عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 09-09-2021, 04:36 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 159,892
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (50)

سُورَةُ الْمَائِدَةِ (5)

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : إِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَسْحِ عَلَى النَّعْلَيْنِ وَالْجَوْرَبَيْنِ ، أَنَّ [ ص: 346 ] الْجَوْرَبَيْنِ مُلْصَقَانِ بِالنَّعْلَيْنِ ، بِحَيْثُ يَكُونُ الْمَجْمُوعُ سَاتِرًا لِمَحَلِّ الْفَرْضِ مَعَ إِمْكَانِ تَتَابُعِ الْمَشْيِ فِيهِ ، وَالْجَوْرَبَانِ صَفِيقَانِ فَلَا إِشْكَالَ .

وَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ الْمَسْحَ عَلَى النَّعْلَيْنِ بِانْفِرَادِهِمَا ، فَفِي النَّفْسِ مِنْهُ شَيْءٌ ; لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ لَمْ يَغْسِلْ رِجْلَهُ ، وَلَمْ يَمْسَحْ عَلَى سَاتِرٍ لَهَا ، فَلَمْ يَأْتِ بِالْأَصْلِ ، وَلَا بِالْبَدَلِ .

وَالْمَسْحُ عَلَى نَفْسِ الرِّجْلِ تَرُدُّهُ الْأَحَادِيثُ الصَّحِيحَةُ الْمُصَرِّحَةُ بِمَنْعِ ذَلِكَ بِكَثْرَةٍ كَقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنَ النَّارِ " ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَوْقِيتِ الْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ .

فَذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ إِلَى تَوْقِيتِ الْمَسْحِ بِيَوْمٍ وَلَيْلَةٍ لِلْمُقِيمِ ، وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ بِلَيَالِيهِنَّ لِلْمُسَافِرِ .

وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الْأَئِمَّةُ الثَّلَاثَةُ : أَبُو حَنِيفَةَ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَأَحْمَدُ ، وَأَصْحَابُهُمْ وَهُوَ مَذْهَبُ الثَّوْرِيِّ ، وَالْأَوْزَاعِيِّ ، وَأَبِي ثَوْرٍ ، وَإِسْحَاقَ بْنِ رَاهَوَيْهِ ، وَدَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ ، وَمُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ ، وَالْحَسَنِ بْنِ صَالِحِ بْنِ حُسَيْنٍ .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ الصَّحَابَةِ : عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ، وَابْنُ مَسْعُودٍ ، وَابْنُ عَبَّاسٍ ، وَحُذَيْفَةُ ، وَالْمُغِيرَةُ ، وَأَبُو زَيْدٍ الْأَنْصَارِيُّ .

وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، وَعَنْ جَمِيعِهِمْ .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ مِنَ التَّابِعِينَ شُرَيْحٌ الْقَاضِي ، وَعَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ ، وَالشَّعْبِيُّ ، وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ .

وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ : أَكْثَرُ التَّابِعِينَ وَالْفُقَهَاءِ عَلَى ذَلِكَ .

وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ : التَّوْقِيتُ ثَلَاثًا لِلْمُسَافِرِ ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً لِلْمُقِيمِ هُوَ قَوْلُ عَامَّةِ الْعُلَمَاءِ مِنَ الصَّحَابَةِ ، وَالتَّابِعِينَ وَمَنْ بَعْدَهُمْ .

وَقَالَ الْخَطَّابِيُّ : التَّوْقِيتُ قَوْلُ عَامَّةِ الْفُقَهَاءِ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ .

وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ بِتَوْقِيتِ الْمَسْحِ الْأَحَادِيثُ الْوَارِدَةُ بِذَلِكَ ، فَمِنْ ذَلِكَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ ، يَوْمٌ وَلَيْلَةٌ " ، أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ ، وَالْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ [ ص: 347 ] حِبَّانَ .

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " أَنَّهُ رَخَّصَ لِلْمُسَافِرِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ ، وَلِلْمُقِيمِ يَوْمًا وَلَيْلَةً ، إِذَا تَطَهَّرَ فَلَبِسَ خُفَّيْهِ أَنْ يَمْسَحَ عَلَيْهِمَا " ، أَخْرَجَهُ ابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ ، وَابْنُ أَبِي شَيْبَةَ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالْبَيْهَقِيُّ ، وَالتِّرْمِذِيُّ فِي الْعِلَلِ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ الْجَارُودِ ، وَالْأَثْرَمُ فِي سُنَنِهِ ، وَصَحَّحَهُ الْخَطَّابِيُّ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَغَيْرُهُمَا .

وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا حَدِيثُ صَفْوَانَ بْنِ عَسَّالٍ الْمُرَادِيِّ قَالَ : " أَمَرَنَا ، يَعْنِي النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ، أَنْ نَمْسَحَ عَلَى الْخُفَّيْنِ إِذَا نَحْنُ أَدْخَلْنَاهَا عَلَى طُهْرٍ ثَلَاثًا إِذَا سَافَرْنَا ، وَيَوْمًا وَلَيْلَةً إِذَا أَقَمْنَا ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا مِنْ غَائِطٍ ، وَلَا بَوْلٍ ، وَلَا نَوْمٍ ، وَلَا نَخْلَعَهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ " ، أَخْرَجَهُ الْإِمَامُ أَحْمَدُ ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ ، وَالتِّرْمِذِيُّ ، وَصَحَّحَاهُ ، وَالنَّسَائِيُّ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَالشَّافِعِيُّ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ ، وَالْبَيْهَقِيُّ .

قَالَ الشَّوْكَانِيُّ فِي " نَيْلِ الْأَوْطَارِ " : وَحَكَى التِّرْمِذِيُّ عَنِ الْبُخَارِيِّ ، أَنَّهُ حَدِيثٌ حَسَنٌ ، وَمَدَارُهُ عَلَى عَاصِمِ بْنِ أَبِي النُّجُودِ ، وَهُوَ صَدُوقٌ ، سَيِّئُ الْحِفْظِ ، وَقَدْ تَابَعَهُ جَمَاعَةٌ ، وَرَوَاهُ عَنْهُ أَكْثَرُ مِنْ أَرْبَعِينَ نَفْسًا ، قَالَهُ ابْنُ مِنْدَهْ ، اهـ .

وَذَهَبَتْ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى عَدَمِ تَوْقِيتِ الْمَسْحِ وَقَالُوا : إِنَّ مَنْ لَبِسَ خُفَّيْهِ وَهُوَ طَاهِرٌ ، مَسَحَ عَلَيْهِمَا مَا بَدَا لَهُ ، وَلَا يَلْزَمُهُ خَلْعُهُمَا إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا الْقَوْلِ مَالِكٌ ، وَأَصْحَابُهُ ، وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ ، وَالْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ .

وَيُرْوَى عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَرَبِيعَةَ ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي الْقَدِيمِ ، وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ، وَابْنِهِ عَبْدِ اللَّهِ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

وَحُجَّةُ أَهْلِ هَذَا الْقَوْلِ مَا رَوَاهُ الْحَاكِمُ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، عَنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " إِذَا تَوَضَّأَ أَحَدُكُمْ ، فَلَبِسَ خُفَّيْهِ ، فَلْيَمْسَحْ عَلَيْهِمَا ، وَلْيُصَلِّ فِيهِمَا ، وَلَا يَخْلَعْهُمَا إِنْ شَاءَ ، إِلَّا مِنْ جَنَابَةٍ وَنَحْوِهِ " . وَأَخْرَجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ .

وَهَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ الَّذِي أَخْرَجَهُ الْحَاكِمُ وَغَيْرُهُ ، يَعْتَضِدُ بِمَا رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ مَيْمُونَةَ بِنْتِ الْحَارِثِ الْهِلَالِيَّةِ ، زَوْجِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ عَدَمِ التَّوْقِيتِ .

[ ص: 348 ] وَيُؤَيِّدُهُ أَيْضًا مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَابْنُ مَاجَهْ ، وَابْنُ حِبَّانَ ، عَنْ خُزَيْمَةَ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ زَادَ فِي حَدِيثِ التَّوْقِيتِ مَا لَفْظُهُ : وَلَوِ اسْتَزَدْنَاهُ لَزَادَنَا ، وَفِي لَفْظٍ : " لَوْ مَضَى السَّائِلُ عَلَى مَسْأَلَتِهِ لَجَعَلَهَا خَمْسًا " ، يَعْنِي لَيَالِيَ التَّوْقِيتِ لِلْمَسْحِ .

وَحَدِيثُ خُزَيْمَةَ هَذَا الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ الْمَذْكُورَةُ صَحَّحَهُ ابْنُ مَعِينٍ ، وَابْنُ حِبَّانَ وَغَيْرُهُمَا ، وَبِهِ تَعْلَمُ أَنَّ ادِّعَاءَ النَّوَوِيِّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " الِاتِّفَاقَ عَلَى ضَعْفِهِ ، غَيْرُ صَحِيحٍ .

وَقَوْلُ الْبُخَارِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ . إِنَّهُ لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ لِأَنَّهُ لَا يُعْرَفُ لِلْجَدَلِيِّ سَمَاعٌ مِنْ خُزَيْمَةَ ، مَبْنِيٌّ عَلَى شَرْطِهِ ، وَهُوَ ثُبُوتُ اللُّقِىِّ .

وَقَدْ أَوْضَحَ مُسْلِمُ بْنُ الْحَجَّاجِ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي مُقَدِّمَةِ صَحِيحِهِ ، أَنَّ الْحَقَّ هُوَ الِاكْتِفَاءُ بِإِمْكَانِ اللُّقِىِّ بِثُبُوتِ الْمُعَاصَرَةِ ، وَهُوَ مَذْهَبُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .

فَإِنْ قِيلَ : حَدِيثُ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ ، ظَنَّ فِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ ، وَقَدْ رَوَاهُ غَيْرُهُ ، وَلَمْ يَظُنَّ هَذَا الظَّنَّ ، وَلَا حُجَّةَ فِي ظَنِّ صَحَابِيٍّ خَالَفَهُ غَيْرُهُ فِيهِ .

فَالْجَوَابُ : أَنَّ خُزَيْمَةَ هُوَ ذُو الشَّهَادَتَيْنِ الَّذِي جَعَلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَثَابَةِ شَاهِدَيْنِ ، وَعَدَالَتُهُ ، وَصِدْقُهُ ، يَمْنَعَانِهِ مِنْ أَنْ يَجْزِمَ بِأَنَّهُ لَوِ اسْتُزِيدَ لَزَادَ إِلَّا وَهُوَ عَارِفٌ أَنَّ الْأَمْرَ كَذَلِكَ ، بِأُمُورٍ أُخَرَ اطَّلَعَ هُوَ عَلَيْهَا ، وَلَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهَا غَيْرُهُ .

وَمِمَّا يُؤَيِّدُ عَدَمَ التَّوْقِيتِ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَقَالَ : لَيْسَ بِالْقَوِيِّ عَنْ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ، أَنَّهُ قَالَ : " يَا رَسُولَ اللَّهِ أَمْسَحُ عَلَى الْخُفَّيْنِ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : يَوْمًا ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَيَوْمَيْنِ ، قَالَ : نَعَمْ ، قَالَ : وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ، قَالَ : نَعَمْ ، وَمَا شِئْتَ " .

وَهَذَا الْحَدِيثُ وَإِنْ كَانَ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا مُسْتَقِلًّا ، فَإِنَّهُ يَصْلُحُ لِتَقْوِيَةِ غَيْرِهِ مِنَ الْأَحَادِيثِ الَّتِي ذَكَرْنَا .

فَحَدِيثُ أَنَسٍ فِي عَدَمِ التَّوْقِيتِ صَحِيحٌ ، وَيَعْتَضِدُ بِحَدِيثِ خُزَيْمَةَ الَّذِي فِيهِ الزِّيَادَةُ ، وَحَدِيثُ مَيْمُونَةَ ، وَحَدِيثُ أُبَيِّ بْنِ عُمَارَةَ ، وَبِالْآثَارِ الْمَوْقُوفَةِ عَلَى عُمَرَ ، وَابْنِهِ ، وَعُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ .

تَنْبِيهٌ

الَّذِي يَظْهَرُ لِي وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ الْجَمْعُ فِي هَذِهِ الْأَحَادِيثِ بِحَمْلِ [ ص: 349 ] الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ ، لِأَنَّ الْمُطْلَقَ هُنَا فِيهِ التَّصْرِيحُ بِجَوَازِ الْمَسْحِ أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثٍ لِلْمُسَافِرِ ، وَالْمُقِيمِ ، وَالْمُقَيَّدُ فِيهِ التَّصْرِيحُ بِمَنْعِ الزَّائِدِ عَلَى الثَّلَاثِ لِلْمُسَافِرِ وَالْيَوْمِ وَاللَّيْلَةِ لِلْمُقِيمِ ; فَهُمَا مُتَعَارِضَانِ فِي ذَلِكَ الزَّائِدِ ، فَالْمُطْلَقُ يُصَرِّحُ بِجَوَازِهِ ، وَالْمُقَيَّدُ يُصَرِّحُ بِمَنْعِهِ ، فَيَجِبُ التَّرْجِيحُ بَيْنَ الْأَدِلَّةِ ، فَتُرَجَّحُ أَدِلَّةُ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا أَحْوَطُ ، كَمَا رَجَّحَهَا بِذَلِكَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ ، وَبِأَنَّ رُوَاتَهَا مِنَ الصَّحَابَةِ أَكْثَرُ ، وَبِأَنَّ مِنْهَا مَا هُوَ ثَابِتٌ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ ، وَهُوَ حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ الْمُتَقَدِّمُ .

وَقَدْ تَرْجَّحَ أَدِلَّةُ عَدَمِ التَّوْقِيتِ بِأَنَّهَا تَضَمَّنَتْ زِيَادَةً ، وَزِيَادَةُ الْعَدْلِ مَقْبُولَةٌ ، وَبِأَنَّ الْقَائِلَ بِهَا مُثْبِتٌ أَمْرًا ، وَالْمَانِعُ مِنْهَا نَافٍ لَهُ ، وَالْمُثْبِتُ أَوْلَى مِنَ النَّافِي .

قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّهُ عَنْهُ - : وَالنَّفْسُ إِلَى تَرْجِيحِ التَّوْقِيتِ أَمْيَلُ ; لِأَنَّ الْخُرُوجَ مِنَ الْخِلَافِ أَحْوَطُ كَمَا قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ : [ الرَّجَزُ ]


إِنِ الْأَوْرَعَ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ خِلَافِهِمْ وَلَوْ ضَعِيفًا فَاسْتَبِنْ


وَقَالَ الْآخَرُ : [ الرَّجَزُ ]


وَذُو احْتِيَاطٍ فِي أُمُورِ الدِّينِ مَنْ فَرَّ مَنْ شَكٍّ إِلَى يَقِينِ


وَمِصْدَاقُ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " دَعْ مَا يَرِيبُكَ إِلَى مَا لَا يَرِيبُكَ " .

فَالْعَامِلُ بِأَدِلَّةِ التَّوْقِيتِ طَهَارَتُهُ صَحِيحَةٌ بِاتِّفَاقِ الطَّائِفَتَيْنِ ، بِخِلَافِ غَيْرِهِ فَإِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ تَقُولُ بِبُطْلَانِهَا بَعْدَ الْوَقْتِ الْمُحَدَّدِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَاعْلَمْ أَنَّ الْقَائِلِينَ بِالتَّوْقِيتِ اخْتَلَفُوا فِي ابْتِدَاءِ مُدَّةِ الْمَسْحِ .

فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَصْحَابُهُمَا ، وَأَحْمَدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ ، وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ ، وَدَاوُدُ فِي أَصَحِّ الرِّوَايَتَيْنِ ، وَغَيْرُهُمْ ، إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ مُدَّةِ التَّوْقِيتِ مِنْ أَوَّلِ حَدَثٍ يَقَعُ بَعْدَ لُبْسِ الْخُفِّ ، وَهَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْعُلَمَاءِ .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِزِيَادَةٍ رَوَاهَا الْحَافِظُ الْقَاسِمُ بْنُ زَكَرِيَّا الْمُطَرِّزُ فِي حَدِيثِ صَفْوَانَ : مِنَ الْحَدَثِ إِلَى الْحَدَثِ .

قَالَ النَّوَوِيُّ فِي " شَرْحِ الْمُهَذَّبِ " : وَهِيَ زِيَادَةٌ غَرِيبَةٌ لَيْسَتْ ثَابِتَةً .

وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِالْقِيَاسِ وَهُوَ أَنَّ الْمَسْحَ عِبَادَةٌ مُؤَقَّتَةٌ ، فَيَكُونُ ابْتِدَاءُ وَقْتِهَا مِنْ حِينِ جَوَازِ فِعْلِهَا قِيَاسًا عَلَى الصَّلَاةِ .

[ ص: 350 ] وَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ يَمْسَحُ بَعْدَ الْحَدَثِ .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهَذَا ، الْأَوْزَاعِيُّ ، وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَهُوَ إِحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْ أَحْمَدَ ، وَدَاوُدَ ، وَرَجَّحَ هَذَا الْقَوْلَ النَّوَوِيُّ ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، وَحُكِيَ نَحْوُهُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ .

وَاحْتَجَّ أَهْلُ هَذَا الْقَوْلِ بِأَحَادِيثِ التَّوْقِيتِ فِي الْمَسْحِ ، وَهِيَ أَحَادِيثٌ صِحَاحٌ .

وَوَجْهُ احْتِجَاجِهِمْ بِهَا أَنَّ قَوْلَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : " يَمْسَحُ الْمُسَافِرُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ " صَرِيحٌ ، فِي أَنَّ الثَّلَاثَةَ كُلَّهَا ظَرْفٌ لِلْمَسْحِ .

وَلَا يَتَحَقَّقُ ذَلِكَ إِلَّا إِذَا كَانَ ابْتِدَاءُ الْمُدَّةِ مِنَ الْمَسْحِ ، وَهَذَا هُوَ أَظْهَرُ الْأَقْوَالِ دَلِيلًا فِيمَا يَظْهَرُ لِي ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .

وَفِي الْمَسْأَلَةِ قَوْلٌ ثَالِثٌ ، وَهُوَ أَنَّ ابْتِدَاءَ الْمُدَّةِ مِنْ حِينِ لُبْسِ الْخُفِّ ، وَحَكَاهُ الْمَاوَرْدِيُّ وَالشَّاشِيُّ ، عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ، قَالَهُ النَّوَوِيُّ ، وَاللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ .
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ : اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ : هَلْ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِ الْخُفِّ ، أَوْ لَا بُدَّ مِنْ مَسْحِ ظَاهِرِهِ وَبَاطِنِهِ .

فَذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ إِلَى أَنَّهُ يَكْفِي مَسْحُ ظَاهِرِهِ .

وَمِمَّنْ قَالَ بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ ، وَأَحْمَدُ ، وَالثَّوْرِيُّ ، وَالْأَوْزَاعِيُّ ، وَحَكَاهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ ، عَنِ الْحَسَنِ ، وَعُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ، وَعَطَاءٍ ، وَالشَّعْبِيِّ ، وَالنَّخَعِيِّ ، وَغَيْرِهِمْ .

وَأَصَحُّ الرِّوَايَاتِ عَنْ أَحْمَدَ أَنَّ الْوَاجِبَ مَسْحُ أَكْثَرِ أَعْلَى الْخُفِّ ، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَكْفِي عِنْدَهُ مَسْحُ قَدْرِ ثَلَاثَةِ أَصَابِعَ مِنْ أَعْلَى الْخُفِّ .

وَحُجَّةُ مَنِ اقْتَصَرَ عَلَى مَسْحِ ظَاهِرِ الْخُفِّ دُونَ أَسْفَلِهِ ، حَدِيثُ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : " لَوْ كَانَ الدِّينُ بِالرَّأْيِ لَكَانَ أَسْفَلُ الْخُفِّ أَوْلَى بِالْمَسْحِ مِنْ أَعْلَاهُ ، لَقَدْ رَأَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَمْسَحُ عَلَى ظَاهِرِ خُفَّيْهِ " أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ .

قَالَ ابْنُ حَجَرٍ فِي " بُلُوغِ الْمَرَامِ " : إِسْنَادُهُ حَسَنٌ .

وَقَالَ فِي " التَّلْخِيصِ " : إِسْنَادُهُ صَحِيحٌ .


__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 31.12 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 30.49 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.02%)]