عرض مشاركة واحدة
  #6  
قديم 04-09-2021, 01:32 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 168,777
الدولة : Egypt
افتراضي رد: بحث حول الآية السادسة والآية السابعة من سورة البقرة

بحث حول الآية السادسة والآية السابعة من سورة البقرة
أنس بن محمد بوابرين

- الثالثة :علة القول بأن المراد في الآية اليهود

وأمّا علّتنا في اختيارنا ما اخترنا من التّأويل في ذلك، فهي أنّ قول اللّه جلّ ثناؤه: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} عقيب خبر اللّه جلّ ثناؤه عن مؤمني أهل الكتاب، وعقيب نعتهم وصفتهم وثنائه عليهم بإيمانهم به وبكتبه ورسله. فأولى الأمور بحكمة اللّه أن يتلى ذلك الخبر عن كفّارهم ونعوتهم وذمّ أسبابهم وأحوالهم، وإظهار شتمهم والبراءة منهم؛ لأنّ مؤمنيهم ومشركيهم وإن اختلفت أحواله باختلاف أديانهم، فإنّ الجنس يجمع جميعهم بأنّهم بنو إسرائيل.
وإنّما احتجّ اللّه جلّ ثناؤه بأوّل هذه السّورة لنبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على مشركي اليهود من أحبار بني إسرائيل الّذين كانوا مع علمهم بنبوّته منكرين نبوّته بإظهار نبيّه صلّى اللّه عليه وسلّم على ما كانت تسرّه الأحبار منهم وتكتمه فيجهله عظم اليهود وتعلمه الأحبار منهم ليعلموا أنّ الّذي أطلعه على علم ذلك هو الّذي أنزل الكتاب على موسى عليه السلام، إذ كان ذلك من الأمور الّتي لم يكن محمّدٌ صلّى اللّه عليه وسلّم ولا قومه ولا عشيرته يعلمونه ولا يعرفونه من قبل نزول الفرقان على محمّدٍ صلّى اللّه عليه وسلّم، فيمكنهم ادّعاء اللّبس في أمره عليه الصّلاة والسّلام أنّه نبيٌّ، وأنّ ما جاء به فمن عند اللّه، وأنّى يمكنهم ادّعاء اللّبس في صدق أمّيٍّ نشأ بين أمّيّين لا يكتب، ولا يقرأ، ولا يحسب، فيقال قرأ الكتب فعلم أو حسب فنجّم، وانبعث على أخبار قرّاءٍ كتبةٍ، قد درسوا الكتب ورأسوا الأمم، يخبرهم عن مستور عيوبهم، ومصون علومهم، ومكتوم أخبارهم، وخفيّات أمورهم الّتي جهلها من هو دونهم من أحبارهم؟ إنّ أمر من كان كذلك لغير مشكلٍ، وإنّ صدقه والحمد للّه لبيّنٌ.
وممّا ينبئ عن صحّة ما قلنا من أنّ الّذين عنى اللّه تعالى ذكره بقوله: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} هم أحبار اليهود الّذين قتلوا على الكفر وماتوا عليه اقتصاص اللّه تعالى ذكره نبأهم وتذكيره إيّاهم ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق في أمر محمّدٍ عليه الصّلاة والسّلام بعد اقتصاصه تعالى ذكره ما اقتصّ من أمر المنافقين واعتراضه بين ذلك بما اعترض به من الخبر عن إبليس وآدم في قوله: {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي الّتي أنعمت عليكم} الآيات، واحتجاجه لنبيّه عليهم بما احتجّ به عليهم فيها عند جحودهم نبوّته. فإذا كان الخبر أوّلاً عن مؤمني أهل الكتاب وآخرًا عن مشركيهم، فأولى أن يكون وسطًا عنهم، إذ كان الكلام بعضه لبعضٍ تبعٌ، إلاّ أن تأتي دلالةٌ واضحةٌ بعدول بعض ذلك عمّا ابتدئ به من معانيه، فيكون معروفًا حينئذٍ انصرافه عنه. [جامع البيان: 1/ 263 -265]
قال ابن أبي حاتم عبد الرحمن بن محمد ابن إدريس الرازي (ت: 327هـ): ({إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)}
قوله تعالى: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}
- حدّثني أبي، ثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، ثنا أبي، ثنا ابن لهيعة، حدّثني عبيد اللّه بن المغيرة، عن أبي الهيثم، عن عبد اللّه بن عمرٍو، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه وسلّم:
قيل يا رسول اللّه إنّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نأيس. فقال: « ألا أخبركم؟» ، ثمّ قال: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} هؤلاء أهل النّار»،قالوا: لسنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: « أجل».
- حدّثنا محمّد بن يحيى أنبأ أبو غسّان محمّد بن عمرٍو زنيجٌ، ثنا سلمة، عن محمّد بن إسحاق قال: فيما حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة أو سعيد بن جبيرٍ عن ابن عبّاسٍ:«{إنّ الّذين كفروا} أي بما أنزل إليك، وإن قالوا إنّا قد آمنّا بما جاءنا قبلك، {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي أنّهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم ممّا جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك».
- حدّثنا عصام بن روّاد بن الجرّاح، ثنا آدم، ثنا أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع ابن أنسٍ، عن أبي العالية قال: « آيتان في قادة الأحزاب: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قال: هم الّذين ذكرهم اللّه في هذه الآية: {ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمت اللّه كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار}».). [تفسير القرآن العظيم: 1/ 40]
قالَ عَبْدُ الحَقِّ بنُ غَالِبِ بنِ عَطِيَّةَ الأَنْدَلُسِيُّ (ت:546هـ) : (قوله عز وجل: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6) ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ (7)}
معنى الكفر مأخوذ من قولهم كفر إذا غطى وستر، ومنه قول الشاعر لبيد بن ربيعة:

في ليلة كفر النجوم غمامها

أي سترها ومنه سمي الليل كافرا لأنه يغطي كل شيء بسواده، قال الشاعر: [ثعلبة بن صغيرة]:

فتذكر ثقلا رثيدا بعد ما ....... ألقت ذكاء يمينها في كافر

ومنه قيل للزراع كفار، لأنهم يغطون الحب، فــــ «كفر» في الدين معناه غطى قلبه بالرّين عن الإيمان أو غطى الحق بأقواله وأفعاله.
واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.
فقال قوم: «هي فيمن سبق في علم الله أنه لا يؤمن أراد الله تعالى أن يعلم أن في الناس من هذه حاله دون أن يعين أحد».
وقال ابن عباس: «نزلت هذه الآية في حيي بن أخطب، وأبي ياسر وابن الأشرف ونظرائهم»، وقال الربيع بن أنس: «نزلت في قادة الأحزاب وهم أهل القليب ببدر».
قال القاضي أبو محمد رحمه الله: هكذا حكي هذا القول، وهو خطأ، لأن قادة الأحزاب قد أسلم كثير منهم، وإنما ترتيب الآية في أصحاب القليب، والقول الأول مما حكيناه هو المعتمد عليه، وكل من عين أحدا فإنما مثل بمن كشف الغيب بموته على الكفر أنه في ضمن الآية.
وقوله: {سواءٌ عليهم} معناه معتدل عندهم، ومنه قول الشاعر: [أعشى قيس]:

وليل يقول الناس من ظلماته ....... سواء صحيحات العيون وعورها

قال أبو علي: في اللفظة أربع لغات: سوى بكسر السين، وسواء بفتحها والمد، وهاتان لغتان معروفتان، ومن العرب من يكسر السين ويمد، ومنهم من يضم أوله ويقصره، وهاتان اللغتان أقل من تينك.
ويقال سي بمعنى سواء كما قالوا: «قي، وقواء»، وسواءٌ رفع على خبر إنّ، أو رفع على الابتداء وخبره فيما بعده، والجملة خبر إنّ، ويصح أن يكون خبر إنّ لا يؤمنون.
وقرأ أبو عمرو وابن كثير ونافع: «آنذرتهم» بهمزة مطولة، وكذلك ما أشبه ذلك في جميع القرآن، وكذلك كانت قراءة الكسائي إذا خفف، غير أن مد أبي عمرو أطول من مد ابن كثير، لأنه يدخل بين الهمزتين ألفا، وابن كثير لا يفعل ذلك.
وروى قالون وإسماعيل بن جعفر عن نافع إدخال الألف بين الهمزتين مع تخفيف الثانية، وروى عنه ورش تخفيف الثانية بين بين دون إدخال ألف بين الهمزتين، فأما عاصم وحمزة والكسائي إذا حقق وابن عامر: فبالهمزتين «أأنذرتهم»، وما كان مثله في كل القرآن.
وقرأ ابن عباس وابن أبي إسحاق بتحقيق الهمزتين وإدخال ألف بينهما.
وقرأ الزهري وابن محيصن «أنذرتهم» بحذف الهمزة الأولى، وتدل أم على الألف المحذوفة، وكثر مكي في هذه الآية بذكر جائزات لم يقرأ بها، وحكاية مثل ذلك في كتب التفسير عناء. والإنذار إعلام بتخويف، هذا حده، وأنذرت فعل يتعدى إلى مفعولين.
قال الله عز وجل: {فقل أنذرتكم صاعقةً مثل صاعقة عادٍ وثمود} [فصلت: 13]، وقال: {إنّا أنذرناكم عذاباً قريباً} [النساء: 40] وأحد المفعولين في هذه الآية محذوف لدلالة المعنى عليه.
وقوله تعالى: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} لفظه لفظ الاستفهام، ومعناه الخبر، وإنما جرى عليه لفظ الاستفهام لأن فيه التسوية التي هي في الاستفهام، ألا ترى أنك إذا قلت مخبرا سواء عليّ أقعدت أم ذهبت، وإذا قلت مستفهما أخرج زيد أم قام، فقد استوى الأمران عندك، هذان في الخبر، وهذان في الاستفهام وعدم علم أحدهما بعينه، فلما عمتهما التسوية جرى على هذا الخبر لفظ الاستفهام لمشاركته إياه في الإبهام، وكل استفهام تسوية، وإن لم تكن كل تسوية استفهاما). [المحرر الوجيز: 1/ 110-112]
قالَ إِسْمَاعِيلُ بْنُ عُمَرَ بْنِ كَثِيرٍ القُرَشِيُّ (ت: 774 هـ) : ({إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون (6)}
يقول تعالى: {إنّ الّذين كفروا} أي: غطوا الحقّ وستروه، وقد كتب اللّه تعالى عليهم ذلك، سواءٌ عليهم إنذارك وعدمه، فإنّهم لا يؤمنون بما جئتهم به، كما قال تعالى: {إنّ الّذين حقّت عليهم كلمة ربّك لا يؤمنون * ولو جاءتهم كلّ آيةٍ حتّى يروا العذاب الأليم} [يونس: 96، 97]، وقال في حقّ المعاندين من أهل الكتاب: {ولئن أتيت الّذين أوتوا الكتاب بكلّ آيةٍ ما تبعوا قبلتك} الآية [البقرة: 145] أي: إنّ من كتب اللّه عليه الشّقاوة فلا مسعد له، ومن أضلّه فلا هادي له، فلا تذهب نفسك عليهم حسراتٍ، وبلّغهم الرّسالة، فمن استجاب لك فله الحظّ الأوفر، ومن تولّى فلا تحزن عليهم ولا يهمدنّك ذلك؛ {فإنّما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرّعد: 40]، و {إنّما أنت نذيرٌ واللّه على كلّ شيءٍ وكيلٌ}[هودٍ: 12].
وقال عليّ بن أبي طلحة، عن ابن عبّاسٍ، في قوله تعالى: {إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم يحرص أن يؤمن جميع النّاس ويتابعوه على الهدى، فأخبره اللّه تعالى أنّه لا يؤمن إلّا من سبق له من اللّه السعادة في الذّكر الأوّل، ولا يضلّ إلّا من سبق له من اللّه الشّقاوة في الذّكر الأوّل».
وقال محمّد بن إسحاق: حدّثني محمّد بن أبي محمّدٍ، عن عكرمة، أو سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ: «{إنّ الّذين كفروا} أي: بما أنزل إليك، وإن قالوا: إنّا قد آمنّا بما جاءنا قبلك{سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي: إنّهم قد كفروا بما عندهم من ذكرك، وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق، فقد كفروا بما جاءك، وبما عندهم ممّا جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا، وقد كفروا بما عندهم من علمك؟!».
وقال أبو جعفرٍ الرّازيّ، عن الرّبيع بن أنسٍ، عن أبي العالية، قال:«نزلت هاتان الآيتان في قادة الأحزاب، وهم الّذين قال اللّه فيهم: {ألم تر إلى الّذين بدّلوا نعمة اللّه كفرًا وأحلّوا قومهم دار البوار * جهنّم يصلونها} [إبراهيم: 28، 29]».
والمعنى الّذي ذكرناه أوّلًا وهو المرويّ عن ابن عبّاسٍ في رواية عليّ بن أبي طلحة، أظهر، ويفسّر ببقيّة الآيات الّتي في معناها، واللّه أعلم.
وقد ذكر ابن أبي حاتمٍ هاهنا حديثًا، فقال: حدّثنا أبي، حدّثنا يحيى بن عثمان بن صالحٍ المصريّ، حدّثنا أبي، حدّثنا ابن لهيعة، حدّثني عبد اللّه بن المغيرة، عن أبي الهيثم عن عبد اللّه بن عمرٍو، قال: قيل: يا رسول اللّه، إنّا نقرأ من القرآن فنرجو، ونقرأ فنكاد أن نيأس، فقال: "ألا أخبركم"، ثمّ قال: "{إنّ الّذين كفروا سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون}هؤلاء أهل النّار". قالوا: لسنا منهم يا رسول اللّه؟ قال: "أجل".
[وقوله: {لا يؤمنون} محلّه من الإعراب أنّه جملةٌ مؤكّدةٌ للّتي قبلها: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي: هم كفّارٌ في كلا الحالين؛ فلهذا أكدّ ذلك بقوله: {لا يؤمنون}، ويحتمل أن يكون {لا يؤمنون} خبرًا لأنّ تقديره: إنّ الّذين كفروا لا يؤمنون، ويكون قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} جملةٌ معترضةٌ، واللّه أعلم] ). [تفسير ابن كثير: 1/ 173-174]

- الرابعة : المراد بالإستفهام في قوله (أأنذرتهم)
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) :
وأمّا قوله: {أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} فإنّه ظهر به الكلام ظهور الاستفهام وهو خبرٌ؛ لأنّه وقع موقع أيّ، كما تقول: لا نبالي أقمت أم قعدت، وأنت مخبرٌ لا مستفهمٌ لوقوع ذلك موقع أيّ، وذلك أنّ معناه إذا قلت ذلك: ما نبالي أيّ هذين كان منك، فكذلك ذلك في قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} لمّا كان معنى الكلام: سواءٌ عليهم أيّ هذين كان منك إليهم، حسن في موضعه مع سواءٍ: أفعلت أم لم تفعل.
وقد كان بعض نحويّي أهل البصرة يزعم أنّ حرف الاستفهام إنّما دخل مع سواءٍ وليس باستفهامٍ، لأنّ المستفهم إذا استفهم غيره فقال: أزيدٌ عندك أم عمرٌو؟ مستثبتٌ صاحبه أيّهما عنده، فليس أحدهما أحقّ بالاستفهام من الآخر، فلمّا كان قوله: {سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم} بمعنى التّسوية، أشبه ذلك الاستفهام إذ أشبهه في التّسوية، وقد بيّنّا الصّواب في ذلك.
فتأويل الكلام إذًا: معتدلٌ يا محمّد على هؤلاء الّذين جحدوا نبوّتك من أحبار يهود المدينة بعد علمهم بها، وكتموا بيان أمرك للنّاس بأنّك رسولي إلى خلقي، وقد أخذت عليهم العهد والميثاق أن لا يكتموا ذلك وأن يبيّنوه للنّاس ويخبروهم أنّهم يجدون صفتك في كتبهم؛ {أأنذرتهم أم لم تنذرهم} فإنّهم لا يؤمنون ولا يرجعون إلى الحقّ ولا يصدّقون بك وبما جئتهم به.
- كما حدّثنا محمّد بن حميدٍ، قال: حدّثنا سلمة بن الفضل، عن محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن أبي محمّدٍ، مولى زيد بن ثابتٍ، عن عكرمة أو عن سعيد بن جبيرٍ، عن ابن عبّاسٍ:{سواءٌ عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون} أي أنّهم قد كفروا بما عندهم من العلم من ذكرٍ وجحدوا ما أخذ عليهم من الميثاق لك؛ فقد كفروا بما جاءك وبما عندهم ممّا جاءهم به غيرك، فكيف يسمعون منك إنذارًا وتحذيرًا وقد كفروا بما عندهم من علمك). [جامع البيان: 1/ 263 -265]
-تفسير قوله تعالى خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7) ) وفيه مسائل :
-الأولى : الختم على القلوب والأسماع وكيفية الختم عليها
قالَ أبو جعفرٍ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ (ت: 310هـ) : (القول في تأويل قوله تعالى: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوةٌ ولهم عذابٌ عظيمٌ}
قال أبو جعفرٍ: وأصل الختم: الطّبع، والخاتم: هو الطّابع يقال منه: ختمت الكتاب، إذا طبعته.
فإن قال لنا قائلٌ: وكيف يختم على القلوب، وإنّما الختم طبعٌ على الأوعية والظّروف والغلف.
قيل: فإنّ قلوب العباد أوعيةٌ لما أودعت من العلًوم وظروفٌ لما جعل فيها من المعارف بالأمور، فمعنى الختم عليها وعلى الأسماع الّتي بها تدرك المسموعات، ومن قبلها يوصل إلى معرفة حقائق الأنباء عن المغيبات، نظير معنى الختم على سائر الأوعية والظّروف.
فإن قال: فهل لذلك من صفةٍ تصفها لنا فنفهمها؟ أهي مثل الختم الّذي يعرف لمّا ظهر للأبصار، أم هي بخلاف ذلك؟
قيل: قد اختلف أهل التّأويل في صفة ذلك، وسنخبر بصفته بعد ذكرنا قولهم.
- فحدّثني عيسى بن عثمان بن عيسى الرّمليّ، قال: حدّثنا يحيى بن عيسى، عن الأعمش، قال: أرانا مجاهدٌ بيده فقال: «كانوا يرون أنّ القلب في مثل هذا، يعني الكفّ، فإذا أذنب العبد ذنبًا ضمّ منه، وقال بأصبعه الخنصر هكذا، فإذا أذنب ضمّ، وقال بأصبعٍ أخرى، فإذا أذنب ضمّ، وقال بأصبعٍ أخرى هكذا، حتّى ضمّ أصابعه كلّها»، قال: «ثمّ يطبع عليه بطابعٍ»، قال مجاهدٌ: «وكانوا يرون أنّ ذلك الرّين».
- حدّثنا أبو كريبٍ، قال: حدّثنا وكيعٌ، عن الأعمش، عن مجاهدٍ، قال: «القلب مثل الكفّ، فإذا أذنب ذنبًا قبض أصبعًا حتّى يقبض أصابعه كلّها، وكان أصحابنا يرون أنّه الرّان».
- حدّثنا القاسم بن الحسن، قال: حدّثنا الحسين بن داود، قال: حدّثني حجّاجٌ، قال: حدّثنا ابن جريجٍ، قال: قال مجاهدٌ: «نبّئت أنّ الذّنوب على القلب تحفّ به من نواحيه حتّى تلتقي عليه، فالتقاؤها عليه الطّبع، والطّبع الختم»، قال ابن جريجٍ: الختم ختمٌ على القلب والسّمع.
- حدّثنا القاسم، قال: حدّثنا الحسين، قال: حدّثني حجّاجٌ، عن ابن جريجٍ، قال: حدّثني عبد اللّه بن كثيرٍ، أنّه سمع مجاهدًا، يقول: «الرّان أيسر من الطّبع، والطّبع أيسر من الإقفال، والإقفال أشدّ ذلك كلّه».
وقال بعضهم: إنّما معنى قوله: {ختم اللّه على قلوبهم} إخبارٌ من اللّه جلّ ثناؤه عن تكبّرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحقّ، كما يقال: إنّ فلانًا لأصمّ عن هذا الكلام، إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهّمه تكبّرًا.
والحقّ في ذلك عندي ما صحّ بنظيره الخبر عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم.
- وهو ما حدّثنا به، محمّد بن يسارٍ، قال: حدّثنا صفوان بن عيسى، قال: حدّثنا ابن عجلان، عن القعقاع، عن أبي صالحٍ، عن أبي هريرة، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم:«إنّ المؤمن إذا أذنب ذنبًا كانت نكتةٌ سوداء في قلبه، فإن تاب ونزع واستغفر صقل قلبه، فإن زاد زادت حتّى يغلّق قلبه؛ فذلك الرّان الّذي قال اللّه جلّ ثناؤه: {كلاّ بل ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون}».
فأخبر صلّى اللّه عليه وسلّم أنّ الذّنوب، إذا تتابعت على القلوب أغلقتها، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل اللّه عزّ وجلّ والطّبع، فلا يكون للإيمان إليها مسلكٌ، ولا للكفر منها مخلّصٌ، فذلك هو الطّبع والختم الّذي ذكره اللّه تبارك وتعالى في قوله: {ختم اللّه على قلوبهم وعلى سمعهم} نظير الطّبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعية والظّروف الّتي لا يوصل إلى ما فيها إلاّ بفضّ ذلك عنها ثمّ حلّها، فكذلك لا يصلّ الإيمان إلى قلوب من وصف اللّه أنّه ختم على قلوبهم، إلاّ بعد فضّه خاتمه وحلّه رباطه عنها.

يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 27.85 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 27.22 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (2.25%)]