
23-08-2021, 11:03 AM
|
 |
قلم ذهبي مميز
|
|
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 160,970
الدولة :
|
|
رد: المماليك.. ملوك أعزوا الأمة بالإسلام - تقرير
المماليك.. ملوك أعزوا الأمة بالإسلام - تقرير
أحمد الشجاع
قطز يراسل أمراء الشام
لم يكتف قطز رحمه الله بهذه الجهود الدبلوماسية مع الناصر بل راسل بقية أمراء الشام، فاستجاب له الأمير المنصور صاحب حماة، وجاء من حماة ومعه بعض جيشه للالتحاق بجيش قطز في مصر.
أما المغيث عمر صاحب الكرك بالأردن فقد آثر أن يقف على الحياد، فقد كان من الذين عاونوا الناصر في حركة الجهاد المزعومة التي قام بها الناصر، ولما فر الناصر عاد المغيث عمر إلى حصن الكرك، وهو ليس من أهل الجهاد، ويكنّ كراهية كبيرة للمماليك، وحاول مرتين قبل ذلك أن يحتل مصر، وصده قطز في المرتين، فآثر المغيث عمر أن يظل مراقباً للأحداث للالتحاق بعد ذلك بالمعسكر الفائز سواء كانوا من المسلمين أو من التتار.
وأما الأشرف الأيوبي صاحب حمص فقد رفض الاستجابة تماماً لقطز، وفضل التعاون المباشر مع التتار، وبالفعل أعطاه هولاكو إمارة الشام كلها ليحكمها باسم التتار.
وأما الأخير وهو الملك السعيد حسن بن عبد العزيز صاحب بانياس فقد رفض التعاون مع قطز هو الآخر رفضاً قاطعاً، بل انضم بجيشه إلى قوات التتار يساعدهم في فتح بلاد المسلمين.
وهكذا خرج قطز من علاقاته الدبلوماسية الخارجية بأمور مهمة: فقد تحالف مع أمير حماة المنصور، وانضم إليه أيضاً جيش الناصر، وحيّد إلى حد كبير المغيث عمر صاحب الكرك، وهذه النتائج تعتبر نتائج مهمة جداً ومؤثرة للغاية، وحتى الانضمام السافر للأمير الأشرف الأيوبي والملك السعيد بن عبد العزيز إلى التتار كان مهماً، حيث إنه كشف أوراقهما بجلاء، وبُنيت خطة قطز على أساس وضوح الرؤية تماماً.
كان هذا هو الوضع السياسي والعسكري لمصر في أوائل سنة 658هـ، وقد سقطت في ذات الوقت حلب ودمشق وكل فلسطين حتى غزة تحت حكم التتار، والمعروف أن غزة قريبة جداً من الحدود المصرية.
التربية بالقدوة
لقد سلك قطز طريقين من أعظم طرق التربية لنفسه ولجنده ولشعبه، ومن أبلغ وسائل التحميس والتحفيز على عمل قد يستصعبه كثير من الناس.. أما الطريق الأول فهو طريق "التربية بالقدوة".. لقد قال لهم قطز في شجاعة وعزم: "أنا ألقى التتار بنفسي".
لقد فقه قطز عملياً ما أدركه كل المسلمين نظرياً، وهو أنه "لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها".. لكن مَن مِن المسلمين يعيش واقع حياته فعلاً بهذا المفهوم الذي عرفه نظرياً؟.
التذكير بالجهاد
أما الطريق الثاني فهو التذكير بعظم الهدف الذي من أجله خلق الإنسان، وبنبل الغاية التي من أجلها نعيش على الأرض..إنه يرتفع بنفوس الناس من مطامع الناس المادية البحتة إلى آفاق عالية.. إنه يربط كل عمل يعملونه بإرضاء الله، وبنصرة الدين.
إذا عظم كل واحد منا أمر الإسلام في قلبه فإنه سيستصغر أي تضحية في سبيل نصرة هذا الدين..هذه من أبلغ وسائل التحميس والتحفيز.. أن تعظم الغاية والهدف إلى أقصى درجة.. فيصبح جهادُك واستعدادُك وحركتك نوعًا من العبادة لله رب العالمين.
لقد قال لهم قطز في صراحة: "يا أمراء المسلمين، لكم زمان تأكلون من بيت المال، وأنتم للغزاة كارهون، وأنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني، ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته، وإن الله مطلع عليه، وخطيئة حريم المسلمين في رقاب المتأخرين".
ولا يخفي الإشارة المهمة التي ذكرها قطز من أن هؤلاء الأمراء والوزراء قد عاشوا سنوات يأكلون من بيت مال المسلمين، بل ويكثرون من الأكل والجمع حتى فقدت وظائفهم كل معنى، ولم يبق لها إلا معنى واحد هو استغلال المنصب لأقصى درجة لزيادة الثروة، من الحلال وغير الحلال على السواء، وما عاد الوزير يعتقد أنه موظف عند الشعب وليس سيداً عليهم، وأنه كما أن له حقوقاً فإن عليه واجبات، وأنه مسؤول ومحاسب من الله ومن شعبه على كل خطوة، وعلى كل درهم أو دينار.. لقد كانت هذه الكلمات من قطز تهدف إلى إيقاظ الضمير، وإلى إحياء الأمانة، وكشفت هذه الكلمات الوزراء أمام أنفسهم.. لقد كان قطز يرى بوضوح ما بداخل كل وزير.
ثم تحركت المشاعر بصورة أكبر وأكبر في صدر قطز رحمه الله، حتى وقف يخاطب الأمراء وهو يبكي ويقول:"يا أمراء المسلمين، من للإسلام إن لم نكن نحن".
أحياناً ينتظر المسلم أن يأتي النصر من مسلمين آخرين.. ينتظر أن يتحرك للإسلام فلان أو غيره، ولكنه قليلاً ما يفكر هو في التحرك.. بل كثيراً ما يقوم بعملية نقد وتحليل وتعليق على أفعال وأقوال العاملين للإسلام، أما هو فلا يتحرك.
أحياناً ينتظر المسلم أن يخرج صلاح أو خالد أو قطز أو القعقاع من بيت جاره، أو من بلد آخر، ولا يفترض أن يخرج هؤلاء من بيته هو شخصياً.
قرار الجهاد
قرار من أعظم القرارات التي اتخذها قطز، وهو قرار من أخطر القرارات في تاريخ مصر مطلقاً.. وهو قرار لا ينفع أن يرجع عنه القائد أو الجيش أو الشعب، وقطز رحمه الله يعلم أن قلوب الأمراء وافقت تحت تأثير القدوة، وتحت تأثير التذكير بالله، وبالواجب نحو الإسلام، لكن من الممكن لهذه القلوب أن تتردد وأن تخاف، ولذلك فقد أراد قطز أن يفعل أمراً يقطع به خط الرجعة تماماً على الأمراء، ويقطع به الأمل في الاستسلام، ولا يبقى أمامهم غير الخيار العسكري فقط.
رسالة هولاكو إلى قطز
بينما كان قطز في إعداده المتحمس، وفي خطواته السريعة، جاءته رسل هولاكو يخبرونه أن اللقاء سيكون أسرع مما يتخيل، وأن الحرب على وشك الحدوث.. وبينما كان قطز رحمه الله في حاجة إلى بضعة شهور للإعداد إذا بالأيام تتسرب من بين يديه، والحرب مفروضة عليه، وما بين عشية وضحاها ستهجم الجحافل الهمجية على مصر، شاء قطز أم أبى، فالصراع سيكون قريباً.
جاءت رسالة هولاكو مع أربعة من الرسل التتار.. وقرأ قطز رحمه الله فإذا فيها ما يلي:
«مِن ملك الملوك شرقاً وغرباً، الخان الأعظم، باسمك اللهم باسط الأرض ورافع السماء.. يعلم الملك المظفر قطز وسائر أمراء دولته أنّا نحن جند الله في أرضه، خلقنا من سخطه وسلّطنا على من حل به غضبه. فلكم بجميع البلاد معتَبَر، وعن عزمنا مزدجر، فاتعظوا بغيركم، وأسلموا إلينا أمركم قبل أن ينكشف الغطاء فتندموا ويعود عليكم الخطأ.. وقد سمعتم أننا قد فتحنا البلاد وطهرنا الأرض من الفساد وقتلنا معظم العباد، فعليكم بالهرب وعلينا الطلب. فأي أرض تأويكم؟، وأي طريق تنجيكم؟، وأي بلاد تحميكم؟. فما لكم من سيوفنا خلاص، ولا من مهابتنا مناص، فخيولنا سوابق، وسهامنا خوارق، وسيوفنا صواعق، وقلوبنا كالجبال، وعددنا كالرمال، فالحصون لدينا لا تمنع، والعساكر لقتالنا لا تنفع، ودعاؤكم علينا لا يُسمع.. فمن طلب حربنا ندم، ومن قصد أماننا سلم. فإن أنتم لشرطنا ولأمرنا أطعتم، فلكم ما لنا وعليكم ما علينا، وإن خالفتم هلكتم. فلا تهلكوا نفوسكم بأيديكم، فقد حذر من أنذر.. فلا تطيلوا الخطاب، وأسرعوا برد الجواب قبل أن تضرب الحرب نارها، وترمي نحوكم شرارها، فلا تجدون منا جاهاً ولا عزاً ولا كافياً ولا حرزاً، وتدهون منا بأعظم داهية، وتصبح بلادكم منكم خالية، فقد أنصفناكم إذ راسلناكم، وأيقظناكم إذ حذّرناكم، فما بقي لنا مقصد سواكم".
وانتهت الرسالة العجيبة التي خلت من أي نوع من أنواع الدبلوماسية، إنما كانت إعلاناً صريحاً بالحرب، أو البديل الآخر وهو التسليم المذل، ولابد أن يكون التسليم مذلاً، بمعنى أنه دون فرض أي شروط، أو طلب أي حقوق.
عقد قطز رحمه الله مجلساً استشارياً أعلى، وجمع كبار القادة والأمراء والوزراء، وبدءوا فوراً في مناقشة القضية الخطيرة التي طرحت أمامهم، والخيارات محدودة جداً، إما الحرب بكل تبعاتها، وإما التسليم غير المشروط.
أما قطز رحمه الله فكانت القضية في ذهنه واضحة تمام الوضوح، إنه لم يطرح الخيارين على نفسه للتفكير، فخيار السلام ـ أو "الاستسلام" ـ في هذا الموقف غير وارد عنده أبداً، وهو يعلم تمام العلم أن الحقوق لا "توهب" بل "تؤخذ"، وأن الجيوش المعتدية لا " تُقنع" بالعودة إلى بلادها، بل "تُرغم" على العودة إلى بلادها.
لكن الأمراء الذين اجتمعوا معه لم يكونوا على نفس الدرجة العالية جداً من الفقه والفهم.. نعم لديهم حمية دينية عالية، ونعم يحبون الإسلام حباً جماً، ونعم على درجة راقية من الفروسية والمهارة القتالية، لكن الاختبار صعب جداً.
لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين إمكانيات التتار كدولة من كوريا شرقاً إلى بولندا غرباً، وإمكانيات مصر التي مهما زادت فهي محدودة.. لقد كانت الفجوة هائلة فعلاً بين أعداد التتار وأسلحة التتار، وأعداد المصريين وأسلحة المصريين، هذا فوق السمعة الرهيبة لجيوش التتار، وفوق الملايين المسلمة التي ذُبحت على أيدي التتار، بالإضافة إلى الجيوش الخوارزمية والأرمينية والكرجية والعباسية والأوروبية والشامية التي هُزِمت أمام جيوش التتار.
لقد شاعت في تلك الأزمان كلمة تناقلها العوام والخواص.. كانوا يقولون: "إذا أخبرك أحد أن التتار يُهزمون فلا تصدقه"..
كل هذه التراكمات جعلت الأمراء يترددون في قبول ما رآه قطز رحمه الله أمراً واضحاً جداً لا تردد فيه.. وظهر عليهم الهلع والضعف والتثاقل إلى الأرض.
لقد قرر قطز بعد أن استشار مجلسه العسكري أن يقطع أعناق الرسل الأربعة الذين أرسلهم إليه هولاكو بالرسالة التهديدية، وأن يعلّق رؤوسهم على باب زويلة في القاهرة، وذلك حتى يراها أكبر عدد من الشعب، وهو يرمي بذلك إلى طمأنة الشعب بأن قائدهم لا يخاف التتار، وهذا سيرفع من معنوياتهم، كما أن هذا الردّ العنيف سيكون إعلاناً للتتار أنهم قادمون على قوم يختلفون كثيراً عن الأقوام الذين قابلوهم من قبل، وهذا قد يؤثر سلباً على التتار، فيلقي في قلوبهم ولو شيئاً من الرعب أو التردد، ويبقى الهدف الأكبر لقتل الرسل الأربعة هو قطع التفكير في أي حل سلمي للقضية، والاستعداد الكامل الجادّ للجهاد، فبعد قتل الرسل الأربعة لن يقبل التتار باستسلام مصر حتى لو قبل بذلك المسلمون.
قطز والمشكلة الاقتصادية
المشكلة الاقتصادية
بعد هذا الاجتماع الخطير، وبعد هذا القرار الصعب، وبعد قتل الرسل.. بدأ قطز رحمه الله في التجهيز السريع للجيش، فقد اقتربت جداً لحظة المواجهة.. لكن واجهت قطز مشكلة أخرى ضخمة لا تقل عن المشاكل التي قابلها قبل ذلك.. ولاحِظوا أن قطز رحمه الله قد تولّى عرش مصر في الرابع والعشرين من ذي القعدة سنة 657هـ، وجاءته رسالة هولاكو قبل أن يغادر هولاكو أرض الشام عائداً إلى منغوليا بعد وفاة زعيم التتار منكوخان، وهولاكو غادر الشام بعد سقوط حلب بقليل، وقبل فتح دمشق، فسقوط حلب في ربيع الأول سنة 658هـ.. أي بعد تولّي قطز رحمه الله لرئاسة مصر بثلاثة شهور فقط.
إذن كل الترتيبات والخطوات التي أخذها قطز رحمه الله أخذت في ثلاثة شهور فقط، والمشاكل التي قابلها تحتاج فعلاً إلى سنوات - بل إلى عقود كاملة - حتى يتم حلها على الوجه الأمثل.. لكنه رحمه الله استعان بالله، وبدأ بحمية ونشاط يتعامل مع المشكلة تلو الأخرى، والهدف في ذهنه واضح جداً: لابدّ من القضاء على هذه القوة الهمجية.. قوة التتار، وتحرير بلاد المسلمين.
والمشكلة الجديدة التي أمام قطز الآن هي المشكلة الاقتصادية.
لابدّ من تجهيز الجيش المسلم، وإعداد التموين اللازم له، وإصلاح الجسور والقلاع والحصون، وإعداد العدة اللازمة للحرب، وتخزين ما يكفي للشعب في حال الحصار.. هذه أمور ضخمة جداً.. والأزمة الاقتصادية التي تمر بالبلاد أزمة طاحنة.
جمع قطز رحمه الله مجلسه الاستشاري، ودعا إليه ـ إلى جانب الأمراء والقادة ـ العلماء والفقهاء، وعلى رأسهم سلطان العلماء الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله.. وبدءوا يفكرون في حلّ للأزمة الاقتصادية الطاحنة، وكيف يوفرون الدعم الكافي لتجهيز الجيش الكبير الخارج لملاقاة التتار.
واقترح قطز رحمه الله أن تفرض على الناس ضرائب لدعم الجيش، وهذا قرار يحتاج إلى فتوى شرعية، لأن المسلمين في دولة الإسلام لا يدفعون سوى الزكاة، ولا يدفعها إلا القادر عليها، وبشروط الزكاة المعروفة، أما فرض الضرائب فوق الزكاة فهذا لا يكون إلا في ظروف خاصة جداً، ومؤقتة جداً، ولابدّ من وجود سند شرعي يبيح ذلك.. وإلا صارت الضرائب مكوساً.
قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله: إذا طرق العدو البلاد وجب على العالم كلهم قتالهم (أي العالم الإسلامي)، وجاز أن يؤخذ من الرعية ما يستعان به على جهازهم (أي فوق الزكاة) بشرط أن لا يبقى في بيت المال شيء"، هذا هو الشرط الأول. أما الشرط الثاني فكان أصعب، قال الشيخ العزّ بن عبد السلام رحمه الله: "وأن تبيعوا مالكم من الممتلكات والآلات، ويقتصر كل منكم على فرسه وسلاحه، وتتساووا في ذلك أنتم والعامة، وأما أخذ أموال العامة مع بقاء ما في أيدي قادة الجند من الأموال والآلات الفاخرة فلا".
قبل قطز كلام الشيخ العز بن عبد السلام ببساطة، وبدأ بنفسه، فباع كل ما يملك، وأمر الوزراء والأمراء أن يفعلوا ذلك، فانصاع الجميع، وتم تجهيز الجيش المسلم بالطريقة الشرعية.
واكتشف المسلمون في مصر أن مصر غنية جداً، وأن البلد به أموال ضخمة برغم الأزمة الاقتصادية الطاحنة، فقد امتلأت جيوب كثير من الوزراء والأمراء بأموال البلد الهائلة..ثم جاء قطز رحمه الله وبدأ في عملية تنظيف منظمة للبلد، تنظيف لليد والقلب.
أخيراً اصطلح القائد مع شعبه بعد سنوات من القطيعة بين الحكام والشعوب، فكانت النتيجة تجهيز جيش عظيم مهيب، غايته نبيلة، وأمواله حلال، ودعاء الناس له مستفيض، وإعداده جيد.. {إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7].
ونصر الله لا يكون إلا بتطبيق شرعه، والجيش المسلم الذي يخالف قاعدة شرعية لا يمكن أن ينصره الله، فالبداية بيد المسلمين.
إعداد الشعب
وتبدأ حملة إعلامية تربوية في غاية الأهمية.. ليست للقائد أو للجيش فقط.. بل للشعب بأكمله..ولابد أن يقوم بالحملة الإعلامية رجال مخلصون، فأحياناً يقف بعض المنافقين يتحدثون عن الجهاد، ويشرحون مآسي المسلمين في قطر ما، وما يفعلون ذلك إلا لمصلحة سياسية مؤقتة، فإذا انقضت المصلحة انقطع الوازع، وانقطع معه الكلام عن الجهاد وعن الحرب.
انطلق الشيخ العز بن عبد السلام رحمه الله ومن معه من علماء الأمة، يصعدون منابر المساجد، ويلهبون مشاعر الناس بحديث الجهاد..لقد رغّبوا الناس في الجنة، وزهّدوهم في الدنيا، وعظّموا لهم أجر الشهداء.
إعداد الشعب ليوم الجهاد مهمة عظيمة، وهي ليست سهلة أو بسيطة.. إنما تحتاج لمجهود كبير، ولمناهج مكثفة، ولإخلاص عميق، ولوقت قد يكون طويلاً.. وبدون هذا التأهيل لن يصبر الشعب على حياة الجهاد، وحياة الحروب، وحياة الحصار.
واستمر إعداد الجيش وتجهيزه، وجمع المتطوعين، وتدريب المجاهدين، وذلك لمدة خمسة شهور، من شهر ربيع الأول سنة 658هـ إلى نهاية شهر رجب من نفس السنة.
الهدنة بين قطز والصليبيين
في هذه الأثناء ـ وتجهيز الجيش على قدم وساق ـ كانت هناك جهود دبلوماسية يقوم بها قطز لتمهيد الطريق إلى اللقاء الكبير المرتقب مع التتار.
لقد كانت هناك أجزاء ليست بالقليلة من فلسطين ولبنان وسوريا ـ وخاصة على ساحل البحر الأبيض المتوسط ـ محتلة من قبل الإمارات الصليبية، فكانت هناك إمارات صليبية في عكا وحيفا وصيدا وصور وبيروت واللاذقية وأنطاكية وغيرها.. وكانت أقوى هذه الإمارات مطلقاً هي إمارة عكا في فلسطين، وهذه الإمارة تقع في طريق قطز إذا أراد أن يحارب التتار في فلسطين.
ومن خلال نظرته للواقع السياسي والعسكري وجد قطز أن أفضل الحلول هو الإسراع بعقد معاهدة مع الصليبيين في عكا، قبل أن يتحالف الصليبيون مع التتار.
وأسرع قطز بإرسال سفارة إلى عكا للتباحث في إمكانية إقامة هدنة سلام مؤقتة بين المسلمين والصليبيين، ولو وُفق الوفد المسلم في هذه الهدنة فإن هذا سيحيّد جيش الصليبيين من جهة، وسيُؤمّن ظهر الجيش المسلم من ناحية أخرى، وبالفعل جلس الوفد المسلم مع أمراء الصليبيين يتباحثون في أمر هذه الهدنة، وكان الصليبيون من الضعف بحيث أنهم خافوا ألا يظفروا من المسلمين بعهد فينقلب عليهم المسلمون؛ ولذلك فقد تقبلوا فكرة الهدنة بسرعة، بل إن بعضهم عرض فكرة التحالف العسكري لقتال التتار. غير أن هذه الفكرة لم تلق موافقة من كلا الطرفين.. فبقية أمراء الصليبيين كانوا يخشون من الخروج من عكا بجيشهم فيدخل المسلمون عكا إذا انتصروا على التتار، كما أن المسلمين كانوا لا يضمنون خيانة الصليبيين أثناء القتال، وخاصة أن جيش التتار متعاون مع بعض ملوك وأمراء النصارى - كملك أرمينيا وملك الكرج وأمير أنطاكية - كما أن قائد التتار الحالي نصراني وهو كتبغا.
لذلك قبل الطرفان بفكرة الهدنة المؤقتة، وأصر الوفد المسلم على أن تكون هذه الهدنة مؤقتة تنتهي بانتهاء حرب التتار؛ لأنه ليس من المقبول شرعاً أن يقر المسلمون بسلام دائم مع مغتصب للأرض الإسلامية، وليس من الشرع أن يعترف المسلمون بدولة صليبية أو غيرها فوق الأرض الإسلامية مهما تقادم الزمان عليها في احتلال الأرض واستيطانها، واذكروا أن الصليبيين يعيشون الآن في عكا منذ مائة وست وستين سنة، أي أن هناك أجيالاً كاملة ولدت وعاشت وماتت في عكا، ومع ذلك لم يعترف قطز أبداً بأحقية هؤلاء المغتصبين في الأرض الفلسطينية المسلمة، حسب قول السرجاني.
ولكن لأن قطز رحمه الله يعلم أن هؤلاء {لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً}[التوبة: 10]، فإنه أخذ حذره عن طريق الترهيب والترغيب مع الصليبيين.. فقد حذرهم الوفد المسلم بشدة من أنه إذا حدثت أي خيانة للعهد، فإن المسلمين سيتركون التتار وينقلبون على الصليبيين، ولن يتركوهم حتى يحرروا عكا، وهكذا فالمعاهدة من منطلق القوة والبأس تختلف كثيراً عن المعاهدة من منطلق الضعف والخَوَر.. القوي دائماً يملي شروطه، والضعيف يتلقى شروط الآخر؛ ولذلك فإذا عاهد المسلمون قوماً آخرين سواء كانوا تتار أو صليبيين أو يهوداً فإنهم لابد أن يملكوا وسيلة العقاب للطرف الآخر إذا خالف المعاهدة أو نقض بنداً من بنودها، وإلا فلا معنى للمعاهدة؛ لأنهم حتماً سيخالفون إذا وجدوا فرصة.
كان هذا هو جانب الترهيب.. أما الترغيب فإن قطز قد وعدهم أنه في حالة الانتصار على جيش التتار، فإنهم سيبيعون خيول المغول لأهل عكا بأسعار مخفضة.. وهذا إغراء كبير، وذلك لحاجة الناس والأمراء والجيوش الشديدة للخيول، وخيول التتار مشهورة بالقوة.
واتفق قطز أيضاً مع الصليبيين في عكا أن يسهموا في إمداد الجيش المسلم بالمؤن والطعام أثناء وجوده في فلسطين ووافق الصليبيون على ذلك..وأصبح بذلك الطريق إلى لقاء التتار آمناً، وبدأ قطز رحمه الله يضع اللمسات الأخيرة في جيشه استعداداً للانطلاق.
وضع الخطة
بعد كل هذا الإعداد الذي أعدَّه قطز جاء وقت إعداد الخطة، ووضع الخريطة لتحرك الجيش..واجتمع قطز مع المجلس العسكري لبحث أفضل طريقة لحرب التتار، وليبحثوا توفير أفضل ظروف لتحقيق الانتصار.
وقام قطز بإلقاء بيانه الذي يوضح فيه رأيه في الخطة العسكرية.. لقد أراد قطز رحمه الله أن يخرج بجيشه لمقابلة جيش التتار في فلسطين.
وكانت خطته تقوم على أساس ترك سياسة الدفاع والتحصن في المدن إلى سياسة الهجوم المنظم، واعترض أغلب الأمراء، لقد أراد الأمراء أن يبقى قطز في مصر ليدافع عنها، فمصر - في رأي الأمراء - هي مملكته، أما فلسطين فهي مملكة أخرى.
وبدأ قطز رحمه الله يناقش الأمراء ويشرح لهم مزايا خطته، وأبعاد نظرته، وأهداف الحرب في رأيه، ومهمة الجيش في اعتقاده.
التحرك
بدأ تجمع الجيش المسلم في معسكر الانطلاق، وكان هذا المعسكر في منطقة الصالحية بمحافظة الشرقية الآن، وكانت نقطة انطلاق للجيوش المصرية المتجهة إلى الشرق وتجمعت الفرق العسكرية من معسكرات التدريب المنتشرة في القاهرة والمدن الكبرى، ثم أعطى قطز إشارة البدء والتحرك في اتجاه فلسطين.
واتجه الجيش من الصالحية إلى اتجاه الشمال الشرقي حتى وصل إلى سيناء، ثم اتجه شمالاً أكثر ليسلك طريق الساحل الشمالي لسيناء بحذاء البحر الأبيض المتوسط.. وكان هذا التحرّك في أوائل شهر شعبان سنة 658هـ - يوليو من سنة 1260م.
وكان قطز رحمه الله يتحرك على تعبئة.. بمعنى أنه يتحرك وقد رتّب جيشه الترتيب الذي سيقاتل به لو حدث قتال، وذلك حتى إذا فاجئه جيش التتار كان مستعداً.
وكان قطز رحمه الله قد وضع على مقدمة جيشه ركن الدين بيبرس القائد العسكري الفذ؛ ليكون أول من يصطدم بالتتار، فيحدث نصراً ـ ولو جزئياً - مما سيرفع من معنويات المسلمين.
وكان قطز أيضاً قد سلك في ترتيب جيشه أمراً لم يكن يعهده المعاصرون في زمانه، وذلك على سبيل التجديد في القيادة والإعداد حتى يربك خطط العدو، فكون قطز مقدمة الجيش من فرقة كبيرة نسبياً على رأسها ركن الدين بيبرس، وجعل هذه الفرقة تتقدم كثيراً عن بقية الجيش، وتظهر نفسها في تحركاتها، بينما يتخفي بقية الجيش في تحركاته، فإذا كان هناك جواسيس للتتر اعتقدوا أن مقدمة الجيش هي كل الجيش، فيكون استعداد التتار على هذا الأساس، ثم يظهر بعد ذلك قطز، وقد فاجأ التتار الذين لم يستعدوا له.
يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟ فبكى رحمه الله ثم قال : أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.
|