
17-09-2021, 01:47 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,690
الدولة :
|
|
رد: النقد التكويني
وقد بادَر المستشرقون الغربيُّون إلى تحقيق النصوص وتوثيقها وترجمتها، وطَبْعها ونَشْرها ونَقْدها، وذلك في ضوء مقاربات ومناهج حديثة ومعاصرة متنوِّعة، كما هو حال الاستشراق البريطاني، والهولندي، والألماني، والإسباني، والأمريكي، والفرنسي، والروسي.
لكنَّ النقد التكويني لا يَعني تحقيق التراث فقط، بل هو أيضًا يهتمُّ بدراسة المصادر الأولى للعمل؛ من أجْل فَهْم النص الداخلي بشكل جيدٍ؛ لأنَّ هناك ترابُطًا بين النص الداخلي والنص المخطوط؛ تفاعلاً، وتعالُقًا، وتناصًّا، ومن هنا يَهدف النقد التكويني إلى تتبُّع مراحل الكتابة، قبل أن يَصير النص عملاً مطبوعًا، ويَستكشف مختلف المصادر التي اعتمَد عليها الكاتب في تأليف كتابه؛ مثل: هوامش القراءة، والكراسات، والدفاتر، والتصاميم، والمخططات، والسيناريوهات، والمُدونات، ورؤوس الأقلام، ومسودات التحرير، والمسائل المُصححة... إلخ، وتُشَكِّل كلُّ هذه النصوص الأولى آثارَ النص الأدبي، قبل أن يَخرج من حالة المخطوط إلى حالة المطبوع، ويُسمى هذا أيضًا بالملف التكويني أو التوليدي الذي يُشَخِّص مختلف مراحل ما قبل النص.
إن الأمر إذًا يتعلَّق بالمخطوطات والمُستنسخات اليدويَّة التي يَعتمدها الكاتب، ويُحدِّد طريقة الكتابة التي يَستند إليها، وأدوات الكتابة التي يَستخدمها، ويرتاح لها، ويَرتضيها في ممارسة التسويد والكتابة، وهذا ما ينبغي التركيز عليه في النقد التكويني، قبل أن يَتَبَلْوَر المخطوط عملاً، ويتحوَّل إلى نصٍّ أدبي مطبوع، وليست هذه المراحل التي يَتَّبعها الكاتب في تأليف كتابه دائمًا خطيَّة ومتعاقبة، ومُتسلسلة بشكلٍ مباشر، فقد تكون مراحلها غير واضحة بدِقَّة، فلا بدَّ من اتِّباع آثار الكتابة، وتتبُّع مؤشِّراتها البصريَّة والأيقونية والفضائيَّة لمعرفة بناء العمل؛ أي: لا بدَّ من إعادة بناء المخطوط مرحلةً مرحلة، قبل أن يتحوَّل إلى نصٍّ مُنتهٍ وتامٍّ وكاملٍ، وقد يُساعدنا الفضاء البصري للمخطوطة من جهة في التعرُّف على عوالم الكتابة والإبداع بشكلٍ جيِّد ودقيق، وتأويله سيميائيًّا ودلاليًّا من جهة أخرى.
هذا ويَرتبط النقد الجيني بدراسة النص المخطوط في ضوء الرسائل والمُقدمات، والإهداءات والكتابات الشخصيَّة في الجرائد والمجلات، والحوارات المباشرة وغير المباشرة، وكلُّ هذه العناصر تفسِّر النصَّ وتشرحه، ويُسمي "جيرار جنيت" هذا بالنص الفوقي في كتابه القيِّم: "العتبات"[5]، وقد أصبَحنا اليوم نلتجئ ضمنَ النصِّ الرَّقْمي إلى الأقراص المُمغنطة، والأشرطة، والفيديو كاسيت، وغيرها من الوسائل الرَّقْميَّة المتنوعة.
وثَمَّة نقطة مهمَّة لا بدَّ من الإشارة إليها، وهي أنَّ هناك وسيطًا بين المؤلف والمطبعة، وهو الناسخ أو الكاتب باليد، أو بالآلة الرَّاقنة أو الحاسوب، فهذا الناسخ يكون هو الرجل الأول الذي يَطَّلع على أسرار الكتابة وصناعتها، فناسخُ كتابات طه حسين مثلاً يَعرف كيف كان يُملي طه حسين، ومن المعلوم أنَّ ثقافة الناسخ كانتْ مُنتشرة بكثرة في الثقافة العربيَّة، فقد كان الحريري والجاحظ ناسخين للكتب بامتيازٍ، ومن ثَمَّ يُعَدُّ الناسخُ القارئَ الأوَّل للمخطوط قبل القارئ الحقيقي.
ومن جانب آخرَ، يُمكن الحديث عن سيميوطيقا المخطوطات والمسودات التي تَدرس الفضاء البصري للكتابة، وعلامات الترقيم، وتنظيم الصفحة، وتوزيع الكتابة أُفقيًّا وعموديًّا، والتحكُّم في ثنائيَّة البياض والسواد، وثنائيَّة الامْتلاء والفراغ، ومعرفة كيف تتربَّع الحروف على الصفحة، وتتشكَّل العلامات الكتابيَّة والبصريَّة، ومعرفة أنواع الخطوط والأسطر والفراغات الموجودة بينها، وكيف تتمُّ عمليَّة النَّسخ، وتوزيع الصفحة، وتتشكَّل هندستها، ويعني هذا أنَّ ثَمَّة غنًى سيميوطيقيًّا في هذا المجال، ومَن يتصفَّح أعمال فيكتور هيجو، وإميل زولا، وكافكا، وميشو، وستاندال، وفاليري، وديستفسكي، وبوشكين، وأنطونان أرطو، فسيجدها مَليئة بالصور والأيقونات، والأشكال البصرية تُهيمن على فضاء الصفحة كتابةً، وتصويرًا، وتشكيلاً.
ويُلاحظ أنَّ كثيرًا من الشعراء والكُتَّاب يَرتجلون أعمالهم، فكثير من الأدباء قد جرَّبوا الخاصية الشفوية قبل الكتابة، كما كان يَفعل فلوبير (Flaubert) وبيير كيوتا (Pierre Guyotat)، بل كان زهير بن أبي سُلمى من قبلُ يُنَقِّح قصائده شفويًّا ويُثَقِّفها، فيَعرضها على شعراء عصره ونُقَّاده، وكان زهير يتأخَّر في نَشْرها وإذاعتها؛ حتى سُمِّيت قصائده الشعريَّة بالحوليَّات.
ومن جهة أخرى، يُمكن اليومَ الحديثُ عن المخطوط الرَّقْمي الإلكتروني، الذي بدوره يتعرَّض لعمليات التفاعل والترابُط النصي، كما يَستفيد من عمليَّات التصحيح والتعديل والتشطيب، وإن كان الحاسوب لا يترك آثارًا للكتابة مثل المخطوط الورقي، فالحاسوب يُصَحِّح كلَّ شيءٍ، ويُقَدِّم نُسَخًا جاهزة ومُعَدَّلة بطريقة آليَّة، فلا دخلَ للكاتب في عمليَّة الكتابة، فبرامج الحاسوب مُهَيَّأة لكلِّ الخطوط وأنواع الكتابة، فهناك المُصَحِّح الآلي الذاتي الذي يقوم بكلِّ شيءٍ في الوقت نفسه؛ لذا تَعرض لنا الشاشة مجموعةً من النصوص في دفْعة واحدة، فكلُّ المصادر تُحَضَّر بطريقة واحدة في زمنٍ واحد.
زِدْ على ذلك يهتمُّ النقد الجيني باستحضار جميع المسودات والمُدونات، والمنسوخات والمخطوطات، والكتابات المتنوِّعة التي وظَّفها الكاتب؛ سواءٌ من نصوصه السابقة، أو من أعمال الكُتَّاب الآخرين، وهذا النوع من الاقتباس الواعي وغير الواعي يُسمَّى بالتناص على مستوى الكتابة (Intertaxtualité)، وهذا التناص كان معروفًا عند الشاعر الفرنسي "أبولينير" وجماعة من الشعراء المعاصرين، ويدخل الكولاج أو الإلصاق النصي ضمن ما يُسمَّى بتناصِّ الكتابة أو المخطوطات، وقد اهتمَّ بهذا النوع من التناص كلٌّ من جان بيلمان نويل (Jean-Bellemin Noël)، ورايموند دوبراي جنيت (Raymonde Debray Genette).
3- رُوَّاد النقد الجيني:
يُمكن الحديث عن مجموعة من النُّقَّاد الذين اهتمُّوا بالنقد الجيني؛ إمَّا قديمًا كجوستاف لانسون، ورودلر، وب. أوديا (Audiat)، وتيبوديه (Albert Thibaudet)، وإمَّا حديثًا كجيرار جنيت (Gerard genette) الذي انكبَّ على دراسة التعالق النصي والعَتبات الفوقيَّة التي تُساعدنا على فَهْم النصِّ وتفسيره، ولوي هاي (Louis Hay) الذي اهتمَّ بأصول النقد التكويني ومنظوراته - تنظيرًا، وتقعيدًا، وتَأْريخًا - وجان بيلمان نويل (Jean Bellemin-Noël) الذي اهتمَّ بالقراءة النفسيَّة واللاشعور النصي، ودراسة النص في مرحلة ما قبل الطبع[6]، وبيير مارك دوبيازي (Pierre-Marc de Biasi) الذي استعرَض علمًا جديدًا لتحليل المخطوطات والمسودات، مع التركيز على مكوِّنات النقد الجيني[7]، ورايمون دوبراي جنيت (Raymonde Debray Genette) التي درَسَت مسودات فلوبير ومخطوطاته، وجاك نيف (Jacques Neefs) الذي اهتمَّ بالمسودات والنُّسخ المُتعدِّدة لدى شاتوبريان، ومونتاني وستاندال[8]، وهنري متيران (Henri Mitterand) الذي كان يُعنى بالنقد التكويني في أعمال إميل زولا ورواياته، ودانييل فيرر، وجان ميشيل راباتي (Daniel Ferrer and Jean-Michel Rabaté) الذين ركَّزوا على أعمال جيمس جويس بالدراسة واستكشاف مصادره الأولى، وألموث كريزيون (Almuth Grésillon) التي بحثَت في المخطوطات والمسودات في ضوء النقد التكويني، وكاترين فيولي (Catherine Viollet) التي حلَّلت بعض أعمال مارسيل بروست القَصصيَّة والروائيَّة، وفيليب لوجون (Philippe Lejeune) الذي درَس مجموعة من الأعمال الأوطبيوغرافيَّة (السِّيَر الذاتيَّة) في ضوء النقد التكويني، وجان لوي لوبراف (Jean-Louis Lebrave) الذي درس آثارَ الكتابة، وترسُّبات الذاكرة التناصيَّة، والتعالُقات النصيَّة.
4- تقويم المنهج التكويني:
من المعروف أنَّ للنقد التكويني نظرية ومنهجًا، وإيجابيَّات مهمَّة لا يُمكن الغضُّ عن أهميَّتها، أو الحط من قِيمتها، ولا سيَّما أنَّ هذا النقد يُساعدنا على الإحاطة بالنص بشكلٍ جَذري توليدي، وفَهْم العمل الأدبي بشكلٍ جيِّد على مستوى أصوله الأولى كتابةً واستنساخًا؛ حيث نَستكشف مصادره الأولى من خلال العودة إلى المُدونات والوثائق، والمسودات والمخطوطات لقراءتها، وتَبيُّن رؤية الكاتب، ومعرفة مُجمل المراحل التي مرَّ منها العمل، حتى وصَل إلى مرحلة الطبع والنَّشْر والتوزيع والاستهلاك.
إنها قراءة سريَّة لصناعة الكتابة، واستكناه أسرارها الواعية وغير الواعية، بيد أنَّ هذا النقد غير كافٍ لفَهم النصِّ وتفسيره من كلِّ جوانبه، فهذا النقد يُركِّز على مرحلة معيَّنة من الأدب، وهي مرحلة ما قبل النص، ويُغفِل مرحلة النص، وما بعد النص؛ أي: يهتمُّ فقط بمرحلة المخطوط والمسودة، ويَنسى النص الإبداعي الداخلي الذي يَحمل في طيَّاته ثقافة معيَّنة، ويتَّسم بخصائص فنيَّة وجماليَّة وأسلوبيَّة معيَّنة، تحتاج منَّا إلى قراءتها ودراستها في ضوء مناهج المحايثة والأسلوب والجمال، كما ينبغي الانتقال طبيعيًّا من النص إلى ما بعد النص، وذلك بالاتِّكاء على السياق السياسي والاجتماعي، والثقافي والنفسي، والتاريخي والاقتصادي.
خلاصات واستنتاجات:
وخلاصة القول نَستنتج مما سبَق ذِكره أنَّ النقد التكويني يهتمُّ بدراسة العمل الأدبي من بداية كونه مخطوطًا إلى أن يصيرَ كتابًا، وبمعنًى من المعاني، فإنه يهتمُّ بالمراحل التكوينيَّة التي يَقطعها الكاتب من مرحلة الفكرة والتسويد، والتصميم والتخطيط، إلى أن يتحوَّل إلى مُنتجٍ طباعي جماهيري.
وإذا كان النقد الغربي قد تمثَّلَ هذا المنهج التكويني والجيني بشكلٍ لافتٍ للانتباه، فإن النقد العربي المعاصر لَم يَلتجئ إلى هذه القراءة التكوينيَّة بَعْدُ بشكلٍ تَراكُمي مَقبول؛ بُغية معرفة كيف يتولَّد النصوص في أدبنا العربي القديم والحديث والمعاصر[9]؟ فلا بدَّ إذًا من الانفتاح على المناهج النقديَّة الغربيَّة، وتمثُّل نظرياتها الأدبيَّة، واستيعاب مفاهيمها ومصطلحاتها الإجرائيَّة لدراسة النصوص والأعمال الأدبيَّة، وذلك في ضوء مخطوطاتها ومُسوداتها، ومصادرها الأصليَّة الأولى.
[1] ديفيد كارتر؛ النظرية الأدبيَّة؛ ترجمة: د. باسل المسالمة، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص (151).
[2] انظر: مجموعة من الكُتَّاب؛ مدخل إلى مناهج النقد الأدبي؛ ترجمة: د. رضوان ظاظا، الناشر: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب - الكويت، الطبعة: الأولى، ذو الحجة 1417هـ - مايو / آيار 1997م.
[3] Almuth Grésillon: (La critique génétique, aujourd'hui et demain), 21 novembre 2006, http://www.item.ens.fr/index.php?id=14174.
[4] د. رمضان عبدالتواب؛ مناهج تحقيق التراث بين القُدامى والمُحدثين، مكتبة الخانجي بالقاهرة، مصر، الطبعة الثانية 2002م، ص (3).
[5] Gérard Genette: Seuils. Edition:Seuils,Paris,1987.
[6] Jean Bellemin-Noël, Le texte et l'avant-texte: Les brouillons d'un poème de Milosz (Paris: Larousse, 1972).
[7] Pierre-Marc de Biasi, "Paranoïa-Genèse. Remarques sur l'identité des recherches en génétique textuelle", eds. eds. Almuth Grésillon and M. Werner, Leçons d'écriture: ce que disent les manuscrits (Paris: Minard, 1985) 259-75.
[8] NEEFS (Jacques), "Critique génétique et histoire littéraire", in L'histoire, littéraire aujourd'hui, Paris, A. COLIN, 1990, p. 23.
[9] الكتاب الذي نشَره العراقي رحمن غركان تحت عنوان: المنهج التكويني من الرؤية إلى الإجراء، من مطبوعات مؤسَّسة الانتشار العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى سنة 2010م - لا علاقة له - بأيِّ حالٍ من الأحوال - بالنقد التكويني الذي طرَحناه في هذه الدراسة.
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|