ، وَيُؤَيِّدُهُ أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَمَرَ بِإِرَاقَةِ الْخَمْرِ فَلَوْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ أُخْرَى لَبَيَّنَهَا ، كَمَا بَيَّنَ جَوَازَ الِانْتِفَاعِ بِجُلُودِ الْمَيْتَةِ ، وَلَمَا أَرَاقَهَا .

وَاعْلَمْ أَنَّ مَا اسْتَدَلَّ بِهِ سَعِيدُ بْنُ الْحَدَّادِ الْقَرَوِيُّ عَلَى طَهَارَةِ عَيْنِ الْخَمْرِ بِأَنَّ الصَّحَابَةَ أَرَاقُوهَا فِي طُرُقِ الْمَدِينَةِ ; وَلَوْ كَانَتْ نَجِسَةً لَمَا فَعَلُوا ذَلِكَ ; وَلَنَهَاهُمُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَنْ ذَلِكَ ، كَمَا نَهَاهُمْ عَنِ التَّخَلِّي فِي الطُّرُقِ ، لَا دَلِيلَ لَهُ فِيهِ ، فَإِنَّهَا لَا تَعُمُّ الطُّرُقَ ، بَلْ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا ، لِأَنَّ الْمَدِينَةَ كَانَتْ وَاسِعَةً ، وَلَمْ تَكُنِ الْخَمْرُ كَثِيرَةً جِدًّا بِحَيْثُ تَكُونُ نَهَرًا أَوْ سَيْلًا فِي الطُّرُقِ يَعُمُّهَا كُلَّهَا ، وَإِنَّمَا أُرِيقَتْ فِي مَوَاضِعَ يَسِيرَةٍ يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ مِنْهَا ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ ، وَهُوَ ظَاهِرٌ .
قَوْلُهُ تَعَالَى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ، هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ يُفْهَمُ مِنْ دَلِيلِ خِطَابِهَا ، أَيْ مَفْهُومِ مُخَالَفَتِهَا ، أَنَّهُمْ إِنْ حَلُّوا مِنْ إِحْرَامِهِمْ جَازَ لَهُمْ قَتْلُ الصَّيْدِ ، وَهَذَا الْمَفْهُومُ مُصَرَّحٌ بِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى : وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا [ 5 \ 2 ] ، يَعْنِي إِنْ شِئْتُمْ ، كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ فِي أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ الْكَرِيمَةِ .

قَوْلُهُ تَعَالَى : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا ، الْآيَةَ .

[ ص: 429 ] ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى أَنَّ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ ذَاكِرًا حَرَامَهُ ، وَخَالَفَ مُجَاهِدٌ - رَحِمَهُ اللَّهُ - الْجُمْهُورَ قَائِلًا : إِنَّ مَعْنَى الْآيَةِ : وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا لِقَتْلِهِ فِي حَالِ كَوْنِهِ نَاسِيًا لِإِحْرَامِهِ ، وَاسْتَدَلَّ لِذَلِكَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ [ 5 \ 95 ] ، كَمَا سَيَأْتِي إِيضَاحُهُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى .

وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي تَرْجَمَةِ هَذَا الْكِتَابِ أَنَّ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَيَانِ الَّتِي تَضَمَّنَهَا أَنْ يَقُولَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي الْآيَةِ قَوْلًا ، وَيَكُونُ فِيهَا قَرِينَةٌ دَالَّةٌ عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ ذَلِكَ الْقَوْلِ ، وَإِذَا عَرَفْتَ ذَلِكَ فَاعْلَمْ أَنَّ فِي الْآيَةِ قَرِينَةً وَاضِحَةً دَالَّةً عَلَى عَدَمِ صِحَّةِ قَوْلِ مُجَاهِدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَهِيَ قَوْلُهُ تَعَالَى : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ ، فَإِنَّهُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ مُتَعَمِّدًا أَمْرًا لَا يَجُوزُ ، أَمَّا النَّاسِي فَهُوَ غَيْرُ آثِمٍ إِجْمَاعًا ، فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ يُقَالَ فِيهِ : لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ [ 5 \ 95 ] ، كَمَا تَرَى ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .
قَوْلُهُ تَعَالَى : أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ، الْآيَةَ .

ظَاهِرُ عُمُومِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَشْمَلُ إِبَاحَةَ صَيْدِ الْبَحْرِ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ ، وَهُوَ كَذَلِكَ ، كَمَا بَيَّنَهُ تَخْصِيصُهُ تَعَالَى تَحْرِيمَ الصَّيْدِ عَلَى الْمُحْرِمِ بِصَيْدِ الْبَرِّ فِي قَوْلِهِ : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ [ 5 \ 96 ] ، فَإِنَّهُ يُفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ صَيْدَ الْبَحْرِ لَا يَحْرُمُ عَلَى الْمُحْرِمِ ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

مَسَائِلُ تَتَعَلَّقُ بِالِاصْطِيَادِ

فِي الْإِحْرَامِ أَوْ فِي الْحَرَمِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : أَجْمَعَ الْعُلَمَاءُ عَلَى مَنْعِ صَيْدِ الْبَرِّ لِلْمُحْرِمِ بِحَجٍّ أَوْ عُمْرَةٍ .

وَهَذَا الْإِجْمَاعُ فِي مَأْكُولِ اللَّحْمِ الْوَحْشِيِّ كَالظَّبْيِ ، وَالْغَزَالِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الصَّيْدِ وَالدَّلَالَةُ عَلَيْهِ ، لِمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ أَبِي قَتَادَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّهُ كَانَ مَعَ قَوْمٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَهُوَ حَلَالٌ وَهُمْ مُحْرِمُونَ ، وَرَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُحْرِمٌ أَمَامَهُمْ ، فَأَبْصَرُوا حِمَارًا وَحْشِيًّا وَأَبُو قَتَادَةَ مَشْغُولٌ يَخْصِفُ نَعْلَهُ فَلَمْ يُؤْذُنُوهُ ، وَأَحَبُّوا لَوْ أَنَّهُ أَبْصَرَهُ فَأَبْصَرَهُ فَأَسْرَجَ فَرَسَهُ ; ثُمَّ رَكِبَ وَنَسِيَ سَوْطَهُ وَرُمْحَهُ فَقَالَ لَهُمْ : نَاوِلُونِي السَّوْطَ وَالرُّمْحَ ، فَقَالُوا : وَاللَّهِ لَا نُعِينُكَ عَلَيْهِ ، فَغَضِبَ فَنَزَلَ [ ص: 430 ] فَأَخَذَهُمَا فَرَكِبَ فَشَدَّ عَلَى الْحِمَارِ فَعَقَرَهُ ثُمَّ جَاءَ بِهِ وَقَدْ مَاتَ ، فَوَقَعُوا فِيهِ يَأْكُلُونَهُ ، ثُمَّ إِنَّهُمْ شَكُّوا فِي أَكْلِهِمْ إِيَّاهُ وَهُمْ حُرُمٌ ، فَأَدْرَكُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَسَأَلُوهُ فَقَرَّرَهُمْ عَلَى أَكْلِهِ ، وَنَاوَلَهُ أَبُو قَتَادَةَ عَضُدَ الْحِمَارِ الْوَحْشِيِّ ، فَأَكَلَ مِنْهَا - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَلِمُسْلِمٍ : " هَلْ أَشَارَ إِلَيْهِ إِنْسَانٌ أَوْ أَمَرَهُ بِشَيْءٍ " ، قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوهُ " .

وَلِلْبُخَارِيِّ : " هَلْ مِنْكُمْ أَحَدٌ أَمَرَهُ أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهَا " ، أَوْ " أَشَارَ إِلَيْهَا " قَالُوا : لَا ، قَالَ : " فَكُلُوا مَا بَقِيَ مِنْ لَحْمِهَا " ، وَقَدْ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْعُلَمَاءِ عَلَى أَنَّ مَا صَادَهُ مُحْرِمٌ لَا يَجُوزُ أَكْلُهُ لِلْمُحْرِمِ الَّذِي صَادَهُ ، وَلَا لِمُحْرِمٍ غَيْرِهِ ، وَلَا لِحَلَالٍ غَيْرِ مُحْرِمٍ ; لِأَنَّهُ مَيْتَةٌ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِمَّا صَادَهُ حَلَالٌ عَلَى ثَلَاثَةِ أَقْوَالٍ ، قِيلَ : لَا يَجُوزُ لَهُ الْأَكْلُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : يَجُوزُ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : بِالتَّفْصِيلِ بَيْنَ مَا صَادَهُ لِأَجْلِهِ ، وَمَا صَادَهُ لَا لِأَجْلِهِ فَيُمْنَعُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ بِحَدِيثِ الصَّعْبِ بْنِ جَثَّامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّهُ أَهْدَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِمَارًا وَحْشِيًّا وَهُوَ بِالْأَبْوَاءِ أَوْ بِوَدَّانَ ، فَرَدَّهُ عَلَيْهِ ، فَلَمَّا رَأَى مَا فِي وَجْهِهِ قَالَ : " إِنَّا لَمْ نَرُدَّهُ عَلَيْكَ إِلَّا أَنَّا حَرَامٌ " ، مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَلِأَحْمَدَ وَمُسْلِمٍ " لَحْمَ حِمَارٍ وَحْشِيٍّ " .

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِحَدِيثِ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أُهْدِيَ لَهُ عُضْوٌ مِنْ لَحْمِ صَيْدٍ فَرَدَّهُ ، وَقَالَ : " إِنَّا لَا نَأْكُلُهُ إِنَّا حُرُمٌ " أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ ، وَمُسْلِمٌ ، وَأَبُو دَاوُدَ ، وَالنَّسَائِيُّ .

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِعُمُومِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا ، وَيُرْوَى هَذَا الْقَوْلُ عَنْ عَلِيٍّ ، وَابْنِ عَبَّاسٍ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَاللَّيْثِ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَإِسْحَاقَ ، وَعَائِشَةَ وَغَيْرِهِمْ .

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مَا صَادَهُ الْحَلَالُ مُطْلَقًا ; بِعُمُومِ الْأَحَادِيثِ الْوَارِدَةِ بِجَوَازِ أَكْلِ الْمُحْرِمِ مِنْ صَيْدِ الْحَلَالِ ، كَحَدِيثِ طَلْحَةَ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ عِنْدَ مُسْلِمٍ ، وَالْإِمَامِ أَحْمَدَ : أَنَّهُ كَانَ فِي قَوْمٍ مُحْرِمُونَ ، فَأُهْدِيَ لَهُمْ طَيْرٌ ، وَطَلْحَةُ رَاقِدٌ ، فَمِنْهُمْ مَنْ أَكَلَ وَمِنْهُمْ مَنْ تَوَرَّعَ فَلَمْ يَأْكُلْ ، فَلَمَّا اسْتَيْقَظَ طَلْحَةُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَافَقَ مَنْ أَكَلَهُ وَقَالَ : أَكَلْنَاهُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ .



__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 38.34 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 37.72 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.64%)]