عرض مشاركة واحدة
  #4  
قديم 09-09-2021, 05:37 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,690
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (52)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (7)

[ ص: 356 ] وَإِنَّمَا سُمِّيَ صَعِيدًا ; لِأَنَّهُ نِهَايَةُ مَا يُصْعَدُ إِلَيْهِ مِنَ الْأَرْضِ ، وَجَمْعُ الصَّعِيدِ صُعُدَاتٌ عَلَى غَيْرِ قِيَاسٍ ، وَمِنْهُ حَدِيثُ : " إِيَّاكُمْ وَالْجُلُوسَ فِي الصُّعُدَاتِ " ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْهُ .

وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ مِنْ أَجْلِ تَقْيِيدِهِ بِالطَّيِّبِ ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ : " الطَّيِّبُ " هُوَ الطَّاهِرُ ، فَيَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِوَجْهِ الْأَرْضِ كُلِّهِ ، تُرَابًا كَانَ أَوْ رَمْلًا ، أَوْ حِجَارَةً ، أَوْ مَعْدِنًا ، أَوْ سَبْخَةً ، إِذَا كَانَ ذَلِكَ طَاهِرًا ، وَهَذَا مَذْهَبُ مَالِكٍ ، وَأَبِي حَنِيفَةَ ، وَالثَّوْرِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .

وَقَالَتْ طَائِفَةٌ : الطَّيِّبُ : الْحَلَالُ ، فَلَا يَجُوزُ التَّيَمُّمُ بِتُرَابٍ مَغْصُوبٍ . وَقَالَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو يُوسُفَ : الصَّعِيدُ الطَّيِّبُ : التُّرَابُ الْمُنْبِتُ ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى : وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ الْآيَةَ [ 7 \ 58 ]

فَإِذَا عَلِمْتَ هَذَا ، فَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ لَهَا وَاسِطَةٌ وَطَرَفَانِ : طَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى جَوَازِ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَهُوَ التُّرَابُ الْمُنْبِتُ الطَّاهِرُ الَّذِي هُوَ غَيْرُ مَنْقُولٍ ، وَلَا مَغْصُوبٍ ; وَطَرَفٌ أَجْمَعَ جَمِيعُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى مَنْعِ التَّيَمُّمِ بِهِ ، وَهُوَ الذَّهَبُ وَالْفِضَّةُ الْخَالِصَانِ ، وَالْيَاقُوتُ وَالزُّمُرُّدُ ، وَالْأَطْعِمَةُ كَالْخُبْزِ وَاللَّحْمِ وَغَيْرِهِمَا ، وَالنَّجَاسَاتُ وَغَيْرُ هَذَا هُوَ الْوَاسِطَةُ الَّتِي اخْتَلَفَ فِيهَا الْعُلَمَاءُ ، فَمِنْ ذَلِكَ الْمَعَادِنُ .

فَبَعْضُهُمْ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَيْهَا كَمَالِكٍ ، وَبَعْضُهُمْ يَمْنَعُهُ كَالشَّافِعِيِّ وَمِنْ ذَلِكَ الْحَشِيشُ ، فَقَدْ رَوَى ابْنُ خُوَيْزٍ مِنْدَادُ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ يُجِيزُ التَّيَمُّمَ عَلَى الْحَشِيشِ إِذَا كَانَ دُونَ الْأَرْضِ ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ الْمَنْعُ ، وَمِنْ ذَلِكَ التَّيَمُّمُ عَلَى الثَّلْجِ ، فَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ فِي " الْمُدَوَّنَةِ " ، وَ " الْمَبْسُوطِ جَوَازُهُ " ، قِيلَ : مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : عِنْدَ عَدَمِ الصَّعِيدِ ، وَفِي غَيْرِهِمَا مَنْعُهُ .

وَاخْتُلِفَ عَنْهُ فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْعُودِ ، فَالْجُمْهُورُ عَلَى الْمَنْعِ ، وَفِي " مُخْتَصَرِ الْوَقَارِ " أَنَّهُ جَائِزٌ ، وَقِيلَ : يَجُوزُ فِي الْعُودِ الْمُتَّصِلِ بِالْأَرْضِ دُونَ الْمُنْفَصِلِ عَنْهَا ، وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ أَنَّ مَالِكًا قَالَ : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى شَجَرَةٍ ، ثُمَّ مَسَحَ بِهَا أَجَزَأَهُ ، قَالَ : وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ : يَجُوزُ بِالْأَرْضِ ، وَكُلُّ مَا عَلَيْهَا مِنَ الشَّجَرِ وَالْحَجَرِ ، وَالْمَدَرِ وَغَيْرِهَا حَتَّى قَالَا : لَوْ ضَرَبَ بِيَدِهِ عَلَى الْجَمَدِ وَالثَّلْجِ أَجْزَأَهُ .

وَذَكَرَ الثَّعْلَبِيُّ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُجِيزُهُ بِالْكُحْلِ ، وَالزَّرْنِيخِ ، وَالنَّوْرَةِ ، وَالْجَصِّ ، وَالْجَوْهَرِ الْمَسْحُوقِ ، وَيَمْنَعُهُ بِسُحَالَةِ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ ، وَالنُّحَاسِ ، وَالرَّصَاصِ ، لِأَنَّ [ ص: 357 ] ذَلِكَ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ الْأَرْضِ .

وَذَكَرَ النَّقَّاشُ عَنِ ابْنِ عُلَيَّةَ ، وَابْنِ كَيْسَانَ أَنَّهُمَا أَجَازَاهُ بِالْمِسْكِ ، وَالزَّعْفَرَانِ ، وَأَبْطَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذَا الْقَوْلَ ، وَمَنَعَهُ إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ بِالسِّبَاخِ ، وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ نَحْوُهُ ، وَعَنْهُ فِيمَنْ أَدْرَكَهُ التَّيَمُّمَ ، وَهُوَ فِي طِينٍ أَنَّهُ يَطْلِي بِهِ بَعْضَ جَسَدِهِ ، فَإِذَا جَفَّ تَيَمَّمَ بِهِ ، قَالَهُ الْقُرْطُبِيُّ .

وَأَمَّا التُّرَابُ الْمَنْقُولُ فِي طَبَقٍ أَوْ غَيْرِهِ ، فَالتَّيَمُّمُ بِهِ جَائِزٌ فِي مَشْهُورِ مَذْهَبِ مَالِكٍ ، وَهُوَ قَوْلُ جُمْهُورِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ ، وَأَصْحَابِهِ ، وَعَنْ بَعْضِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْعُهُ .

وَمَا طُبِخَ كَالْجَصِّ ، وَالْآجُرِّ فَفِيهِ أَيْضًا خِلَافٌ عَنِ الْمَالِكِيَّةِ ، وَالْمَنْعُ أَشْهَرُ .

وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي التَّيَمُّمِ عَلَى الْجِدَارِ ، فَقِيلَ : جَائِزٌ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ : مَمْنُوعٌ مُطْلَقًا ، وَقِيلَ بِجَوَازِهِ لِلْمَرِيضِ دُونَ غَيْرِهِ ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ الْآتِي يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ مُطْلَقًا .

وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَحَلَّهُ فِيمَا إِذَا كَانَ ظَاهِرُ الْجِدَارِ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّعِيدِ ، وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ جَوَازُ التَّيَمُّمِ عَلَى الْمَعَادِنِ غَيْرَ الذَّهَبِ ، وَالْفِضَّةِ مَا لَمْ تُنْقَلْ ، وَجَوَازُهُ عَلَى الْمِلْحِ غَيْرِ الْمَصْنُوعِ ، وَمَنْعُهُ بِالْأَشْجَارِ ، وَالْعِيدَانِ وَنَحْوِ ذَلِكَ ، وَأَجَازَهُ أَحْمَدُ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَالثَّوْرِيُّ عَلَى اللُّبَدِ ، وَالْوَسَائِدِ ; وَنَحْوِ ذَلِكَ إِذَا كَانَ عَلَيْهِ غُبَارٌ .

وَالتَّيَمُّمُ فِي اللُّغَةِ : الْقَصْدُ ، تَيَمَّمْتُ الشَّيْءَ قَصَدْتُهُ ، وَتَيَمَّمْتُ الصَّعِيدَ تَعَمَّدْتُهُ ، وَأَنْشَدَ الْخَلِيلُ قَوْلَ عَامِرِ بْنِ مَالِكٍ ، مُلَاعِبِ الْأَسِنَّةِ : [ الْبَسِيطُ ]


يَمَّمْتُهُ الرُّمْحَ شَزْرًا ثُمَّ قُلْتُ لَهُ هَذِي الْبَسَالَةُ لَا لَعِبُ الزَّحَالِيقِ


وَمِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ : [ الطَّوِيلُ ]


تَيَمَّمَتِ الْعَيْنَ الَّتِي عِنْدَ ضَارِجٍ يَفِيءُ عَلَيْهَا الظِّلُّ عَرْمَضُهَا طَامِي


وَقَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ : [ الْمُتَقَارِبُ ]


تَيَمَّمْتُ قَيْسًا وَكَمْ دُونَهُ مِنَ الْأَرْضِ مِنْ مَهْمَةٍ ذِي شَزَنْ


وَقَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ : [ الطَّوِيلُ ]


سَلِ الرَّبْعَ أَنَّى يَمَّمَتْ أُمُّ طَارِقٍ وَهَلْ عَادَةٌ لِلرَّبْعِ أَنْ يَتَكَلَّمَا


[ ص: 358 ] وَالتَّيَمُّمُ فِي الشَّرْعِ : الْقَصْدُ إِلَى الصَّعِيدِ الطَّيِّبِ لِمَسْحِ الْوَجْهِ ، وَالْيَدَيْنِ مِنْهُ بِنِيَّةِ اسْتِبَاحَةِ الصَّلَاةِ عِنْدَ عَدَمِ الْمَاءِ ، أَوِ الْعَجْزِ عَنِ اسْتِعْمَالِهِ ، وَكَوْنُ التَّيَمُّمِ بِمَعْنَى الْقَصْدِ يَدُلُّ عَلَى اشْتِرَاطِ النِّيَّةِ فِي التَّيَمُّمِ ، وَهُوَ الْحَقُّ .
مَسَائِلُ فِي أَحْكَامِ التَّيَمُّمِ

الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : لَمْ يُخَالِفْ أَحَدٌ مِنْ جَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ فِي التَّيَمُّمِ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ، وَكَذَلِكَ عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ، إِلَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ ، وَابْنِ مَسْعُودٍ ، وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ مِنَ التَّابِعِينَ أَنَّهُمْ مَنَعُوهُ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ .

وَنَقَلَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " عَنِ ابْنِ الصَّبَّاغِ وَغَيْرِهِ الْقَوْلَ بِرُجُوعِ عُمَرَ ، وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ذَلِكَ ، وَاحْتَجَّ لِمَنْ مَنَعَ التَّيَمُّمَ ، عَنِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ بِأَنَّ آيَةَ النِّسَاءِ لَيْسَ فِيهَا إِبَاحَتُهُ إِلَّا لِصَاحِبِ الْحَدَثِ الْأَصْغَرِ ; حَيْثُ قَالَ : أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا الْآيَةَ [ 4 \ 43 ] ، وَرَدُّ هَذَا الِاسْتِدْلَالِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ :

الْأَوَّلُ : أَنَا لَا نُسَلِّمُ عَدَمَ ذِكْرِ الْجَنَابَةِ فِي آيَةِ النِّسَاءِ ، لِأَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى : أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ [ 4 \ 43 ] ، فَسَّرَهُ تُرْجُمَانُ الْقُرْآنِ ابْنُ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، بِأَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْجِمَاعُ ، وَإِذًا فَذِكْرُ التَّيَمُّمِ بَعْدَ الْجِمَاعِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِاللَّمْسِ ، أَوِ الْمُلَامَسَةِ بِحَسَبِ الْقِرَاءَتَيْنِ ، وَالْمَجِيءُ مِنَ الْغَائِطِ دَلِيلٌ عَلَى شُمُولِ التَّيَمُّمِ لِحَالَتَيِ الْحَدَثِ الْأَكْبَرِ ، وَالْأَصْغَرِ .

الثَّانِي : أَنَّهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ ، صَرَّحَ بِالْجَنَابَةِ غَيْرَ مُعَبِّرٍ عَنْهَا بِالْمُلَامَسَةِ ، ثُمَّ ذَكَرَ بَعْدَهَا التَّيَمُّمَ ، فَدَلَّ عَلَى أَنْ يَكُونَ عَنْهَا أَيْضًا حَيْثُ قَالَ : إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [ 5 \ 6 ] ، ثُمَّ قَالَ : فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا الْآيَةَ [ 5 \ 6 ] .

فَهُوَ عَائِدٌ إِلَى الْمُحْدِثِ ، وَالْجُنُبِ جَمِيعًا ، كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ .

الثَّالِثُ : تَصْرِيحُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ الثَّابِتُ عَنْهُ فِي الصَّحِيحِ ; فَقَدْ أَخْرَجَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيْهِمَا عَنْ عَمَّارِ بْنِ يَاسِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، أَنَّهُ قَالَ : " أَجْنَبْتُ فَلَمْ أُصِبِ الْمَاءَ ، فَتَمَعَّكْتُ فِي الصَّعِيدِ وَصَلَّيْتُ ، فَذَكَرْتُ ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَقَالَ : " إِنَّمَا كَانَ يَكْفِيكَ هَكَذَا " ، [ ص: 359 ] وَضَرَبَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِكَفَّيْهِ الْأَرْضَ ، وَنَفَخَ فِيهِمَا ، ثُمَّ مَسَحَ بِهِمَا وَجْهَهُ ، وَكَفَّيْهِ " .

وَأَخْرَجَا فِي صَحِيحَيْهِمَا أَيْضًا مِنْ حَدِيثِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : " كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي سَفَرٍ فَصَلَّى بِالنَّاسِ ; فَإِذَا هُمْ بِرَجُلٍ مُعْتَزِلٍ ، فَقَالَ : مَا مَنَعَكَ أَنْ تُصَلِّيَ ؟ قَالَ : أَصَابَتْنِي جَنَابَةٌ وَلَا مَاءَ ، قَالَ : عَلَيْكَ بِالصَّعِيدِ ، فَإِنَّهُ يَكْفِيكَ " .

وَالْأَحَادِيثُ فِي الْبَابِ كَثِيرَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ ، هَلْ تَكْفِي لِلتَّيَمُّمِ ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ أَوْ لَا ؟ فَقَالَ جَمَاعَةٌ : تَكْفِي ضَرْبَةٌ وَاحِدَةٌ لِلْكَفَّيْنِ وَالْوَجْهِ ، وَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى ذَلِكَ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَعَطَاءٌ ، وَمَكْحُولٌ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَإِسْحَاقُ ، وَنَقْلَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ وَاخْتَارَهُ ، وَهُوَ قَوْلُ عَامَّةِ أَهْلِ الْحَدِيثِ ، وَدَلِيلُهُ حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ الْمُتَقَدِّمُ آنِفًا .

وَذَهَبَ أَكْثَرُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ ضَرْبَتَيْنِ : إِحْدَاهُمَا لِلْوَجْهِ ، وَالْأُخْرَى لِلْكَفَّيْنِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِوُجُوبِ الثَّانِيَةِ ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ بِسُنِّيَّتِهَا كَمَالِكٍ ، وَذَهَبَ ابْنُ الْمُسَيَّبِ ، وَابْنُ شِهَابٍ ، وَابْنُ سِيرِينَ إِلَى أَنَّ الْوَاجِبَ ثَلَاثُ ضَرَبَاتٍ : ضَرْبَةٌ لِلْوَجْهِ ، وَضَرْبَةٌ لِلْيَدَيْنِ ، وَضَرْبَةٌ لِلذِّرَاعَيْنِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الظَّاهِرُ مِنْ جِهَةِ الدَّلِيلِ الِاكْتِفَاءُ بِضَرْبَةٍ وَاحِدَةٍ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَصِحَّ مِنْ أَحَادِيثِ الْبَابِ شَيْءٌ مَرْفُوعًا ، إِلَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ الْمُتَقَدِّمَ ، وَحَدِيثُ أَبِي جُهَيْمِ بْنِ الْحَارِثِ بْنِ الصِّمَّةِ الْأَنْصَارِيِّ ، قَالَ : " أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، مِنْ نَحْوِ بِئْرِ جَمَلٍ فَلَقِيَهُ رَجُلٌ ، فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، حَتَّى أَقْبَلَ عَلَى الْجِدَارِ فَمَسَحَ بِوَجْهِهِ وَيَدَيْهِ ، ثُمَّ رَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ، أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ مَوْصُولًا ، وَمُسْلِمٌ تَعْلِيقًا ، وَلَيْسَ فِي وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُمَا ضَرْبَتَانِ كَمَا رَأَيْتَ ، وَقَدْ دَلَّ حَدِيثُ عَمَّارٍ أَنَّهَا وَاحِدَةٌ .
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ : هَلْ يَلْزَمُ فِي التَّيَمُّمِ مَسْحُ غَيْرِ الْكَفَّيْنِ ؟ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي ذَلِكَ ، فَأَوْجَبَ بَعْضُهُمُ الْمَسْحَ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ ، وَبِهِ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَصْحَابُهُمَا ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَابْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، وَاللَّيْثُ ، كُلُّهُمْ يَرَوْنَ بُلُوغَ التَّيَمُّمِ بِالْمِرْفَقَيْنِ فَرْضًا وَاجِبًا ، وَبِهِ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَابْنُ نَافِعٍ ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ إِسْمَاعِيلُ الْقَاضِي .

[ ص: 360 ] قَالَ ابْنُ نَافِعٍ : مَنْ تَيَمَّمَ إِلَى الْكُوعَيْنِ أَعَادَ الصَّلَاةَ أَبَدًا ، وَقَالَ مَالِكٌ : فِي الْمُدَوَّنَةِ يُعِيدُ فِي الْوَقْتِ ، وَرُوِيَ التَّيَمُّمُ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ مَرْفُوعًا ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَابْنِ عُمَرَ ، وَأَبِي أُمَامَةَ ، وَعَائِشَةَ ، وَعَمَّارٍ ، وَالْأَسْلَعِ ، وَسَيَأْتِي مَا فِي أَسَانِيدِ رِوَايَاتِهِمْ مِنَ الْمَقَالِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى ، وَبِهِ كَانَ يَقُولُ ابْنُ عُمَرَ ، وَقَالَ ابْنُ شِهَابٍ : يَمْسَحُ فِي التَّيَمُّمِ إِلَى الْآبَاطِ .

وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالتَّيَمُّمِ إِلَى الْمِرْفَقَيْنِ بِمَا رُوِيَ عَمَّنْ ذَكَرْنَا مِنْ ذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَبِأَنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ يَفْعَلُهُ ، وَبِالْقِيَاسِ عَلَى الْوُضُوءِ ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى فِيهِ : وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : الَّذِي يَظْهَرُ مِنَ الْأَدِلَّةِ وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ ، أَنَّ الْوَاجِبَ فِي التَّيَمُّمِ هُوَ مَسْحُ الْكَفَّيْنِ فَقَطْ ، لِمَا قَدَّمْنَا مِنْ أَنَّ الْأَحَادِيثَ الْوَارِدَةَ فِي صِفَةِ التَّيَمُّمِ لَمْ يَصِحَّ مِنْهَا شَيْءٌ ثَابِتُ الرَّفْعِ إِلَّا حَدِيثَ عَمَّارٍ : وَحَدِيثَ أَبِي جُهَيْمٍ الْمُتَقَدِّمَيْنِ .

أَمَّا حَدِيثُ أَبِي جُهَيْمٍ ، فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْيَدَيْنِ مُجْمَلًا ، كَمَا رَأَيْتَ ، وَأَمَّا حَدِيثُ عَمَّارٍ فَقَدْ وَرَدَ بِذِكْرِ الْكَفَّيْنِ فِي الصَّحِيحَيْنِ ، كَمَا قَدَّمْنَا آنِفًا . وَوَرَدَ فِي غَيْرِهِمَا بِذِكْرِ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى نِصْفِ الذِّرَاعِ ، وَفِي رِوَايَةٍ إِلَى الْآبَاطِ ، فَأَمَّا رِوَايَةُ الْمِرْفَقَيْنِ ، وَنِصْفِ الذِّرَاعِ ، فَفِيهِمَا مَقَالٌ سَيَأْتِي ، وَأَمَّا رِوَايَةُ الْآبَاطِ ، فَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَغَيْرُهُ : إِنْ كَانَ ذَاكَ وَقَعَ بِأَمْرِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، فَكُلُّ تَيَمُّمٍ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَهُ فَهُوَ نَاسِخٌ لَهُ ; وَإِنْ كَانَ وَقَعَ بِغَيْرِ أَمْرِهِ ، فَالْحُجَّةُ فِيمَا أَمَرَ بِهِ ، وَمِمَّا يُقَوِّي رِوَايَةَ الصَّحِيحَيْنِ فِي الِاقْتِصَارِ عَلَى الْوَجْهِ وَالْكَفَّيْنِ ، كَوْنُ عَمَّارٍ كَانَ يُفْتِي بَعْدَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِذَلِكَ ; وَرَاوِي الْحَدِيثِ أَعْرِفُ بِالْمُرَادِ بِهِ مِنْ غَيْرِهِ ; وَلَا سِيَّمَا الصَّحَابِيُّ الْمُجْتَهِدُ ، قَالَهُ ابْنُ حَجَرٍ فِي " الْفَتْحِ " .

وَأَمَّا فِعْلُ ابْنُ عُمَرَ ، فَلَمْ يَثْبُتْ رَفْعُهُ إِلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، وَالْمَوْقُوفُ عَلَى ابْنِ عُمَرَ لَا يُعَارَضُ بِهِ مَرْفُوعٌ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَمَّارٍ .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.84 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 34.21 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.80%)]