ولمَّا كُتِب النجاح لهذه الخطة، شرَع في تسريب باقي المعارف الغربية إلى أمَمِ الأرض، ومن ضمنِها المعارف الأدبية إبداعًا ونقدًا وتنظيرًا، ولاقتْ استقبالاً رحيبًا من قِبل ذوي الانفصام المعرفي، مُضافًا إليهم المُرتزِقة من المُثقَّفين وطَالبي الشهرة والربح السريع، فخرُّوا عليها صُمًّا وعميانًا، ولم يَألُوا جهدًا في التبشير بكلِّ المذاهب الأدبية والنقديَّة الغربية، ونشْر تنظيرها ومفاهيمها وآليَّاتها، وتَطبيق كل ذلك على الأدب العربي قديمه وحديثه، رُغم أنَّهم لم يُحيطوا بها علمًا أو هضمًا، بل جاؤوا بِها مُشوَّهة، مقطوعة الرأس أو الذيل، أو مُركَّبة من رؤوس عِدة، تُحيِّر الباحثين، وتُبلبِل عقول المُتلقِّين.
ولعلَّ المُحزِن والدَّاعي إلى السخريَّة في نفس الحين: أنَّهم ابتلعوها جُملة من غير فهْم ولا استيعابٍ كليٍّ يَجعلُهم في موقع وموقف الناقِد البصير الواعي، الذي يسبر مادتَه مُستخرِجًا المفيد، ومُنحِّيًا لما دونه، وكان الضحيَّة هو الأدبَ العربي جَميعه، حيث شُرِّح بَمباضِع لا تُناسب بنيتَه، وفُكِّك بآليَّات منها المُصيب، وهو قليل، ومنها المُخطِئ، وهو الأكثر، وصنِّف ضمن قوالب مُحدَّدة، أَهدرتْ واحتقرتِ الكثير من أنواعه وأجناسه، كما وجِّه مصبه إلى غير وجْهته الأصيلة، ليَصبَّ في المجهول، الذي امْتطى صهوة حَداثةٍ مجنونة، لم يُحسم بعدُ في ماهيَّتها وآليَّاتِها، ولا معرفة غاياتها ومساقاتها؛ بل الأخطر من ذلك كلِّه هو أنَّ الضحية الأساس والمقصود الأول: هو المُثقَّف العربي المسلم، الذي شُتِّت عقله وإبداعه واهتمامه؛ بقطْع علاقته مع إرثِه الحضاري والثقافي؛ لِيهيمَ في كلِّ وادٍ، ويَسرَح في كلِّ فلاة، بغير قصْد معرفيٍّ، ولا هُدى ثَقافيٍّ، ولا وعْي بالذات وخصائص كينونتِها؛ فكان الفِصام النَّكِد الذي جعَل كثيرًا من المُثقَّفين مُهجَّنين مُتذبذِبين، لا هُم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء، وظلُّوا يَتأرجَحون بغير قرارٍ مُريحٍ، ولا ضمير مُستريح، وأثَّر هذا الفِصامُ والتأرجح على إنتاجهم اللُّغوي، فجاء تعبيرًا عن ذلك الهيمان المدفوع نحو المجهول، والمجرور بغير هدَف ولا غاية، كما أسَّس ذلك التشتُّتُ لقاعدة الضَّعف الأدبي الذي ظَهرتْ عِلاَّته في تجفيف اللُّغة من نضارتِها وجماليَّاتها، وفي رخاوة المضامين والمقولات، التي قَطعتِ الصِّلة بالأدب العربي الإسلامي وقِيمه وأساليبه وجماليَّة بلاغتِه، فبزَغ جيلٌ من الأدباء والقُراء تَميَّز بالضَّعف اللُّغوي، والقصور المعرفي، والجهل الثقافي، وخُبو الروح الحضارية التي تنبني الذات على قواعدها، ولكي تَتمُّ اللعبة المُميتة؛ فقد ظهَر إلى جانبِهم نُقادٌ مُتهافِتون، لا قيمةَ لنقْدهم سوى أنَّه يَجد سبيلاً إلى النَّشر في جرائد ومجلات مدفوع لها الثمن مُسبقًا؛ حيث يَقف وراءها مُرتزِقة مُهجَّنون أو مُغفَّلون، يَفتحون الباب لكلِّ غثٍّ ضعيف، يُساهِم في استنبات الضعف، ورعاية الجهل والقصور.
هكذا أُصيبَ الشعرُ العربي في مقاتِله حين سيطرتْ عليه مقولات الحَداثة، وتَغلغَلتْ مباضعُها المجنونة إلى صلْب نواتِه؛ لِتحطِّم كالطاعون شفرتَه الوراثيَّة العريقة، وتُصيبها بالخلل والدمار، بحُجَّة التجديد، فسارت القصيدة العربية المُعاصِرة إلا القليل نحو التصنيع والزخرفة اللغوية الفارغة، والعبث الذي يَضِلُّ فيه المعنى، ويَغيب في لُجَّته القصد في المضمون، وامحتْ عن اللُّغة جماليَّاتُها البلاغية والفنيَّة، وانطمست الذاتيَّة العربيَّة الإسلامية في ضَباب كثيفٍ من الجهل بتاريخها وقِيمها الأصيلة؛ بل "وتَخبَّا الجهل بالميراث الشعري داخل خَيمة الرَّداءة" كما يقول الشاعر المُنصِف المزغني (جهاد فاضل: كتاب أسئلة الشعر)، كما أنَّه تقوقع في شرنَقة الغموض المُطلَق، المشحون بالهلوسة والهَذَيان اللُّغوي، وأصبحتِ الدعوة إلى اللامَعنى المَلفوف بُلغة مُشقَّقة مُتفكِّكة دليلاً على فقدان الذات وإرثِها الحضاري، وهذا هو القصْد الأساس الذي راهَن عليه المركز الغربي، ونَجَح عبر قنواتِه المُتعدِّدة الأشكالِ والصور في الوصول إليه؛ ممَّا يُسهِّل عليه الاحتواء والسيطرة التَّامة، وكانت النتيجة ضمور الأدب العربي وتَأزُّمه ومُنتهاه إلى الباب المسدود على مستوى الشكْل والمضمون، يَتحرَّك دون أنْ يُراوِح مَكانه، فهل معنى ذلك سقوط جزء عظيم من بناء المعرفة العربيَّة الإسلاميَّة، والتسليم بِهذا السقوط؟ أمْ ذلك دليل على بداية الوعي بتلك الأزمة وأسبابها، هذا الوعي الذي سيَشقُّ الطريق للبحثِ عن مَسارب أُخرى تَضمنُ الاستمرار، كما تَضمنُ الأصالة والخصوصيَّة المُضيَّعة؟
من هذه الأسئلة نُؤسِّس للحديث عن الأدب الإسلامي، بما هو بديلٌ يَمتلِك من القوة الروحية والتعبيريَّة ما يجعله مشحونًا بالقِيم النبيلة، والأهداف الإنسانية السامية، التي تُحيي في الإنسان ما انْدرس من إنسانيَّته، وتَنمِيتها إلى أقصى مراتب الكمال والنُّضج من خلال رؤية مُتكامِلة البناء، راسخة القواعد، كما أنَّه يَمتلِك رصيدًا إبداعيَّا ضارِبًا في عُمْق الكثير من اللغات، وعلى رأسها اللغة العربية، ثم الفارسية والهندية والأمازيغية، كما أنَّه يَستمد من النَّبع الخالد الذي تَفيض أمواجُه، ولا تَغيضُ روافدُه: كتاب الله وقرآنه المجيد.
الأدب الإسلامي كأحد المعارف الكُبرى التي تَمُدُّ ذاتَ المُبدِع والمُتلقِّي بكثير من القِيم واللوحات الروحية والإنسانية الرائعة، والتي تَشفُّ معها اللغة، وتَتفجَّر ألوانًا من البلاغة الجماليَّة والبيان الهادف، لِتشكِّل مساحة إبداعيَّة لها نَضارتُها وفتْنتها، وسحرها الأخَّاذ، وأُفُقها المُتألِّق، الأدب الإسلامي كأحد الدعائم التي تقوم عليها الذات الإسلامية، وتُساهِم في بناء وعيها بنفْسها وكَينُونتها عن طريق اللُّغة كأعلى تَجلٍّ لذلك الوعي، وأجمل تعبير عن تاريخه وطموحه وتَطلُّعاته.
لقد تَحدَّثنا قبلاً عن الباب المسدود الذي بلَغه الأدباء والنُّقاد بفعْل انغماسهم المجنون في يَمٍّ من النَّظريات والمفاهيم الغربيَّة الأصلِ والمَنشأ، التي أصابتْ إنتاجَهم الأدبي بالتآكُل والضعف إلا قليلاً ممَّا يَنشرون، وخاصة تَيار الحَداثة الغامِض، الذي أصابَهم بالخَبَل المعرفيِّ والعَمَى الثقافي، وطوَّح بِهم في تِيه الغموض الفارِغ من المعنى والقصد، مع غرور زائد زاد في ضلالهم، ومكَّن للعَمَى في بصائرهم.
لذلك ولغيره؛ يَجدُ الأدب الإسلامي نفْسه مدفوعًا إلى الظهور من جديد، وبعُنفوان وقوة، مُحمَّلاً بقِيم ثقافية وروحيَّة، يُراد لها الاندثار، أو التشويه، أو المُحاصرة، بل يَجد نفسه مُلزَمًا بخوض معركة ثقيلة الوزن والمسؤولية في ساحة الحياة والتاريخ والحضارة، جنْبًا إلى جنب مع باقي عناصر المعرفة والوَعي الأخرى التي تتأسَّس عليها الذاتُ الإسلامية (سياسة واقتصاد وعلوم وتربية)، هذا الظهور لا يُمكن تحقيقه بقوة وحضور مُترسِّخ إلا إذا امْتلك الأدبُ الإسلامي وسائلَه الخاصة المُستمدَّة من التُّراث الإسلامي الأصيل، إضافة إلى ما هو مُفيد ونَافع من تُراث الإنسانية، وكذا رؤيته التي تَجعلُه مُنفرِدًا عن الرؤى التي تَضجُّ بها حلبَة الفكْر والإبداع؛ من أجل تَثبيتِ وجوده، وترسيخ سلطتِه في الواقع عمومًا، والواقع الثقافي خاصة، ولن يتمَّ ذلك كله إلا بتأسيس نظريَّة أدبية إسلاميَّة شاملة، لها مفاهيمها وأرضيَّتُها، ومواقفها ومُساجلاتها، وآليّات اشتغالها، ومواردها المادية كذلك، نظرية تَكشِف عن حقيقة هذا الأدب وأصوله الطيبة، وبنيته ومُكوِّناته الداخليَّة مضمونًا، والخارجيَّة شكلاً، كما تُبيِّن حدودَه ومضامينَه ومساحاتِ حركته وانْفصاله عن باقي التيارات والمذاهب والنظريَّات الأخرى، وكذا حدود اتِّصاله بِها وتَفاعله الإيجابي معها، وتَكشِف عن مواطن الضعف، فتدعو إلى اجتنابِها، ومواطن القوة، فتَدل عليها وتأخذ بأسبابها، وتبنيها عن وعْي وبصيرة، وتَسعى جاهَدة لاسترجاع موقِع الأدب الإسلامي إلى حاضِرة المعارف الإنسانية في الماضي والحاضر، هذا الموقع الذي طالما طُمِست ملامِحه وجغرافيَّته بنشاطاتٍ مَشبوهة لا تُحقِّق سوى ذاتية أصحابِها، وهي ذاتيَّة مُغرِقة في البُعد عن القِيم الإسلامية والذات الإسلامية بِما هي وجود راسخ، ووعي شاهد، وحركة فاعِلة، وطموح مؤسس.
[1] يُمكِن تعريف الانفصام المعرفيِّ كما يَلي: حين يكون المُثقَّف جاهلاً بالعلاقات القائمة بين عناصِر الحضارة الواحدة، إما عن قصْد أو غير قصْد، أو عن تَجاهُل أو "ديماغوجية"، فإنَّه يَقعُ في الانفصام المعرفي.