عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 22-09-2021, 10:49 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,786
الدولة : Egypt
افتراضي رد: قبسات من أدب الدكتور راشد المبارك

قبسات من أدب الدكتور راشد المبارك


د. أحمد البراء الأميري



القبسة الثالثة: براعة التصوير وبراعة التعبير:
إذا كان للشعر العالي رُكنان لا ثالثَ لهما، فإنَّ براعةَ التعبير وبراعةَ التصوير هما في يقيني هذان الركنان!

أمَّا المقصود ببَراعة التصوير فواضحٌ، وأمَّا بَراعة التعبير فأعني بها: جمال التركيب، وسَلاسة اللغة، وعُذوبة الأسلوب، "التي أسهَمتْ جميعها في صِناعة عبقريَّة البحتري الشعريَّة حتى قِيلَ عن شِعره: إنَّه كسلاسل الذَّهب، وأراد أنْ يُشعِرَ فغنَّى!".

وقبل تجلية هذه القبسة بأمثلةٍ أستحسنُ أنْ أُورِدَ ما قالَه صديقنا الشاعر اليمني المبدع الأستاذ قاسم بن علي الوزير في تقدمتِه للجزء الأول من "رسالة إلى ولادة"، وهو يتحدَّثُ عن التصوير في شعر الدكتور راشد المبارك.

"والصورة فيه واضحةٌ في عُمق، عميقةٌ في وُضوح؛ يحولُ وضوحُها دُون تحوُّلها إلى ألغاز، ويمنع عُمقها السطحيَّة من الاقتراب منه، أو تسلل التقريريَّة إليه.

"ظِلالها نديَّة موحية، وحَرارتها لاذعة ملهمة، وهي تجيءُ وتروحُ مع المعاني مانحةً إياها أبعادًا أعمق، مُرتادة بها آفاقًا أعلى، فما تزالُ الدهشة تهزُّك متجدِّدة مع كلِّ قراءةٍ، تكشفُ خَبايا مَذخورة من متع "السمع والبصر"، وهزَّة الاكتشاف لأفانين شتَّى من معاني العاطفة الصادقة التي ما تنفكُّ تتوالد".

ولله درُّ قاسم الوزير في قوله: "من متع السمع والبصر" كيف اختزَلَ صفحتين في كلمتين؟! فمُتَع السمع هي: دِيباجةُ الشعر، ولغته، وتركيبه، وموسيقاه، ومُتَع البصر هي الصُّوَرُ التي تتجلَّى لعين البصيرة النافذة والذائقة المدرَّبة، ولله - كذلك - دَرُّ مَن وصَف تصويرَه وتعبيرَه بهذين الوصفين فكانا حقًّا وصدقًا.

إنَّ أرقى وصفٍ لحمالِ حسناء بارعة الجمال لا يَرقَى إلى التملِّي من النظَر إليها، وكذلك الثَّناء على الشِّعر الجميل لا يعدو أنْ يكون حاجزًا بينك وبينه، فلنتأمَّل بعضَ صور شاعرنا المبدع تأمُّلاً تسمحُ به ثواني القِراءة المستأنية، ولا تُوفِّيه حقَّه إلى إدامة النظَرِ مَثنى وثُلاث ورُباع:

أَفْدِي العُيُونَ الَّتِي يَلْهُو بِهَا السَّهَرُ
وَيَغْتَلِي الشَّوْقُ فِيهَا، يَطْفَحُ الضَّجَرُ

تَحَجَّرَ الدَّمْعُ فِي آمَاقِهَا فَرَقًا
مِنْ أَنْ يَبُوحَ بِمَا فِي صَدْرِهَا النَّظَرُ

يَا لُؤْلُؤَ الحُسْنِ دَفْقُ الضَّوْءِ رَنَّقَهُ
قَبْلَ المَغِيبِ انْسِكَابُ اللَّوْنِ فِي الشَّفَقِ

وَيَا نَضَارَةَ زَهْرٍ مَاجَ فِي مَرَحٍ
وَعَوْدَةَ الرَّفَّةِ الجَذْلَى إِلَى الحِدَقِ

نَلُمُّ كُلَّ لَذَاذَاتِ الحَيَاةِ عَلَى
شِفَاهِنَا، تَلْتَقِي شَوْقًا وَتَعْتَذِرُ

يُحَاصِرُ الشَّوْقُ رُوْحَيْنَا فَيَمْزُجُهَا
حَتَّى لَيَتَّحِدُ المَنْظُورُ وَالنَّظَرُ

إِذَا مَا التَقَيْنَا صَارَ لِلصَّمْتِ ضَجَّةٌ
تَصِيحُ لِهَمْسِ الهُدْبِ قَدْ عَانَقَ الهُدْبَا

يَشِبُّ هَوَاهَا وَالجَوَى فِي مَفَاصِلِي
لَقَدْ زَرَعَتْ فِي كُلِّ عُضْوٍ لَهَا قَلْبَا!


إنَّ شعرَ الدكتور راشد المبارك غنيٌّ بالصُّور، وهي صُوَرٌ مُتفرِّدة مرسومة بريشةٍ خاصَّة وأصباغٍ خاصَّة؛ فهو حين يرسمُ قصائدَه يغمسُ ريشتَه بالمداد والعِطر، وبسلافٍ من العواطف والعواصف، وربما يمزجُها ببعضِ الدم فيخرج ذلك اللون العنيد، (كما يقول الأخ الشاعر عصام الغزالي في قصيدته: النزف على الأزرق):
سَأَغْمِسُ رِيشَتِي بِدَمٍ وَلَوْنٍ
فَيَخْرُجُ مِنْهُمَا اللَّوْنُ العَنِيدُ


هذه لمحةٌ مُوجَزة عن بَراعة التَّصوير أُتبِعُها بأخرى عن براعة التعبير:
يعلمُ كلُّ مَن عرَف الدكتور راشد المبارك إعجابَه بالشاعرين الكبيرين بدوي الجبل، وسليمان العيسى، وبمدرسة الرحابنة، وصوت فيروز، وطبيعة لبنان، إعجابًا خاصًّا مضافًا إلى إعجابه بكلِّ شعرٍ جميل وأدبٍ وسيم يحفظُه، ويتملاه، وينشده... وليس بمستغربٍ أنْ تظهر ملامح ذلك الإعجاب في شِعره، فإذا أردت أنْ تضعَ شاعرنا في إحدى قائمتين اثنتين أولاهما تضمُّ: المتنبي، وأبا تمام، والبارودي مثلاً، والأخرى تضمُّ: سليمان العيسى، وبدوي الجبل، والأخطل الصغير... فأنت - لا شكَّ - ستضعُه في القائمة الثانية لأسبابٍ يَكفِينا منها في هذا المقام: سلاسة التعبير، وأناقة الألفاظ، وعُذوبة اللغة.

استَمِعْ إليه مخاطبًا الشاعر المهجري الراحل زكي قنصل، وتمتَّعْ بعُذوبة اللغة، وانسِياب اللحن، وحلاوة القافية:
تَبَرَّجَ الرَّوْضُ وَافْتَرَّتْ مَرَاشِفُهُ
عَنْ قُبْلَةٍ عَتَّقَتْ فِيهَا حُمَيَّاهُ

مَا قِيمَةُ النَّغَمَاتِ البِيضِ تُطْلِقُهَا
قَيْثَارَةُ الوَجْدِ أَضْنَاهُ وَأَشْجَاهُ

إِنْ لَمْ يَصُغْهَا بَيَانُ الشِّعْرِ قَافِيَةً
بِهَا مِنَ الأَلَقِ القُدْسِيِّ أَسْنَاهُ

يتبع

__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 21.21 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 20.58 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.96%)]