
09-09-2021, 03:56 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 161,156
الدولة :
|
|
رد: شذرات عن طريق طالب العلم
شذرات عن طريق طالب العلم (٣)
إبراهيم العيدان
الحمد لله مصليًا على رسوله وآلِه وصحبه ومسلِّمًا، وبعد:
فهذا هو الجزء الثالث والأخير من مجموع رسائل (شذرات عن طريق طالب العلم)، وبه تكمل المائة في أجزاء ثلاثة؛ وهي كلمات قصيرة لعلَّها تُعين الطالبَ في طلَبه، وإن كانت في الأصل موجَّهة لطالب العلم المبتدئ، وقد تكون تَذكِرةً وذكرى للمنتهي، بعضها نقلًا، وبعضها رَقْمًا، سبق أن أرسلتُها إلى مجموعة من الأحبَّة كرسائل قصيرة، ورأيتُ جمعَها وعرضها ليُنتفع بها، يا ربِّ حقِّق المُنى، وأخلِص النيَّةَ، وأصلح العمل.
إبراهيم بن محمد العيدان
♦ ♦ ♦
طالب العلم إذا ازداد علمًا، ازداد حرصًا وبغيةً وشفقةً ولهفةً على العلم وأهله، يقوى تشبُّثه به، ولا يبرحُ يَعَضُّ عليه بالنواجذ، ويقبض على جمر التضحية في سبيله...
قال الإمام الشافعي رحمه الله: "العالمُ يُسأَلُ عمَّا يعلم وعمَّا لا يعلم، فيُثبِت ما يعلم، ويتعلَّم ما لا يَعلَم، والجاهل يَغضَب من التعلُّم، ويأنف من التعليم"[1].
♦ ♦ ♦
حياة طالب العلم وقِوامه بإخلاصه لله، وتعاهده كسرَ كبرياء نفسه؛ حتى تَسلَم له وتنجو، ولسان حاله: "ولعلِّي أنجو ولعلي...".
قال عمرو بن سواد: قال لي الشافعي: "كانت نَهْمتي في الرَّمْي وطلب العلم، فنِلْتُ من الرمي حتى كنت أصيبُ من عشرة عشرةً، وسكَتَ عن العلم، فقلت: أنت واللهِ في العلم أكبرُ منك في الرَّمْيِ"[2].
♦ ♦ ♦
طالبُ العلم طالبٌ للحق ببصر الشرع لا بدافع الهَوَى؛ ولذا فهو في زُمْرة من "عبروا جسورَ الهوى حتى أناخوا بفناءِ العلم، فاستَقَوْا من غدير الحكمة"[3]، وليس ممن طلب العلم للهوى فامتلأ من هواه حتى ثَمالةِ الهوان.
إذا ما رأيت المرءَ يقتادُه الهوى ♦♦♦ فقد ثَكِلتْه عند ذاك ثواكلُهْ[4]
ولذا؛ تجده يراقب قلبَه أن يميل عن قَصْد الحق، ويدخل في دهاليز الهوى الزَّلِقة؛ خشيةَ أن يقع فيما وقع فيه صاحب الأعراف؛ فيضلَّ عن المراد، ويُوصم بأشنع الأوصاف.
♦ ♦ ♦
لا يجتمع كِبْر وطلب علم في قلب واحد حتى تُدرك الشمسُ القمر، وحتى يسبق الليلُ النهار.
سنة الله في من تكبَّر أن يصرف عن العلم، ويصرف عنه العلم، ﴿ سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ﴾ [الأعراف: 146].
يا طالبَ العلمِ، تواضع لعلمك تَنلْه، تواضع لشيخك تضمَنْه، تواضع لنفسِك تُوفَّقْ، تواضع لربِّك يرفَعْك.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، اجعل سبيلك للوصول إلى الحق الحقَّ نفسَه الذي يفرض سطوتَه على عقلك وقلبك، وإياك واستعمالَ الهوى؛ فما قام أحدٌ بالهوى إلا وهوَى! وكيف تستعمل الهوى، ولا نور علمٍ ولا صدق عزمٍ ولا صبر طلبٍ إلا وكان الهوى وقودًا عليه حتى يُخمِدَه؟ أفتتخذه سبيلًا وهو لك عدو؟ بئس لمتَّخذه بدلًا!
قال علي بن عبيدة: "العقل والهوى ضدَّان، فمؤيِّد العقل التوفيق، وقرين الهوى الخذلان، والنفس بينهما، فأيهما ظَفِر كانت في حيِّزه"[5].
♦ ♦ ♦
يا محبَّ العلم وباغيه، وصاحبه وشاريه، لَلهف قلبك وشغفه على تحصيل حظِّك من العلم خيرُ وقود لتصلَ إلى مرغوبك وأنفعه وأنجعه، ولا غَرْوَ؛ فإن الملوك إذا ما أحبوا شيئًا، جعلوا له كلَّ شيء.
والقلب ملك؛ فأَوْرِ ضرامَ الحب، واسكُبْ سلسل العشق، فإن "العمل عن المحبة لا يداخله الفتور"[6]، واركُضْ ركضَ الصبيان؛ حتى تنال مثلَ ما نال الكبارُ؛ كابن حنبلٍ سيدِ شيبان.
قال محمد بن إسماعيل الصائغ رحمه الله: "كنت في إحدى سفراتي ببغدادَ، فمرَّ بنا أحمدُ بن حنبل وهو يعدو، ونعلاه في يدِه، فأخذ أبي هكذا بمَجامِع ثوبِه، فقال: يا أبا عبدالله، ألا تستحي؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال: إلى الموت"[7].
♦ ♦ ♦
كلما كان الطالبُ أعرفَ بنفسه وقدراته ومجال انطلاق فكرِه، وبحر نشاطه - كان رعيُه لقراءته وبحثه وتطويره ودراسته أكثرَ وأكبر، وعكس ذا بعكسه؛ ولذا، فاعرف بحقٍّ محيطك لتحيطَ منه، واستَشِر ذا لبٍّ في مجالك لتجولَ به، ولا تكن ممن يضني، ويضيِّع نفسه، وينظر إلى متاع غيره، فمتى ينظرُ فيما بين يديه فينَمِّيه؟!
فالنفس أبواب؛ فاعرف بابَك والزَمْه، فمن فُتِح له باب خير، فلينتهزه؛ فإنه لا يدري متى يُغلَق عنه.
♦ ♦ ♦
قلَّما تجد طالب علم جادًّا مُخلِفًا لموعد درسِه وساعة حظِّه من غير عذر، وأسفِ قلب؛ لأنه يعلم يقينًا أن خسارته وحسرته وحرقةَ فؤاده وإن بلغت عنان السماء، فلن تُعوِّض جزءًا مجزَّأً مما فقد؛ ولذا فقد ضرب الكبار أسمى الأمثال وأكرم الأفعال.
قال القاضي أبو يوسف: "مات ابنٌ لي، فلم أحضر جِهازَه ولا دفنه، وتركته على جيراني وأقربائي؛ مخافةَ أن يفوتني من أبي حنيفة شيءٌ لا تذهب حسرُته عني"[8].
قال العلامة محمد بن محمد المختار الشنقيطي: "ويعلمُ اللهُ عالمُ السر والنجوى لا أعرف في حياتي أني اعتذرت عن درسٍ يومًا من الأيام، أو عن محاضرة إلا وأعدَدْتُ لي جوابًا بين يدَيِ الله"[9].
فإذا قرعَ قلبَك مثل هذا، علمت معنى قول ابن عُيَيْنة: "كان الشاب إذا وقع في الحديث احتسبه أهله"[10]؛ لشدة انقطاعه وتفرُّغه.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، تروَّ وتأنَّ؛ فالصواب إلى المتأني أدنى منه إلى المتعجل، ولا تكن ملقافًا؛ فقد يكون ما تصوبه اليوم من غير تحسُّب وتريُّث أخطأَ شيء عندك غدًا! وقد يصبح ما تعدُّه الساعة فادحًا لبَّ الصواب في حين آخر!
قال الإمام مالك: "كان يقال: التأنِّي من الله، والعجلة من الشيطان، وما عَجِل امرؤ فأصاب، واتَّأد آخر فأخطأ، إلَّا كان الذي اتَّأد أصوب رأيًا، ولا عَجِل امرؤ فأخطأ، واتَّأد آخر فأخطأ، إلَّا كان الذي اتَّأد أيسرَ خطأ"[11].
وليس ذا فحسب، بل "من تأنى وتثبَّت، تهيأ له من الصواب ما لا يتهيأ لصاحب البديهة" كما قال أبو عثمان بن الحداد[12].
فراعِ ذا، تُمنَح خيرًا وفيرًا.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، ابتغ بعلمك إظهار الحق وإعزازه، والوصول إليه والدعوة، فإنها ما دامت بوصلتك باتجاه الحق لا تزيغ عنه، أُجريَت الحكمة على قلبك ولسانك وبيانك، ومتى ما بِنتَ من الحق بعد إذ تبيَّن، وقعت في الباطل، وكفى بتركك الحقَّ ورده أمارةً ودلالةً على بطلان ما وقعت فيه.
قال العلامة ابن سعدي رحمه الله: "ومن ردَّ الحق فمحالٌ أن يوجد له دليل أو حجة تدل على صحة قوله، بل مجرد العلم بالحق يدل على بطلان قول مِن ردَّه وفساده"[13].
والحق نعمة؛ ﴿ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ﴾ [البقرة: 211]؛ فالحذرَ الحذرَ، والكيْسَ الكيْسَ.
♦ ♦ ♦
يا طالبَ العلمِ، ليكن قلمك سيالًا، وورقك مبسوطًا، حاني الجبهة، تتحين حظَّك من العلم فتثبته لاهفًا في صحفك، وإياك وابيضاضَ الصحف، وجفافَ اليَراع؛ فما بهذا تنال الرتبة، وتبلغ المرتبة.
روي موقوفًا ومرفوعًا من طريق أنس رضي الله عنه: "قيِّدُوا العِلمَ بالكِتابِ"[14].
فكتابة العلم قفْلُ أمانٍ عن الضياع، وترس ضد سهام النسيان... فسُلَّ قلمك اقتداءً بدأب الكبار.
عن الربيع بن سعد قال: "رأيت جابرًا يكتب عند ابن سابط في ألواح"[15].
واحرص وقيِّد، واستعن بالله ولا تعجز، وإذا سمعت شيئًا، فاكتبه ولو في حائط"[16] كما أوصى الضحاك، وذكر سعيد بن جبير عن نفسه "أنه كان يكون مع ابن عباس فيسمع منه الحديث فيكتبه في واسطةِ الرَّحْل، فإذا نزل نسخه"[17].
يا طالبَ العلمِ، أهرق حبرَك؛ لتكون حَبْرًا.
♦ ♦ ♦
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|