تربية الأولاد في الإسلام
د. سامية منيسي
روى أبو هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ((سبعةٌ يُظِلُّهُمُ اللهُ في ظِلِّهِ يومَ لا ظِلَّ إلا ظِلُّهُ: الإمام العادل، وشابٌّ نشأ في عبادة ربه، ورجُل قلبُه معلَّق في المساجد، ورجُلانِ تحابَّا في الله؛ اجتمَعا عليه وتفرَّقا عليه، ورجُل طلبتْه امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجَمالٍ فقال: إني أخاف الله، ورجُل تصدَّق فأخفَى صدقتَه حتى لا تَعْلَمَ شِمالُه ما تُنفق يَمينُه، ورجُل ذَكَرَ اللهَ خاليًا ففاضتْ عيناه))[1].
وهذا يَدُلُّنا على أهميَّة نشأة الشابِّ منذ صِغَرِه على الالتزام بالدِّين، والتمسُّك تمسُّكًا شديدًا بأهدابه.
وإذا كانت تربيةُ البنينَ تقع بالدرجة الأولى على كاهل الآباء؛ فإنَّ للأمَّهات - لا شك في ذلك - بصمات واضحة وجليَّة في تربيتهم. فالأمُّ كما ذكرنا هي المدرسة الأولى، وهي الحنان الدافق، والمعلِّم الحاذق لأبنائها سواء كانوا ذكورًا أو إناثًا، فقد رُوِيَ حديثٌ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم رسولِ الإنسانية؛ رواه عنه جابر بن سمرة: قال صلى الله عليه وسلم: ((لأنْ يُؤَدِّبَ أحدُكم ولدَه خيرٌ مِن أنْ يَتَصدَّق بصاع))[2].
وفي حديثٍ آخَر عن أيوب بن موسى، عن أبيه، عن جده؛ أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما نَحَلَ والدٌ ولدًا مِن نحلٍ أفضلَ مِن أدَبٍ حَسَنً))[3].
لذلك ينبغي أن يكون هناك اتِّفاق ومشاركة بين الوالدين في توجيه هذه التربيةِ الوجهةَ الصحيحةَ. والأبُ دائمًا ما يكون المثل الأعلى لابنه؛ لذلك كان على الأم أن تَغْرس في نفوسِ أبنائها الاحترامَ الواجبَ تجاه أبيهم، كما تَغْرس ذلك في نفوس بناتها.
وعلينا قبل أن نُشير إلى أهمية دور الأب؛ أن نُنَوِّهَ إلى أن الأم هي التي تُعمِّق في نفوس أبنائها وترسِّخ بذورَ الشهامة، والشجاعة، والصدق، والتسمك بأهداب الدِّين؛ وخاصَّة في فترة الطفولة المبكرة مِن حياتهم؛ حتى يشبُّوا عن الطوق وقد تأصَّلَت هذه الصفات تأصُّلًا عميقًا وراسخًا في نفوسهم.
فهي التي تَحتضِن صغيرَها، وتُرضِعه وتُهدهِده وتُداعِبه، تُطعِمه وتُنظِّفه وتَحمِيه، فهي البوتقة الأولى التي شبَّ فيها الطفل فتَحْفظه من كل تيارات وأنواء الحياة قدْر استطاعتها، وبمشيئة الله تعالى. ولذا فإننا نعُود هنا لِنُنَوِّهَ إلى أهمية عدم ترْك الأم أبنائها لينشؤوا بين الخدم والمربيات غير الأمينات - خاصَّة غير المسلمات - لِمَا يعود على الأبناء سواء الذكور أو الإناث بالسلبية وسُوء الخُلق، وقد يُؤدِّي ذلك بهم إلى الانحراف. لذا ينبغي أن يتمَّ التعاونُ بين الوالدين في إطار خطة منهجية يتَّفقان فيها على تربية الأبناء تربية صالحة وسليمة.
وتبدأ مرحلة الطفولة الأولى في أحضان الأم - كما ذكرنا - على أن يُباشره أبوه مِن حين لآخر، ولا يحرمه مِن حنانه وتوجيهاته، مع منْحه الشخصية المستقلَّة تدريجيًّا دون الانفصال عن والديه، ولكن تحت رقابتهما.
وفي هذه السِّنِّ الصغيرة جدًّا تبدأ أمُّه في تعليمه آداب الإسلام في كل شيء في تعاملاته، مع التدليل في الصغر، وتبدأ تدريجيًّا مرحلة التأديب لا يُبارح فيها حُضن أمِّه إلا للضرورة، وإذا كان لا بد مِن وجود الخدم، فلا تُوكل إليهم تربيته كلَّ الوقت أو مُعْظمه، وإنما لبعض الوقت، وللظروف المهمة، ولفترات محددة.
ثم تبدأ مرحلة التأديب الأولى قبل التِحاقِه بالمدرسة؛ تُعلِّمه فيها الصلاة والصيام بما يتناسب مع سِنِّه الصغيرة، والرياضة، وتلاعبه فيها وتوجهه لآداب الإسلام والالتزام بمبادئه؛ مِن صدْق الحديث، والبُعد عن الكذب، وحُبِّه لأقرانه، والعطاء لهم دون انتظار مقابل لذلك.
وكما سبق أن ذكرنا؛ فإن عدم التفرقة في المعاملة بين الأبناء هو أساس التربية السليمة لهم، والتي لا تُورث حقدًا أو ضغينة بين الأبناء بعضهم البعض؛ لذا عليها الاهتمام بهم جميعًا في طريقة تربيتها، ولا تهتم بطفل دون آخر.
ومن خلال تعليم الأم لأبنائها آداب الإسلام تبدأ في تلقينهم آيات من القرآن الكريم بصورة عملية؛ فتقُوم هي بنفسها إن استطاعت - وإلا فلتوكله إلى أحد يقُوم بتعليمه حفظ القرآن الكريم وتفسيره له - كما تقوم بتعليمه الصلاة وتَؤُمُّه في الصلاة في البيت حتى يتعوَّد عليها، ثم تدرِّبه على الصيام حتى يُكمل يومَه صائمًا، وبذلك يتعلَّم الجلَد والصبر والانتصار على النفس، وأيضًا مشاركة الفقراءِ في حرمانهم مِن بعض ما يَشتَهونه مِن الأطعمة أو الأشربة أو غير ذلك من ألوان الطعام المطلوبة عند الأطفال والكبار، وأيضًا تدريبه على العطاء والتصدُّق في هذه الأيام المباركات.
وأيضًا تقُوم الأمُّ بالخروج مع طفلها لمشاهدة الطبيعة الجميلة، وخَلْق الله تعالى، وبدائع صُنْعه في كل شيء، وتلفِتُ نظرَه إلى قُدرة الله تعالى، والتنسيق البديع في كل صَنْعة ونِعْمة مِن نعمِه.
كما تتريَّض معه، وتقُوم بتلقِينه القصص الديني، وقصص الأنبياء؛ ليأخذ من حياتهم العِبرة والقُدوة على قدْر طاقته ومعرفته وفهمه. كذلك تصحبه الأمُّ إلى المسجد إذا ذهبَت لأداء الصلاة فيه؛ حتى يبدأ في التعوُّد على التردُّد على المساجد، أو تجعله يصحب والده إلى المسجد على قدْر استطاعته لذلك.
وحينما تبدأ سِنُّه مع مرحلة الدراسة في المدرسة تَصحبه إليها مع أبيه - فإن لم يستطع أبوه صُحبتَهما، تذهب هي معه - لِتشترِك معه في إعداده لِتلقِين دروسِه وتوجيهه وإعداده كرجُل المستقبل، كما تُوجِّهه إلى الرياضة النافعة سواء ما ذكر عن النبي صلى الله عليه وسلم مِن أنه أمَر بتعليم الأولاد السباحة وركوب الخيل، أو ما استجدَّ مِن رياضات حديثة تُفِيد الشباب في حياتهم بصورة كبيرة، إلا أن ما ذُكِر عن النبي صلى الله عليه وسلم هو الأنفَع لمن يستطيع ذلك فإن لها فائدة جمَّة في السِّلْم والحرب.
وللرياضة بكافَّة أنواعها دورٌ عظيم في امتِصاص طاقاتِ الشباب، وتوجيههم الوجهة النافعة، والبعد عن مواطن الرذيلة ومسبِّباتها، كما أن فيها تنافسًا شريفًا بين الشباب وبعضِهم البعض، وتُعطي للشباب الطموح مجالًا للتفوُّق.
وحينما تُعوِّد الأمُّ ابنَها على ارتياد المساجد، وتصحبه إلى المسجد، أو يصحبه والده وهو ما زال لم يشبَّ عن الطوق؛ فإنها تُرَبِّي فيه الإيمانَ القويَّ، والخوف من الله تعالى، وحبَّ الله، وأيضًا مخالطة الناسِ الذين يَشهَد لهم الناسُ بالإيمان والتقوى، والله يعلم ما تُخفي الأنفُس والقلوب.
إلا أن الله تعالى ذكر مَن يَعتاد المساجدَ بقوله: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ﴾ [التوبة: 18].
كما وَرَد عن أبي سعيد الخدري، عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: ((إذا رأيتُمُ الرجُلَ يَعتاد المساجدَ فاشهَدوا له بالإيمان))؛ قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ ﴾ [4].
كذلك حينما يَصطحِب الأبُ ابنَه دائمًا إلى المساجد بعدما يشبُّ عن الطوق قليلًا يُعوِّده بذلك على ارتياد المساجد، وسماع مجالس الذكْر والحديث، وقراءة القرآن الكريم، ويَشهَد معه الجُمَع والجماعات؛ لِيُرَبِّيَ فيه التمسُّك بأهداب الدِّين، وأيضًا يُعلِّمه الاختلاطَ بخيار الناس الذين يرتادون المساجد بصفة منتظمة كما ذكرنا ذلك آنفًا.
يتبع