ثالثًا: شروط المكره عليه:
يشترط في المكره عليه توفر الشروط الآتية:
أولًا: أن يفعل المكره الفعل لداعي الإكراه فقط، ويكون ممتنعًا عما أكره عليه قبل الإكراه، إما لحقه كبيع ماله، أو لحق إنسان آخر كإتلاف مال الغير، أو لحق الشرع كشرب الخمر أو الزنا ونحو ذلك، فإذا ألزمناه بتصرفاته في هذه الحالة لألحقنا به الضرر، إذ أكره على التزام ما لا يريده، والشريعة الإسلامية مبنية على رفع الضرر؛ لقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»[43]، ولأنه في هذه الحالة لا مخلص له عن تنفيذ الفعل المكره عليه، ولا يمكن أن يفعل إلا لداعي الإكراه، فلا يتأتى أن يفعل لداعي الشرع، أو لأي داع آخر.
فإذا أكره على القتل مثلًا، فإنه يقدم عليه وقد عظم الخوف في نفسه من أن يوقع المكره ما هدده به، فلا يقتل إلا استجابة لأمر المكره، لا للتشفي مثلًا أو الانتقام. وكذلك لو أكره على دفع الزكاة، فإنه لا يمكنه استحضار نية الدفع قربة أو عبادة، بل لم يدفع إلا استجابة لأمر المكره.
فهو حين يفعل الفعل يكون غير راض وفاسد الاختيار كذلك، إذ لو كان راضيًا لوقع الفعل منه على الوجه الذي يريد، كأن يكون قربة في العبادات، أو كأن يمتنع عن الإقدام على القتل؛ لأنه قتل ما حرم الله بغير حق.
أما لو كان الإكراه حقًّا، بأن كان المكره ممتنعًا عما وجب عليه، فأجبره إنسان عليه حسبة، فلا ضرر عليه في ذلك، كإجبار القاضي المدين على بيع بعض أملاكه لإيفاء ما عليه من ديون[44].
ثانيًا: أن يكون المكره عليه معينًا، بأن يكون شيئًا واحدًا كأن يكره على طلاق زوجته فاطمة أو على قتل عمرو، أما إذا كان المكره عليه شيئين أو أشياء، كما لو أكره على طلاق إحدى زوجتيه أو أكره على قتل زيدًا أو عمرًا أو خالدًا، فهذا ليس بإكراه عند الشافعية؛ لأنهم يشترطون في الإكراه أن يكون المكره عليه معينًا[45]، فلا إكراه مع التخيير فيما يكره المرء عليه، ومن شرط الإكراه: ألا يخالف المكره المكره، وانتقاء الشرط يترتب عليه انتقاء المشروط.
ويرى الحنفية والمالكية: أن التخيير في المكره عليه لا ينافي الإكراه، فلا يشترط عندهم أن يكون المكره عليه معينًا.
أما الحنابلة: فإنهم يوافقون الحنفية والمالكية في عدم اشتراط التعيين إذا كان المكره عليه طلاقًا، فلو أكره رجل على أن يطلق إحدى امرأتيه فطلق واحدة منهما كان مكرهًا.
ويوافقون الشافعية في اشتراط التعيين إذا كان المكره عليه قتلًا، فلو أكره رجل على قتل زيد أو عمرو، فقتل أحدهما لا يعد مكروهًا.
وأرى أنه لا وجه للتفرقة التي ذكرها الحنابلة؛ لأن الكلام في أن التخيير هل ينافي الإكراه أم لا؟ ولا فرق في هذا بين الطلاق الذي يحل الإقدام عليه، وبين القتل الذي لا يحل الإقدام عليه.
وبهذا يكون الرأي الراجح لدي هو ما ذهب إليه الحنفية والمالكية، لتحقيق الإكراه مع التخيير في المكره عليه؛ لأن المستكره لا مندوحة له عن فعل واحد من الأمرين أو الأمور المكره عليها، فهو إما فاعل ما أكره عليه، وإما نازل به ما هدده به المكره إذا امتنع عن الإتيان بما أكره عليه، فيكون منعدم الرضا، وفاسد الاختيار.
ثالثًا: أن يترتب على فعل المكره عليه التخلص من المتوعد به، فلو قال لإنسان: اقتل نفسك وإلا قتلتك، فهذا لا يعد إكراهًا، لاتحاد المأمور به والمخوف به، فصار كأنه مختار له؛ لأنه لا يترتب على قتل نفسه الخلاص من القتل، فهو مقتول سواء بفعله أو بفعل المكره، وفي هذه الحالة لا يحكم عاقل أن المكره يقدم على ما أكره عليه حينئذ لاستواء المهدد به والمكره عليه، وإذا استويا فقد انعدام شرط الإكراه الخاص، وهو أن يكون المهدد به أشد خطرًا من المكره عليه، وانعدام الشرط يترتب عليه انعدام المشروط، وهذا ما ذهب إليه الجمهور.
بينما ذهب بعض الحنابلة: إلى عدم اعتبار هذا الشرط، واعتبر قول الإنسان لآخر: اقتل نفسك وإلا قتلتك إكراهًا، لكن الراجح من مذهب الحنابلة اعتبار هذا الشرط وموافقة الجمهور[46].
رابعًا: شروط المكره به:
يشترط في المكره به توافر الشروط الآتية:
الشرط الأول: أن يكون التهديد بإلحاق الضرر بالمكره عاجلًا، فلو هدد به آجلًا، كأن قال رجل لآخر: طلق زوجتك وإلا قتلتك غدًا، فلا يعد ذلك إكراهًا، وبالتالي لا يثبت حكمه في الشرع، وذلك لأن التأجيل مظنة التخلص من المهدد به، إما بالاستغاثة، أو الالتجاء إلى السلطان، أو الحاكم ونحو ذلك، وهذا ما ذهب إليه الحنفية والشافعية ومقتضى مذهب الحنابلة.
أما المالكية: فلا يشترط في الإكراه عندهم كون المخوف به يقع ناجزًا، بل الشرط عندهم في تحقق الإكراه هو حدوث الخوف المؤلم في نفس المكره حالًا، سواء أكان المتوعد به حالًا أو مستقبلًا، فلو قال له: إن لم تطلق زوجتك فعلت كذا بك بعد شهر، وحصل الخوف بذلك كان إكراهًا[47].
وأرى أن ما ذهب إليه الحنفية والشافعية ومقتضى مذهب الحنابلة -وهو اشتراط كون التهديد بإلحاق الضرر بالمكره عاجلًا- هو الراجح؛ لأنه أبلغ وأقوى في إحداث الخوف في نفس المكره.
على أن الخوف من الأمور النفسية التي لا اطلاع لنا عليها، فلا بد من علامة ظاهرة على ثبوته، ولا أدل على هذا من كون الوعيد بأمر حال وشيك الوقوع.
هذا فضلًا عن أن حكم الإكراه لا يثبت إلا إذا كان المكره عاجزًا عجزًا تامًّا عن الخلاص من المهدد به، ولا يتحقق هذا إذا كان مؤجلًا؛ لإمكانه التخلص منه حينئذ بالاستغاثة، أو اللجوء إلى السلطات الحاكمة، فلا يكون عاجزًا عن التخلص منه.
وبهذا لا يثبت حكم الإكراه شرعًا لعدم تحققه مع تأجيل المهدد به، لعدم الضرورة التي تحمله على المسارعة بفعل المكره عليه.
الشرط الثاني: أن يكون الأمر الذي هدد به المكره مما يستضر به ضررًا كبيرًا غير محتمل يلحقه بسببه مشقة عظيمة، كالقتل وقطع عضو والضرب الشديد والقيد والحبس الطويلين، أو متضمنًا أذى من يهمه أمره من الناس، كالتهديد بحبس الوالدين والزوجة.
أما التهديد بإتلاف المال، فإن كان متضمنًا إتلاف المال كله، فإنه يكون إكراهًا باتفاق.
وإن كان التهديد بإتلاف بعض المال، فقد اختلف العلماء في ذلك كما يلي:
(أ) ذهب الحنفية: إلى أن الإكراه لا يتحقق إلا بإتلاف المال كله، أما إتلاف بعضه فلا يتحقق به الإكراه، ولو كان كثيرًا.
(ب) وذهب الشافعية والحنابلة: إلى أن الإكراه كما يتحقق بإتلاف المال كله، يتحقق كذلك بإتلاف بعضه إذا كان كثيرًا، وحد الكثرة يختلف باختلاف طبقات الناس وأحوالهم، أما إتلاف المال اليسير فلا يكون إكراهًا.
(ج) وأما المالكية: فقال المتقدمون منهم: إن في التخويف بأخذ المال ثلاثة أقوال:
الأول: لمالك: وهو أنه إكراه.
الثاني: لأصبغ: وهو أنه ليس بإكراه.
الثالث: لابن الماجشون: وهو إن كثر فإكراه، وإلا فلا.
وأما المتأخرون منهم: فقد اختلفوا في ذلك على رأيين:
الأول: جعل القول الثالث تفسيرًا للقولين الأولين، وذلك كابن بشير ومن تبعه، وعلى هذا فالمذهب على قول واحد.
الثاني: جعل الأقوال الثلاثة متقابلة إبقاء لها على ظاهرها، كابن الحاجب[48].
الشرط الثالث: أن يكون المهدد به أشد خطرًا على المكره مما حمله عليه، فلو كان الضرر مساويًا أو أقل، فلا يتحقق الإكراه، فلو هدد إنسان آخر بصفعه على وجهه إن لم يتلف ماله، ولم يكن من ذوي المروءات، ولا من سادة الناس ووجهائهم، فلا يعد هذا إكراهًا؛ لأن الصفع على الوجه أقل خطرًا من إتلاف المال.
ومراعاة النسبة بين المكره عليه والمهدد به قدر متفق عليه بين الفقهاء؛ لأن ضابط تحقق الإكراه: فعل يؤثر العاقل الإقدام عليه خوفًا من المهدد به، ورفع الضرر الكبير في مقابلة الضرر اليسير. عملًا بقوله - صلى الله عليه وسلم -: «لا ضرر ولا ضرار في الإسلام»[49]، الذي يدل على نفي الضرر، وأنه لا يرفع الضرر بما يساويه.
ومن هنا فقد وضع لنا الفقهاء قاعدتين يمكن اتخاذهما أساسًا وضابطًا لأحكام الإكراه، وهما:
1- الضرر لا يزال بالضرر.
2- ارتكاب أخف الضررين لدفع أشدهما[50].
الفصل الثاني: أثر الإكراه في التكليف والرضا والاختيار
ويشتمل هذا الفصل على مبحثين:
الأول: أثر الإكراه في أهلية الإنسان وصلاحيته للتكليف.
الثاني: أثر الإكراه في الرضا والاختيار.
المبحث الأول: أثر الإكراه في أهلية الإنسان وصلاحيته للتكليف
لا يؤثر الإكراه بجميع أنواعه السابقة في أهلية الوجوب؛ لأن مناطها الإنسانية، فهي تثبت لكل إنسان بوصفه حيًّا، ومعلوم أن هذا الأهلية لا يؤثر فيها إلا الموت حيث يزيلها.
وكذلك لا يؤثر الإكراه بجميع أنواعه في أهلية الأداء، فلا يعدم هذه الأهلية، كما لا ينفي صلاحية المكره للتكليف، ولا يوجب سقوط الخطاب عنه، وإنما ينحصر أثره فقط في تغيير بعض الأحكام المترتبة على أهلية الأداء، مع بقاء المكره مكلفًا، وذلك لأمرين:
الأمر الأول: وجود العقل والتمييز اللذين هما مناط أهلية الأداء، وعليهما مدار الخطاب.
الأمر الثاني: أن المكره مبتلى في حالة الإكراه، كما أنه مبتلى في حالة الاختيار، والابتلاء يتحقق بالخطاب.
يدل على ذلك أن فعل المكره ينقسم إلى أربعة أقسام:
القسم الأول: فرض، كما إذا أكره على أكل الميتة أو شرب الخمر بالقتل، فإنه حينئذ يفرض عليه أكل الميتة أو شرب الخمر، ولو صبر حتى قتل كان آثمًا؛ لأن الأكل والشرب كان مباحًا له؛ لقوله - تعالى -: (إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ)[51]، فثبتت الإباحة بالاستثناء، ومن أكره على مباح يفرض عليه فعله، فإن امتنع عنه ألقى بنفسه إلى التهلكة من غير فائدة، إذ ليس فيه قضاء حق الشرع.
القسم الثاني: حرام، كالإكراه على الزنا، وقتل مسلم بغير حق، فإنه يحرم عليه فعلهما عند الإكراه الملجئ، ويؤجر على ترك فعلهما.
القسم الثالث: إباحة[52]، كالإكراه على الإفطار في رمضان، فإنه إذا أكره عليه يباح له الفطر.
القسم الرابع: رخصة[53]، كالإكراه على إجراء كلمة الكفر على اللسان، حيث يرخص له في ذلك مع اطمئنان القلب بالإيمان إذا كان الإكراه ملجئًا.
وتردد المكره بين هذه الأقسام علامة لثبوت الخطاب في حقه؛ لأن هذه الأشياء، لا تثبت بدون الخطاب. ويأثم المكره مرة بالإقدام كما في الإكراه على الزنا وقتل النفس، ويؤجر أخرى كما في الإكراه على أكل الميتة، فإن الإقدام لما صار فرضًا يستحق به الأجر كما في سائر الفروض، أو يأثم بالامتناع مرة كما في الإكراه على الفطر للمسافر، والإكراه على أكل الميتة وشرب الخمر، فإن الصبر عنهما إلى أن يقتل حرام. ويؤجر كما في الإكراه على الكفر، فإن الصبر عنه عزيمة، والإثم والأجر متعلقان بالخطاب[54].
المبحث الثاني: أثر الإكراه في الرضا والاختيار
الاختيار: هو ترجيح فعل الشيء على تركه أو العكس.
والرضا: هو الرغبة في الشيء والارتياح له، فهو نهاية الاختيار.
وجميع الأعمال الصادرة من الإنسان لا بد لها من اختيار، إذ الإنسان لا يقدم على عمل إلا إذا ترجح عنده جانب الفعل على جانب تركه.
إلا أن الاختيار تارة يكون اختيارًا صحيحًا إذا كان منبعثًا عن رغبة في العمل، وتارة يكون اختيارًا فاسدًا إذا كان ارتكابًا لأخف الضررين، وذلك كمن أكره على أحد أمرين كلاهما شر، ففعل أقلهما ضررًا به، فإن اختياره لما فعله لا يكون اختيارًا صحيحًا، بل اختيارًا فاسدًا.
أما وجود العمل من الإنسان فلا يستلزم رضاه به، أي: رغبته فيه وارتياحه إليه، كما شهد بذلك الواقع، فقد يقوم الإنسان ببعض الأعمال وهو ليس راغبًا فيها، ولا مرتاحًا لها.
وعليه فإنه يمكن القول بأن الإكراه يعدم الرضا والاختيار اللذين هما شرط التكليف عند جمهور العلماء.
أما عند الحنفية: فيختلف تأثير الإكراه في الرضا والاختيار تبعًا لاختلاف نوع الإكراه.
فإن كان الإكراه ملجئًا -الإكراه الكامل- فإنه يعدم الرضا ويفسد الاختيار.
وإن كان الإكراه غير ملجئ -الإكراه الناقص- فإنه يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار.
وإن كان الإكراه بالاغتمام والهم والحزن -الإكراه الأدبي- فإنه لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار[55]، وهذا ما سنبينه في الفصل التالي إن شاء الله - تعالى -.
الفصل الثالث: أنواع الإكراه
اختلف العلماء في أنواع الإكراه، فكان لكل منهم تقسيم مستقل حسب وجهة نظره.
وإليك بيان أنواع الإكراه في كل مذهب، مع الإشارة إلى أوجه الاتفاق والاختلاف بينهم:
أولًا: أنواع الإكراه عند الحنفية:
قسم الحنفية الإكراه باعتبار المكره به إلى ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الإكراه الملجئ، ويسمى بالإكراه الكامل أو التام.
وهو الذي يعدم الرضا ويفسد الاختيار، ويوجب الإلجاء بأن يضطر الفاعل إلى مباشرة المكره عليه، كتهديد المكره بما يخاف على نفسه، أو عضو من أعضائه ولو أنملة؛ لأن حرمة الأعضاء كحرمة النفس تبعًا لها.
ويعتبر في هذا النوع غلبة الظن، أما إذا لم يغلب على ظنه تفويت أحدهما لا يكون إكراهًا، بل مجرد تهديد وتخويف.
النوع الثاني: الإكراه غير الملجئ، ويسمى بالإكراه الناقص أو القاصر، وهو الذي يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار ولا يوجب الإلجاء، بل يحمل المكره على المكره عليه، كتهديد المكره بالقيد والحبس مدة مديدة[56]، أو بالضرب الذي لا يخاف به على نفسه التلف.
وهذا النوع يعدم الرضا خاصة، ولا يفسد الاختيار لعدم الاضطرار إلى مباشرة ما أكره عليه، لتمكن المكره من الصبر على ما هدد به.
النوع الثالث: الإكراه بالاغتمام أو الهم والحزن، وهو الذي لا يعدم الرضا ولا يفسد الاختيار، كتهديد المكره بحبس ابنه أو أبيه أو أمه أو زوجته، وكل رحم محرم منه كأخته أو أخيه؛ لأن القرابة المتأبدة بالمحرمية بمنزلة الأولاد.
وهذا النوع لا يعدم الرضا ولا يفسد به الاختيار ضرورة؛ لأن الرضا مستلزم لصحة الاختيار، فكلاهما باق.
ويسمى هذا النوع في الوقت الحاضر ولدى علماء القانون: «بالإكراه الأدبي»؛ لأنه لا أذى ينال الجسم، ولكنه أذى ينال النفس، وإن كان ماديًّا بالنسبة لهؤلاء الأقارب إلا أنه أدبي بالنسبة للمكره.
وقد اختلف الحنفية وغيرهم في اعتبار هذا القسم إكراهًا من عدمه:
أما الحنفية: فذهب أكثرهم إلى أنه يعتبر إكراهًا شرعيًّا استحسانًا لا قياسًا، فإذا قال رجل لآخر: لنحبسن أباك أو ابنك في السجن، أو لتبيعين عبدك هذا، ففعل، فالقياس أن البيع جائز؛ لأن هذا ليس بإكراه، فإنه لم يهدد بشيء في نفسه، وحبس أبيه لا يلحق به ضررًا، فالتهديد به لا يمنع صحة بيعه وإقراره وهبته، وكذلك في حق كل ذي رحم محرم.
والاستحسان أن ذلك إكراه، ولا ينفذ شيء من هذه التصرفات؛ لأن حبس أبيه يلحق به الحزن والهم ما يلحق به حبس نفسه أو أكثر، فإن الولد إذا كان بارًّا يسعى إلى تخليص أبيه من السجن، وإن كان يعلم أنه يحبس وربما يدخل السجن مختارًا ويحبس مكان أبيه ليخرج أبوه. فكما أن التهديد بالحبس في حقه يعدم تمام الرضا، فكذلك التهديد بحبس أبيه.
وذهب البعض الآخر إلى أن الإكراه بحبس الوالدين أو الأولاد وكل ذي رحم لا يكون إكراهًا، لأنه ليس بملجئ ولا يعدم الرضا.
والرأي الأول هو المعمول به والراجح، وهو رأي أيضًا في مذهب الشافعية[57].
أما المالكية: فقالوا: إن الإكراه يتحقق بالخوف من قتل الولد وإن سفل ولو عاقًّا، وكذا بعقوبته إن كان بارًّا، أما الخوف من قتل أجنبي فإنه لا يعد إكراهًا، فإذا قال له ظالم: إن لم تطلق زوجتك وإلا قتلت فلانًا صاحبك أو أخاك أو عمك، فطلق، فإنه يقع عليه الطلاق؛ لأن التخويف بقتل الأجنبي وهو غير الولد لا يعد إكراهًا شرعًا.
أما التخويف بقتل الأب فقيل: إكراه قياسًا على التخويف بقتل الولد، وهو الظاهر، وقيل: لا يكون إكراها قياسًا على التخويف بقتل الأخ أو العم[58].
أما الشافعية فقالوا: إن الإكراه على الطلاق يكون بالتخويف بقتل الوالد وإن علا، والولد وإن سفل على الصحيح، لا سائر المحارم.
وإن كان الإكراه على القتل، فالتخويف بالحبس، وقتل الوالد ليس بإكراه[59].
أما الحنابلة فقالوا: إن توعد بتعذيب ولده فقد قيل: ليس بإكراه؛ لأن الضرر لاحق بغيره.
والأولى: أن يكون إكراهًا؛ لأن ذلك عنده أعظم من أخذ ماله والوعيد بذلك إكراه، فكذلك هذا[60].
فإن قيل: ألهذا النوع من الإكراه أي: الإكراه الأدبي الذي ذكره العلماء - مكان في الشريعة الإسلامية؟
فالجواب: أن الشريعة لم تهمل الإكراه الأدبي، فالتهديد بحبس الأب، أو حبس الأم، أو حبس الأخ والأخت ليس أذى ينال جسمه، ولكنه أذى ينال نفسه وإحساسه، فهو إن كان ماديًّا بالنسبة لهؤلاء الأقارب، فهو أذى أدبي بالنسبة للمكره، وعلى ذلك نقول: إن القياس كان يوجب ألا يكون إلا الإكراه المادي، ولكن الاستحسان الذي وضحه السرخسي وغيره بوجوب أن يكون الإكراه الأدبي له أثره، وفي الجملة فإن بعض الفقهاء يعتبر كل أذى يصيب النفس ويحمل الشخص على تولي ما لا يريد، يكون من قبيل الإكراه، إذا كان ثمة تهديد به، ولقد لاحظ الحنابلة هذا، فقد جاء في المغني ما نصه: «فأما الضرب اليسير فإن كان في حق من لا يبالي به فليس بإكراه، وإن كان من ذوي المروءات على وجه يكون إحراجًا لصاحبه وغضًّا وتشهيرًا في حقه فهو كالضرب الكبير في حق غيره»[61].
ولكنا نرى أن الإكراه الملجئ وغير الملجئ قد يكون ماديًّا، كالضرب المبرح والإيذاء بأنواعه المختلفة، كما قد يكون أدبيًّا، كالتهديد بإلحاق الأذى دون إيقاعه بالفعل أو إحداث لأثر نفسي؛ لأنه يوقع في النفس رهبة أو ألمًا، ولهذا فإن الإكراه الأدبي وصف يندرج تحت نوعي الإكراه الرئيسيين، ولذا فقد اعتبره بعض الفقهاء إكراهًا مؤثرًا في بعض الحالات، فألحقه بأحد القسمين السابقين، ولم يعتبره البعض الآخر إكراهًا مؤثرًا مطلقًا.
ثانيًا: أنواع الإكراه عند المالكية:
قسم المالكية الإكراه إلى نوعين:
النوع الأول: الإكراه الشرعي.
وهو الإكراه على الفعل الذي تعلق به حق لمخلوق طوع، كما لو حلف بالطلاق لا ينفق على زوجته، أو لا يطيع أبويه، أو لا يقضي لفلان دينه الذي عليه، فأكرهه القاضي على الإنفاق عليها، أو على طاعة أبويه، أو على قضاء الدين.
وحكم هذا النوع: أنه طوع يقع به الطلاق جزمًا، وهو مذهب المدونة الذي به الفتوى، خلافًا للمغيرة ومن معه.
وكذا لو حلف بالطلاق ألا تخرج زوجته من المنزل، فأخرجها القاضي لتحلف اليمين عند المنبر، أو حلف في نصف عبد يملكه لا يبيعه، فأعتق شريكه نصفه، فقوم عليه نصيب الحالف وكمل به عتق الشريك، أو حلف لا يشتري نصيب شريكه، فأعتق الحالف نصيبه، فقوم عليه نصيب شريكه لتكميل عتقه، لزمه الطلاق في الصور الثلاث على المذهب، خلافًا للمغيرة حيث قال بعدم لزوم الطلاق، وقد اختار المصنف - رحمه الله - مذهب المغيرة[62].
النوع الثاني: الإكراه غير الشرعي.
وهو الإكراه على فعل لا يتعلق به حق لمخلوق، كما إذا أكره على إيقاع الطلاق، بأن حلف لا يدخل دارًا، فأكره على دخولها، أو حمل وأدخلها مكرهًا.
وحكم هذا النوع: أنه لا يلزمه الطلاق على المعتمد في المذهب إذا تحققت الشروط الخمسة الآتية:
1- أن تكون الصيغة صيغة بر، كما في المثال السابق، أما إذا كانت صيغة حنث؛ نحو: إن لم أدخل الدار فهي طالق، فأكره على عدم الدخول فإنه يحنث؛ لأن صيغة الحنث لا ينفع فيها الإكراه، لانعقادها على الحنث.
2- أن لا يأمر الحالف غيره أن يكرهه.
3- أن لا يعلم الحالف حين الحلف أن سيكره بعده.
4- أن لا يقول في يمينه: لا أدخلها طوعًا أو كرهًا.
5- أن لا يفعل المحلوف عليه بعد زوال الإكراه حيث كانت يمينه غير مقيدة بأجل، أما لو كانت مقيدة وفرغ الأجل، وفعل المحلوف عليه بعده طائعًا، فلا حنث.
وخالف ابن حبيب وقال بلزوم الطلاق[63].
يتبع