
22-09-2021, 06:14 PM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,120
الدولة :
|
|
رد: الوازع الديني من نبوة أو دعوة حق
هذه أمثلة جاءت بها مفردات آيات الله في كتابه العظيم عن الفريق ذي الوازع غي الديني وكلا منهم يحاول جاهدا إعطاء اثباتات على أن الملك أو السلطان الذي بين يديه إنما جاء به عن علم من تفكيره وفطنته وقوة يديه وهو الذي يعطيه للناس أو يقصره عنهم أو يكثره أو يقلله وفي كل حالات الأمثلة هذه غابت عن أصحابها حالة واحدة فقط وهي ساعة الزوال وموعدها وكيفيتها وسبحانه وتعالى جعل الزوال هنا زوالا عقابيا ليس لصاحب الملك فقط وإنما للملك جميعاً بشر وحجر وشجر فأصبح أثرا بعد عين أو هشيما تذروه الرياح أو أملاكاً خاوية على عروشها أو صعيداً زلقاً.
ونأخذ مثلاً واحداً على الذي دعا ربه أن يأتيه ملكا لا ينبغي لأحد من بعده قال تعالى في (سورة ص) على لسان سليمان عليه السلام ﴿ قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ ﴾ [ص: 35]. ولنرى لماذا كل هذه الرغبة في الملك قال تعالى في سورة النمل على لسان سليمان كذلك ﴿ وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ ﴾ [النمل: 17] ﴿ حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَاأَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [النمل: 18] ﴿ فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ ﴾ [النمل: 19].
فالذي نراه في المفارقة والمقارنة بين الفريقين أن كلاهما وهبا هبة هي في ظل ما عرفناه من القوانين الطبيعية أنهما زائلة أو بمعنى الإدراك الكوني لحياة الدنيا هما جزءان لا يتجزآن من الملك الكلى لله تعالى مالك الملك أي أنهما أمانتان ولا بد من مجئ الساعة لاسترداد أو لرجوع هذه الأمانة لمالكها أو لصاحبها فالذي يتردد في إرجاعها ويتململ ويتنكر لصاحبها فسوف تؤخذ منه عنوة وبالقوة أما الذي ينتظر تلك الساعة وقد أفنى سنين عمره خائفا قلقلا من ضياعها أو نقصانها أو حتى إصابة جزء منها بالضرر وهو في نفس الوقت فرح بقلبه واحاسيسه من لقاء صاحب الأمانة تلك ويتلهف لشكره وتفضله بالحفاظ على الأمانة وارجاعها زكية كاملة طاهرة كما استلمها أول مرة فهو موعود وعد الحق ولا بد من أن يرى الحق مرة أخرى كما عاش مع الأمانة عيشة حقا ولا لبس في ذلك .فكل من صاحَبَ الأنبياء والرسل ودعاة الحق والرجال الصالحون لمسوا ذلك لمسا حقا وعاشوه بكل جوارحهم ولم يغالط أحدا نفسه حتى في رؤياه بدجى الليالي الحالكة.
أما ابن خلدون فيأتي على زوال السلطان وبقائه من جهة نظر تأملية اجتماعية وهو يحافظ على العلاقة بين الوازع والزوال ويرجعه إلى أسباب يخاطب بها أهل الملك والسلطان وهو يرجعها بالنهاية إلى ذات الأسباب التي تشير إليها مفردات القرآن العظيم ولكنه لا يذكرها صريحة وإنما يلبسها ملبسا سياسيا ليبقى غير بعيد من أهل السلطان يقول في مقدمته أن الدعوة الدينية تزيد الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها والسبب في ذلك أن الصبغة تذهب بالتنافس والتحاسد الذي في أهل العصبية وتفرد الوجهة إلى الحق فإذا حصل لهم الإستبصار في أمرهم لم يقف لهم شيء لأن الوجهة واحدة والمطلوب متساو عندهم وهم مستميتون عليه،وأهل الدولة التي هم طالبوها وإن كانوا أضعافهم فأغراضهم متباينة بالباطل وتخاذلهم لتقية الموت حاصل،فلا يقاومونهم وإن كانوا أكثر منهم بل يغلبون عليهم ويعاجلهم الفناء بما فيهم من الترف والذل).
ثم يتابع (واعتَبِر من ذلك إذا حالت صبغة الدين،وفسدت، كيف ينتقض الأمر ويصير الغلب على نسبة العصبية وحدها دون زيادة الدين،فتغلب الدولة من كان تحت يدها من العصائب المكافئة لها أو الزائدة القوة عليها الذين غَلَبَتهم بمضاعفة الدين لقوتها،ولو كانوا أكثر عصبية منها وأشد بداوة).
وأما المؤشر المباشر والمؤذن في خراب العمران فيذكره ابن خلدون قائلا: (اعلم أن العدوان على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها، لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم.
وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك .وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيرا عاما في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالآمال جملة بدخوله من جميع أبوابها وإن كان الاعتداء يسيرا كان الانقباض عن الكسب على نسبته .والعمران ووفوره ونفاق اسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين . فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعرَّ الناس في الآفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها،فخف ساكن القطر،وخلت دياره،وخربت أمصاره واختل باختلاله حال الدولة والسلطان،لما انها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة).
ويكمل ابن خلدون: (والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه، ووباله عائد على الدول.
ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك . وكل من أخذ ملك أحد أو غصبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقا لم يفرضه الشرع فقد ظلمه. فجباة الأموال بغير حقها ظلمة،والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة،والمانعون لحقوق الناس ظلمة. وغصّاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الآمال من أهله. واعلم ان هذه هي الحكمة المقصودة للشارع من تحريم الظلم،وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري،وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة،من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال. فلما كان الظلم كما رأيت مؤذنا بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران، كانت حكمة الحظر فيه موجودة،فكان تحريمه مهما.
وينتهي ابن خلدون بالقول(إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه،لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه هي ان يكون الوازع فيه للقادر عليه نفسه).
الوازع والفطرة:
ونصل هنا منعطفا مهما وحساسا عندما نحاول كشف الرؤيا عن تأثير الوازع الديني على الفطرة ومدى أهمية علاقة بعضهما ببعض ودورهما في تشكيل مرتكزات قاعدة الاصطفاء البشري ونذكر قول الله عز وجل في سورة الروم: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 30]. فهذه الفطرة هي الأرض المستوية التي لا ارتفاعات ولا انخفاضات تشوب سطحها والتي لا يظهر في طريقها أي اعوجاج،خط واحد في اتجاه تسبيح الله وتوحيده تماما كباقي خلائق الكون كله والإنسان بفطرته هذه يقف بموازاة بقية الأنعام وغيرها من البهائم والحيوانات والطيور والدواب الأخرى السارحة الهائمة تبتغي وجه ربها وكذلك وقف على سوية مع الملائكة في الملأ الأعلى يسبحون بحمد ربهم ليل نهار ولا يستنكفون قال تعالى في سورة الإسراء ﴿ تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا ﴾ [الإسراء: 44].
فالإنسان بفطرته هذه التي فطره الله عليها لو وضعناه تحت معايير معينة كما حاول كثير من علماء الإنسان الذين برعوا في وضع النظريات والتصورات وحاولوا تصوره في حالة لا ارتباط فيها ولا يخضع إلا لفطرته ونمى وعاش هكذا فكيف يكون شكل اجتماعياته وللحديث عن هذا الأمر هناك افتراضان لا ثالث لهما:
أولهما: رؤية الإنسان على قاعدة انسانيته.
ثانيهما: رؤية الإنسان على قاعدة الحيوان.
فلو أنهم تناولوا انسانية الإنسان لما كان لهم أن ينجرفوا أو يظللوا لكنهم أصروا واستكبروا فلنرى ما قالوا:
وكان البادئ فيهم في العصر الحديث هو (داروين) أو ما سمي فيما بعد بالنظرية الداروينية أو نظرية النشوء والارتقاء والتي الغت تماما الجانب الروحي وارجعت الإنسان إلى الأصول الحيوانية وأنه خضع لتأثير البيئة شيئا فشيئا أي أنه أخذ يتطور حتى وصل إلى ما وصل إليه من الشكل المعرف به حالياً وأغفل تدخل الله في خلق الانسان نهائيا.
وجاء من يكمل هذه النظرية بالقول:أن الطبيعة هي التي أوجدت اجتماعية الإنسان بقواها المادية أي أن وجود هذا الإنسان هو الذي أوجد شعوره المعروف به حاليا وليس شعوره الذي يعين وجوده، والأطوار التي مرت بها البشرية من أول الشيوعية الأولى،إلى طور الرق إلى طور الإقطاع إلى طور الرأسمالية،إلى طور الشيوعية الثانية أو الأخيرة إنما أوجدتها التغيرات التي طرأت على أساليب انتاج الإنسان وهي القيمة الحقيقية وليس الحق والعدل وهما من القيم الإنسانية التي لا أصالة لها أبدا في حياة الإنسان بل هما وهم مع سائر الأخلاق الأخرى والتقاليد والدين كذلك وهكذا كانت نظرية كارل ماركس في تفسيره لتاريخ الإنسان فلا دين ولا أخلاق ولا مشاعر ولا تقاليد كل شيء منبعث عن الكيان الحيواني للإنسان وطالما الأوضاع المادية في حتمية التطور فلا يمكن الإمساك بها على وضع معين ثابت والقيم تنبعث في كل طور من أطوار التطور المادي والاقتصادي للإنسان فهي متغيرة ولا ثبات في ذلك.
وأما فرويد فيصيغ نظريته من حيوانية الإنسان ويرسم تطور المجتمعات الإنسانية من جانب علم النفس واعتبر النفس البشرية هي الميدان الأصيل للحياة ومن تركيبتها تنبثق الأفعال والأفكار والمشاعر وتتحول الى وقائع عملية في واقع الإنسان وأن الحياة النفسية للإنسانية ليست حيوانية فحسب ولكنها تنبع كلها من جانب واحد من جوانب الحيوان ألا وهو الجنس المسيطر على كل أفعال الإنسان حيث يبدأ كما يصوره فرويد في بحثه العلمي في علم النفس يبدأ الجنس مبكرا جدا ثم يتطور بمرحلة الطفولة ثم المراهقة ثم إلى آخر مهلة تنعدم فيها القيم والأخلاق والدين على صعيد الحياة كلها.
والثالث من علماء الإنسان في العصر الحديث الذي استلهم من نظرية داروين الأصول الحيوانية للإنسان ومد بها إلى أوسع مدى حتى شمل الحياة كلها كما يقول عنه الأستاذ محمد قطب في كتابه التطور والثبات وهذا العالم هو (دركايم) وتحت ستار من البحث العلمي في علم الاجتماع أخذ عن داروين فكرة التطور الدائم والذي يلغي فكرة الثبات وأخذ عنه كذلك فكرة (القهر الخارجي) الذي يقهر الفرد على غير رغبة ذاتية منه فيطوره .ذلك أن هناك ضروب من السلوك والتفكير الاجتماعيين توجد خارج ضمائر الأفراد الذي يجبرون على الخضوع لها في كل لحظة من لحظات حياتهم وبمعنى أوسع هناك شعور اجتماعي يختلف عن شعور الأفراد وأن الحياة البشرية ذات الصفة الإجتماعية يمكن تفسيرها عن طريق وجود (العقل الجمعي) خارج نطاق الأفراد أي هناك تطور جماعي خارجي ضاغط على عناصر النفس المفردة ويقتحمها ). ويلخص محمد قطب ايحاءات هذه النظرية بالقول قد عنى دركايم في جولته الواسعة في علم الاجتماع عناية خاصة بقوله أن الدين ليس فطرة والزواج ليس فطرة والأخلاق ليست قيمة ذاتية ولا هي ثابتة على وضع معين .فإنما تأخذ صورتها من المجتمع الذي توجد فيه فإن (المجتمع )هو الأصل في كل الظواهر الإجتماعية وليس الإنسان).
وهذا الأخير وبالرغم من معاصرة هؤلاء الثلاثة بعضهم لبعض وبالرغم من عدم صعود أي منهم إلى سدة السلطان سوى نظرية كارل ماركس والتي قيض لها أن تمتلك زمام السلطان بواسطة قميص الاشتراكية التي بهرت أعين البسطاء من الناس ومن ثم فشلت فشلاً ذريعاً بعد انكشاف عجزها وتخلفها في تأمين وتحقيق الوعود التي زينتها سابقاً لهؤلاء البسطاء فقد استطاع هؤلاء الثلاثة وبواسطة الإعلام الذي امتلكوه أن يفعلوا فعلتهم في أغلب بلاد العالم من نشر الانحلال عن كل القيم وإهمال الأخلاق والمثل العليا وجعل مجتمعات كثيرة من شعوب أوربا وأمريكا وروسيا وبلاد أخرى يعيشون حياة الإنسان بفطرته الحيوانية ولكن الحسابات بدأت تطرح على الساحة الإنسانية من جديد وبأسلوب جديد وبجرأة لا مثيل لها في التاريخ وبدل مما كنا نرى ونعيش عدة نظريات وعدة منادين لها بدأ الأفق يلوح بنظرية واحدة وبمناد واحد ولكن بنفس المضمون وبنفس الرؤيا لكل من داروين وماركس وفرويد وبصيغة دركايم (العقل الجمعي أو القهر الخارجي).
إذا استفسرنا عن التفاصيل فهي باختصار شديد هي نظرية العولمة بمضمون الدستور العلماني و(برغيف ) منظمة الجات وبالرغبات الجنسية الحيوانية لفرويد وبالمشاركة المتساوية لكل شعوب العالم لاساليب الإنتاج على مبدأ ماركس وبالضغط التراكمي لمجتمعات الدول الصناعية عن طريق مجلس الأمن أومجموعة العشرين أو الثمانية، على مبدأ دركايم فأي اختيار من الاختيارات تلك سيقبلها الإنسان أو يرفضها حتى ولو صرخ بأعلى صوت له أن لي عادات وتقاليد وأخلاق خاصة فالأخلاق الجديدة للمجتمع الدولي أقوى أسرع وأفضل!! وحتى لو صرخ بأعلى صوت له أن لي فطرة أعيش وأقتات بثوبها البسيط! سيأتيه الجواب والرد بأسرع واقوى مما يظن وذلك عن طريق الأقمار الصناعية وبكل الأقنية الفضائية وبالأجهزة الذكية، أنت لا تصلح لهذا الزمان فاختصر وجهة حياتك بأسرع وقت ممكن قبل أن تمثل (متهما)!!؟.
وهذا هو الوازع الجديد الذي أدخل قسرا على فطرة الإنسان في نهاية القرن العشرين ومطلع الواحد والعشرين وازع لا يحمل من أخلاقيات الأديان وتعاليمها إلا أساليب مبتكرة للتحكم بالأفراد الذين لا تصل إليهم مؤشرات ودوافع هذا الوازع بسهولة ويسر، وهنا يحضرنا حديث شريف لنبي الخلائق أجمعين ولا بد من ذكره لأنه هو السند الوحيد في هذا المقال لإكمال فكرة الآية 30 من سورة الروم وهو قوله صلى الله عليه وسلم (ما من مولود يولد إلا على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه). ويحمل معنى الفطرة هنا التسليم لله فقط أي أنها فطرة إسلامية،جاء في معجم المصباح المنير،(فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه) أي ينقلانه إلى دينهم،ثم أسند إلى الأبوين توبيخا لهما وتقبيحا عليهما فكأنه قال وإنما أبواه بإقامتهما على الشرك يجعلانه مشرك ويقهم من هذا أنه لو أقام أحدهما على الشرك وأسلم الآخر لا يكون مشركا بل مسلما وقد جعل البيهقي هذا معنى الحديث فقال: وقد جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم الأولاد قبل أن يفصحوا بالكفر وقبل أن يختاروه لأنفسهم حكم الآباء فيما يتعلق بأحكام الدنيا،وأما حمله على الحقيقة فعلى ما بعد البلوغ لوجود الكفر من الأولاد). ولكشف الستر أكثر عن ماهية الفطرة وعما تحمله من ملامح للبحث والتسليم هو ما جاء في سورة الأنعام آية (75-76-77-78-79) تصف كيف خرج ابراهيم عليه السلام بفطرته يبحث عن ربه الذي فطره بفطرة صافية سليمة قبل أن يغوص في شرك أبيه وقومه يبحث متلهفا عمن يلقنه الوازع الذي يحمله و يحميه إلى شاطئ الأمان والاستقرار ويحفظ به نفسه،إنه التدبر والتبصر الذي تميز بهما هذا الفتى عن سائر أفراد أسرته وقومه إنها فطرة تحمل في جبلتها السر الذي يتميز به صاحبها عن بقية الكائنات الأخرى،سر بعلن به الفرد انسانيته لا حيوانيته نعم إن الإنسان بفطرته السليمة الخالصة يسبح الله كباقي كائنات الدنيا وكائنات الملأ الأعلى ولكنه بالتدبر والتبصر المجبولان بفطرته يكون قد تميز بها تميزا حادا كذلك عن سائر الكائنات في الحياة الدنيا وكائنات الملأ الأعلى ويكون بذلك قد تميز عن المخلوقات الحيوانية التي ينعدم بها سر التدبر والتبصر خلقة وخليقة.
الفطرة والاصطفاء:
جاء في فاتحة سورة الأعراف قول الله عز وجل: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3].
ونقرأ هنا مفردات الآية بأنها مخاطبة وأمر (اتبعوا) و(لا تتبعوا) .ولو تساءلنا من هم هؤلاء المخاطبون ومن هم المعنيون بالأمر؟ وباعتبار أن هؤلاء معروفون لدينا تاريخيا وهم أولئك الذين نزل هذا الأمر بين أظهرهم وهم الذين اتخذوا وازعا غير ديني (مشركين) و وازعا دينيا هم (أهل الكتاب) والفريقان ليسوا على الفطرة بل أن الوازع أخذ محله في سلوكهما والاختيار عندهما محسوم ومقضي فيه والخطاب والأمر حتما كان موجها إليهما ولا جدال في ذلك .ومحصلة هذا الكلام أن كلا الفريقين ليسا على الفطرة أبدا ومعنى هذا أن كلاً منهما قد اصطفى لنفسه وازعا نراه قد ضبط سلوكه وحسم كثيرا من جوانب حياته الاجتماعية والنفسية وحتى المادية ومن جهة أخرى فإنه لو كان هناك فريق ثالث نفترض أنه موجود أيضا ويعيش بحالة كما فطر عليها من يوم ولادته فإنه يعين أن الأمر والمخاطبة كذلك تكون موجهة إليه وطالما أن هذا الفريق ليس لديه وازع أهل الكتاب ولا وازع أهل الشرك فإن الأمر سيكون لديه حالة (ترقب) وهو الإتباع واصطفاء الوازع الأمثل والأقرب إلى فطرته وهو اتباع ما أنزل وليس اتباع الاشراك من دونه،ولنرى كل فريق من هؤلاء الثلاثة كلاً على حالته الراهنة:
أولاً:
فريق أهل الوازع الديني (أهل الكتاب):
ولديهم سابق معرفة بالأمر والاتباع ولكن لماذا هذا التكرار بالأمر بالاتباع مرة ثانية وثالثة؟ أليس التكرار يحدث دائما للتنبيه في الدرجة الأولى وللتأكيد بالدرجة الثانية وللإنذار بالدرجة الثالثة في حال وقوع مؤشرات على الاغفال أو الخطأ أو الانحراف! . والآية الكريمة السابقة رقم 3 من سورة الأعراف إذا كان الأمر فيها كان موجها إليهم فإن طبيعة الحال التي كانوا عليها تحثهم باتباع ما انزل إليهم أي اتباع ما جاء بالتوراة في أول الأمر ومن ثم اتباع ما انزل إليهم من الإنجيل ثاني الأمر وثالثا اتباع ما انزل من القرآن، والأمر في الحالات الثلاثة واحد وهو توحيد الله واتباع أوامره ونواهيه وأن لا يتخذوا من دونه آلهة أخرى بمسميات متعددة ولكن وفي الحالات الثلاثة وفي نهاية زمان كل أمر تقول لهم نفس الآية ﴿ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3] ونسيان الأمر هو عدم التذكر كليا أو قليلا وهم القلة القليلة من أهل الكتاب يظلون على عهدهم الأول محافظين مجددين بالاتباع. ونلاحظ هنا خطا بيانيا مزدوجا يسير باتجاهين متضادين، أحدهما خط الفطرة والآخر خط الشرك وهما متلازمين باعتبار كونهما واقعان تحت مسمى وازع، فخط الفطرة يظل ملازما لها باصطفائه عبودية الأول والخط الثاني يتجه إلى الابتعاد عن الفطرة وبالتالي عن الله أي باتجاه الشرك به واصطفاء عبوديات أخرى من الأوامر والنواهي، وهنا لا بد من العودة إلى البدء أي إلى نزول أوامر جديدة بالاتباع والتذكر .وهنا نحب أن ننوه بأن هذا الخط المزدوج لا يظهر إلا عند أصحاب الوازع الديني سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم أو من أهل القرآن. وأما اذا ظهر في السلوك بشكله الحاد، وان ظهوره هذا هو ما يطلق على صاحبه (المنافق) وهذا اصطفاء بأخلاقيات وسلوكيات متعاكسة الاتجاه مع حالة الفطرة.
ثانياً:
فريق أهل الوازع غير الديني ( المشركين ):
وهؤلاء ليس لديهم سابق معرفة بالأمر والاتباع، ويقولون عن وازعهم هذا الذي يعتقدونه كما جاء في سورة البقرة ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ ﴾ [البقرة: 170].
فالوازع عندهم خط واحد وباتجاه واحد وسلوكيات أفراد هذا الفريق متوافقة تماما مع اعتقادهم،أي أنهم يعيشون في حالة اصطفاء لأخلاقيات متناقصة تماما مع أخلاقيات أصحاب فريق الوازع الديني وبصورة حادة مبتعدين ابتعادا كبيرا عن الفطرة وهناك مسافة أو هوة تفصل بين الاثنين،وبالمدلول الشرعي لهذه الحالة أن خاصية التدبر والتبصر منصرفة كليا عن الفطرة وأي محاولة تبذل لايقاظ هذه الخاصية سوف تصطدم بحواجز ليس من السهل تخطيها إلا مع مرور زمن ليس بقليل، وربما تصل هذه المحاولة إلى الفشل المتكرر وربما لاتكون هناك محاولات اطلاقا" وعن هذه المحاولة يقول الله عز وجل فيهم بسورة الروم ﴿ وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [النمل: 81].
إن هذه المسافة أو الهوة يغمرها ظلام دامس وحالة عدم رؤيا تتكثف ما بين الفطرة وخاصية التدبر والتبصر،وهذا الظلام وعدم الرؤية في حقيقة الأمر هو الوازع بعينه المتراكم عبر السنين وربما أجيال وهو الذي يحول ما بين (المرء وقلبه) ومن هنا جاءت صعوبة وتعثر الهداية والإتباع ولعل من الجدير هنا أن نتساءل إذ كيف اهتدى كثير ممن كانوا يحسبون على هذا الفريق في بداية الدعوة إلى الإسلام والجواب ببساطة هو عدم اكتمال التراكم ما بين التدبر والتبصر من وإلى الفطرة والأمثلة على ذلك كثيرة.
ثالثاً:
فريق أهل الفطرة:
وهم الذين يحافظون على صفاء فطرتهم ولا يحاولوا تكديرها بشوائب أو شيء من أخلاقيات وازع أهل الشرك أو أي وازع آخر ولو ضربنا بعض الأمثلة نجد الكثير منها وعلى رأسها وأهمها عدم المشاركة بعبادة الأوثان أو السجود لها مثلاً أو تقديم القرابين أو الدخول في حروب أو مشاركات تؤدي إتباع سلوكيات تؤدي إلى ظلم الآخرين والتشرد والقسوة مع الضعفاء وصغار الناس ولا يقتصر ضرب الأمثلة على اصطفاء السلوكيات مع الآخرين بل يتجه الأمر إلى اصطفاء الأخلاق والسلوكيات التي تحافظ على كيان شخصية أو جبلة نفسه (فطرته) بحيث يبعدها عن كل ما هو متعب ومهلك كالمجون التي تذهب بالحضور والعقول واللهو المفرط بمتاع الحياة الدنيا بل تتهيأ دائما" بمحاولة الدخول إلى قرارة ذاته (فطرته) وسبر أغوارها والاكثار من التفكير والتدبر في أمور الحياة الدنيا كلها.
والحديث بذكر صفات وخصائص وعلامات وسلوكيات أهل الفطرة طويل وطويل جدا لكننا نختصر ذلك بذكر بعض شواهدهم ولعل أهم ما نذكره هنا هو سيد أهل هذا الفريق هو الفتى ابراهيم عليه السلام حيث تدبر وأبصر وأيقن وباشر بفطرته بأول اختيار مادي علني وحطم الأوثان بيديه الغضتين أي باشر بحرب مصدر الوازع . وثانيهما هو سيد الخلق النذير البشير محمد عليه الصلاة والسلام بتدبره في غار حراء ومحطم الأوثان بعدما ظهرت دعوته على الدنيا وهناك عدد لا بأس به ممن قادتهم فطرتهم السليمة إلى الابتعاد عما يفعله مشركو قريش قبل البعثة بل ولم يكتفوا بالابتعاد عنهم فقط بل ذهبوا إلى مناهضة سلوكياتها الوثنية واصطفاء أخلاقيات اعتنقوها (الحنيفية) قبل أن تتنزل آيات الله على الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وهذا دليل على عدم تراكم الوازع الوثني الشركي بالقدر الذي يحول بين الفطرة وحالة التدبر والتبصر وهنا في هذه الانعطافة نلاحظ قدرة الانسان على امتلاك ما يسمى دفة الحركة وتحديد الاتجاهات لعدة خصائص كامنة في قرارة فطرته وتنضوي هذه القدرة تحت ضابط التبصر الذي تتحكم به وبدورها عدة عوامل نفسية ومادية تحدد مكانة صاحبها اجتماعيا وماديا بكونه قريب من أهل السلطان والملك أو غيره ومثالاً ابتداء (اسلام حمزة) ومن ثم كما ذكر في السيرة أيضاً اسلام عمر وذلك كله يشكل في طبيعة الحال اركان الوازع ويحضرنا في هذا المقام كذلك عدة أمثلة مثالها (ملك الحبشة النجاشي) وامرأة فرعون ونلاحظ أمثال هؤلاء جميعا وأينما وجدوا ومهما اختلفت انتماءاتهم الاجتماعية والزمانية، نلاحظ سرعة استجابتهم لدعوة الانبياء ودعوات الحق بشكل عام ولا يغيب عن ذكرنا كثير من العلماء والباحثين في شتى الأزمنة والأصقاع الذين انتهى بهم المطاف إلى الهداية وقد كان بالسبر الدائم والمستمر لأغوار النفس.
هذا والله أعلم....
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|