عرض مشاركة واحدة
  #3  
قديم 21-08-2021, 11:19 PM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 163,685
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن
صَاحِبِ الْفَضِيلَةِ الشَّيْخِ مُحَمَّدٍ الْأَمِينِ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ
الحلقة (29)

سورة النساء (3)


قوله تعالى : واللاتي تخافون نشوزهن الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن النشوز قد يحصل من النساء ، ولم يبين هل يحصل من الرجال نشوز أو لا ؟ ولكنه بين في موضع آخر [ ص: 241 ] أن النشوز أيضا قد يحصل من الرجال ، وهو قوله تعالى : وإن امرأة خافت من بعلها نشوزا أو إعراضا الآية [ 4 \ 128 ] ، وأصل النشوز في اللغة الارتفاع ، فالمرأة الناشز كأنها ترتفع عن المكان الذي يضاجعها فيه زوجها ، وهو في اصطلاح الفقهاء الخروج عن طاعة الزوج ، وكأن نشوز الرجل ارتفاعه أيضا عن المحل الذي فيه الزوجة وتركه مضاجعتها ، والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : وإن تك حسنة يضاعفها الآية ، لم يبين في هذه الآية الكريمة أقل ما تضاعف به الحسنة ولا أكثره ولكنه بين في موضع آخر أن أقل ما تضاعف به عشر أمثالها ، وهو قوله : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها [ 6 \ 160 ] .

وبين في موضع آخر أن المضاعفة ربما بلغت سبعمائة ضعف إلى ما شاء الله ، وهو قوله : مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل الآية [ 2 \ 261 ] كما تقدم .
قوله تعالى : يومئذ يود الذين كفروا وعصوا الرسول لو تسوى بهم الأرض الآية ، على القراءات الثلاث معناه أنهم يتمنون أن يستووا بالأرض ، فيكونوا ترابا مثلها على أظهر الأقوال ، ويوضح هذا المعنى قوله تعالى : يوم ينظر المرء ما قدمت يداه ويقول الكافر ياليتني كنت ترابا [ 78 \ 40 ] .

قوله تعالى : ولا يكتمون الله حديثا بين في موضع آخر أن عدم الكتم المذكور هنا ، إنما هو باعتبار إخبار أيديهم وأرجلهم بكل ما عملوا عند الختم على أفواههم إذا أنكروا شركهم ومعاصيهم وهو قوله تعالى : اليوم نختم على أفواههم وتكلمنا أيديهم وتشهد أرجلهم بما كانوا يكسبون [ 36 \ 65 ] ، فلا يتنافى قوله : ولا يكتمون الله حديثا [ 4 \ 42 ] ، مع قوله عنهم : والله ربنا ما كنا مشركين [ 6 \ 23 ] ، وقوله عنهم أيضا : ما كنا نعمل من سوء [ 16 \ 28 ] ، وقوله عنهم : بل لم نكن ندعو من قبل شيئا [ 40 ] ، للبيان الذي ذكرنا والعلم عند الله تعالى .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون بين تعالى في هذه الآية زوال السكر بأنه هو أن يثوب للسكران عقله ، حتى يعلم معنى الكلام الذي يصدر منه بقوله : حتى تعلموا ما تقولون [ 4 \ 43 ] .
[ ص: 242 ] قوله تعالى : ألم تر إلى الذين أوتوا نصيبا من الكتاب يشترون الضلالة ويريدون أن تضلوا السبيل الآية . ذكر في هذه الآية الكريمة أن الذين أوتوا نصيبا من الكتاب مع اشترائهم الضلالة يريدون إضلال المسلمين أيضا .

وذكر في موضع آخر أنهم كثير ، وأنهم يتمنون ردة المسلمين ، وأن السبب الحامل لهم على ذلك إنما هو الحسد وأنهم ما صدر منهم ذلك إلا بعد معرفتهم الحق وهو قوله تعالى : ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين [ 2 \ 109 ] .

وذكر في موضع آخر أن هذا الإضلال الذي يتمنونه للمسلمين لا يقع من المسلمين ، وإنما يقع منهم أعني المتمنين الضلال للمسلمين وهو قوله : ودت طائفة من أهل الكتاب لو يضلونكم وما يضلون إلا أنفسهم وما يشعرون [ 3 ] .
قوله تعالى : أو نلعنهم كما لعنا أصحاب السبت ، لم يبين هنا كيفية لعنه لأصحاب السبت ، ولكنه بين في غير هذا الموضع أن لعنه لهم هو مسخهم قردة ومن مسخه الله قردا غضبا عليه ملعون بلا شك ، وذلك قوله تعالى : ولقد علمتم الذين اعتدوا منكم في السبت فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 2 \ 65 ] ، وقوله : فلما عتوا عن ما نهوا عنه قلنا لهم كونوا قردة خاسئين [ 7 \ 166 ] ، والاستدلال على مغايرة اللعن للمسخ بعطفه عليه في قوله : قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير [ 5 \ 60 ] ، لا يفيد أكثر من مغايرته للمسخ في تلك الآية ، كما قاله الألوسي في " تفسيره " وهو ظاهر واللعنة في اللغة : الطرد والإبعاد ، والرجل الذي طرده قومه وأبعدوه لجناياته تقول له العرب رجل لعين ، ومنه قول الشاعر :

[ الوافر ]
ذعرت به القطا ونفيت عنه مقام الذئب كالرجل اللعين


وفي اصطلاح الشرع : اللعنة : الطرد والإبعاد عن رحمة الله ، ومعلوم أن المسخ من أكبر أنواع الطرد والإبعاد .
قوله تعالى : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد افترى إثما عظيما [ ص: 243 ] ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى لا يغفر الإشراك به وأنه يغفر غير ذلك لمن يشاء وأن من أشرك به فقد افترى إثما عظيما .

وذكر في مواضع أخر : أن محل كونه لا يغفر الإشراك به إذا لم يتب المشرك من ذلك ، فإن تاب غفر له كقوله : إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا الآية [ 25 \ 70 ] ، فإن الاستثناء راجع لقوله : والذين لا يدعون مع الله إلها آخر [ 25 \ 68 ] ، وما عطف عليه ; لأن معنى الكل جمع في قوله : ومن يفعل ذلك يلق أثاما الآية [ 25 \ 68 ] وقوله : قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف [ 8 \ 38 ] . وذكر في موضع آخر : أن من أشرك بالله قد ضل ضلالا بعيدا عن الحق ، وهو قوله في هذه السورة الكريمة أيضا : إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد ضل ضلالا بعيدا [ 4 \ 116 ] ، وصرح بأن من أشرك بالله فالجنة عليه حرام ومأواه النار بقوله : إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار [ 5 ] ، وقوله : ونادى أصحاب النار أصحاب الجنة أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله قالوا إن الله حرمهما على الكافرين [ 7 \ 50 ] .

وذكر في موضع آخر أن المشرك لا يرجى له خلاص ، وهو قوله : ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق [ 22 \ 31 ] ، وصرح في موضع آخر : بأن الإشراك ظلم عظيم بقوله عن لقمان مقررا له : إن الشرك لظلم عظيم [ 31 \ 13 ] .

وذكر في موضع آخر أن الأمن التام والاهتداء ، إنما هما لمن لم يلبس إيمانه بشرك ، وهو قوله : الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون [ 6 \ 82 ] ، وقد صح عنه - صلى الله عليه وسلم - أن معنى بظلم بشرك .
قوله تعالى : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم بل الله يزكي من يشاء الآية ، أنكر تعالى عليهم في هذه الآية تزكيتهم أنفسهم بقوله : ألم تر إلى الذين [ 4 \ 49 ] ، وبقوله : انظر كيف يفترون على الله الكذب وكفى به إثما مبينا [ 4 \ 50 ] ، وصرح بالنهي العام عن تزكية النفس وأحرى نفس الكافر التي هي أخس شيء وأنجسه بقوله : هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى [ 53 ] ، [ ص: 244 ] ولم يبين هنا كيفية تزكيتهم أنفسهم .

ولكنه بين ذلك في مواضع أخر ، كقوله عنهم : نحن أبناء الله وأحباؤه [ 5 \ 18 ] ، وقوله : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى [ 2 \ 111 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .
قوله تعالى : وندخلهم ظلا ظليلا ، وصف في هذه الآية الكريمة ظل الجنة بأنه ظليل ، ووصفه في آية أخرى بأنه دائم ، وهي قوله : أكلها دائم وظلها [ 13 \ 35 ] ، ووصفه في آية أخرى بأنه ممدود ، وهي قوله : وظل ممدود [ 56 ] ، وبين في موضع آخر أنها ظلال متعددة ، وهو قوله : إن المتقين في ظلال وعيون الآية [ 77 \ 41 ] .

وذكر في موضع آخر أنهم في تلك الظلال متكئون مع أزواجهم على الأرائك وهو قوله : هم وأزواجهم في ظلال على الأرائك متكئون [ 36 \ 56 ] ، والأرائك : جمع أريكة وهي السرير في الحجلة ، والحجلة بيت يزين للعروس بجميع أنواع الزينة ، وبين أن ظل أهل النار ليس كذلك بقوله : انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون انطلقوا إلى ظل ذي ثلاث شعب لا ظليل ولا يغني من اللهب [ 77 29 ، 30 ] ، وقوله : وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال في سموم وحميم وظل من يحموم لا بارد ولا كريم [ 56 \ 41 ، 44 ] .
قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية أمر الله في هذه الآية الكريمة بأن كل شيء تنازع فيه الناس من أصول الدين ، وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى كتاب الله ، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ; لأنه تعالى قال : من يطع الرسول فقد أطاع الله [ 4 \ 80 ] ، وأوضح هذا المأمور به هنا بقوله : وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله [ 42 \ 10 ] ، ويفهم من هذه الآية الكريمة أنه لا يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - وقد أوضح تعالى هذا المفهوم موبخا للمتحاكمين إلى غير كتاب الله ، وسنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - مبينا أن الشيطان أضلهم ضلالا بعيدا عن الحق بقوله : ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالا بعيدا [ 4 \ 60 ] ، وأشار إلى أنه لا يؤمن أحد حتى يكفر بالطاغوت بقوله : فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى [ 2 \ 256 ] .

[ ص: 245 ] ومفهوم الشرط أن من لم يكفر بالطاغوت لم يستمسك بالعروة الوثقى وهو كذلك ، ومن لم يستمسك بالعروة الوثقى فهو بمعزل عن الإيمان ; لأن الإيمان بالله هو العروة الوثقى ، والإيمان بالطاغوت يستحيل اجتماعه مع الإيمان بالله ; لأن الكفر بالطاغوت شرط في الإيمان بالله أو ركن منه ، كما هو صريح قوله : فمن يكفر بالطاغوت الآية [ 2 \ 256 ] .

تنبيه

استدل منكرو القياس بهذه الآية الكريمة ، أعني قوله تعالى : فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله الآية ، على بطلان القياس قالوا : لأنه تعالى أوجب الرد إلى خصوص الكتاب والسنة دون القياس ، وأجاب الجمهور بأنه لا دليل لهم في الآية ; لأن إلحاق غير المنصوص بالمنصوص لوجود معنى النص فيه لا يخرج عن الرد إلى الكتاب والسنة ، بل قال بعضهم : الآية متضمنة لجميع الأدلة الشرعية ، فالمراد بإطاعة الله العمل بالكتاب ، وبإطاعة الرسول العمل بالسنة ، وبالرد إليهما القياس ; لأن رد المختلف فيه غير المعلوم من النص إلى المنصوص عليه ، إنما يكون بالتمثيل والبناء عليه ، وليس القياس شيئا وراء ذلك .

وقد علم من قوله تعالى : فإن تنازعتم أنه عند عدم النزاع يعمل بالمتفق عليه ، وهو الإجماع قاله الألوسي في " تفسيره " .
قوله تعالى : وإذا قيل لهم تعالوا إلى ما أنزل الله وإلى الرسول رأيت المنافقين يصدون عنك صدودا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا دعوا إلى ما أنزل الله ، وإلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصدون عن ذلك صدودا أي : يعرضون إعراضا .

وذكر في موضع آخر أنهم إذا دعوا إليه صلى الله عليه وسلم ; ليستغفر لهم لووا رءوسهم ، وصدوا واستكبروا ، وهو قوله : وإذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم ورأيتهم يصدون وهم مستكبرون [ 63 \ 5 ] .



قوله تعالى : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما أقسم تعالى في هذه الآية الكريمة بنفسه [ ص: 246 ] الكريمة المقدسة ، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم رسوله - صلى الله عليه وسلم - في جميع الأمور ، ثم ينقاد لما حكم به ظاهرا وباطنا ويسلمه تسليما كليا من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، وبين في آية أخرى أن قول المؤمنين محصور في هذا التسليم الكلي ، والانقياد التام ظاهرا وباطنا لما حكم به صلى الله عليه وسلم ، وهي قوله تعالى : إنما كان قول المؤمنين إذا دعوا إلى الله ورسوله ليحكم بينهم أن يقولوا سمعنا وأطعنا الآية [ 24 \ 51 ] .
قوله تعالى : فإن أصابتكم مصيبة قال قد أنعم الله علي إذ لم أكن معهم شهيدا ، ذكر في هذه الآية الكريمة أن المنافقين إذا سمعوا بأن المسلمين أصابتهم مصيبة أي : من قتل الأعداء لهم ، أو جراح أصابتهم ، أو نحو ذلك يقولون : إن عدم حضورهم معهم من نعم الله عليهم .

وذكر في مواضع أخر أنهم يفرحون بالسوء الذي أصاب المسلمين ، كقوله تعالى : وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها [ 3 \ 120 ] ، وقوله : وإن تصبك مصيبة يقولوا قد أخذنا أمرنا من قبل ويتولوا وهم فرحون [ 9 \ 50 ] .
قوله تعالى : ولئن أصابكم فضل من الله ليقولن كأن لم تكن بينكم وبينه مودة يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزا عظيما ، ذكر في هذه الآية الكريمة ، أن المنافقين إذا سمعوا أن المسلمين أصابهم فضل من الله أي : نصر وظفر وغنيمة تمنوا أن يكونوا معهم ; ليفوزوا بسهامهم من الغنيمة .

وذكر في مواضع أخر أن ذلك الفضل الذي يصيب المؤمنين يسوءهم لشدة عداوتهم الباطنة لهم ، كقوله تعالى : إن تمسسكم حسنة تسؤهم [ 3 \ 120 ] ، وقوله : إن تصبك حسنة تسؤهم [ 9 \ 50 ] .
قوله تعالى : ومن يقاتل في سبيل الله فيقتل أو يغلب الآية ، ذكر في هذه الآية الكريمة أنه سوف يؤتي المجاهد في سبيله أجرا عظيما سواء أقتل في سبيل الله ، أم غلب عدوه ، وظفر به .

وبين في موضع آخر أن كلتا الحالتين حسنى ، وهو قوله : قل هل تربصون بنا إلا إحدى الحسنيين [ 9 \ 52 ] ، والحسنى صيغة تفضيل ; لأنها تأنيث الأحسن .
قوله تعالى : حرض المؤمنين الآية [ 4 \ 84 ] ، لم يصرح هنا بالذي يحرض عليه [ ص: 247 ] المؤمنين ما هو ، وصرح في موضع آخر بأنه القتال ، وهو قوله : حرض المؤمنين على القتال ، وأشار إلى ذلك هنا بقوله في أول الآية : فقاتل في سبيل الله ، وقوله في آخرها : عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا الآية .
قوله تعالى : أتريدون أن تهدوا من أضل الله ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا ، أنكر تعالى في هذه الآية الكريمة على من أراد أن يهدي من أضله الله وصرح فيها بأن من أضله الله لا يوجد سبيل إلى هداه ، وأوضح هذا المعنى في آيات كثيرة كقوله : ومن يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم لهم في الدنيا خزي ولهم في الآخرة عذاب عظيم [ 5 \ 41 ] ، وقوله : من يضلل الله فلا هادي له [ 7 \ 186 ] ، ويؤخذ من هذه الآيات أن العبد ينبغي له كثرة التضرع والابتهال إلى الله تعالى أن يهديه ولا يضله ; فإن من هداه الله لا يضل ، ومن أضله لا هادي له ، ولذا ذكر عن الراسخين في العلم أنهم يقولون : ربنا لا تزغ قلوبنا الآية [ 3 \ 8 ] .
قوله تعالى : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما ذكر في هذه الآية الكريمة أنه فضل المجاهدين في سبيل الله بأموالهم ، وأنفسهم على القاعدين درجة وأجرا عظيما ، ولم يتعرض لتفضيل بعض المجاهدين على بعض ، ولكنه بين ذلك في موضع آخر وهو قوله : لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلا وعد الله الحسنى [ 57 \ 10 ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة غير أولي الضرر ، يفهم من مفهوم مخالفته أن من خلفه العذر إذا كانت نيته صالحة يحصل ثواب المجاهد .

وهذا المفهوم صرح به النبي - صلى الله عليه وسلم - في حديث أنس الثابت في الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إن بالمدينة أقواما ما سرتم من مسير ، ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه " ، قالوا وهم بالمدينة يا رسول الله ؟ قال : " نعم حبسهم العذر " ، وفي هذا المعنى قال الشاعر :

[ البسيط ]
يا ظاعنين إلى البيت العتيق لقد سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا إنا أقمنا على عذر وعن قدر
ومن أقام على عذر فقد راحا


[ ص: 248 ] تنبيه

يؤخذ من قوله في هذه الآية الكريمة : وكلا وعد الله الحسنى ، أن الجهاد فرض كفاية لا فرض عين ; لأن القاعدين لو كانوا تاركين فرضا لما ناسب ذلك وعده لهم الصادق بالحسنى ; وهي الجنة والثواب الجزيل .
قوله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا

الآية .

قال بعض العلماء : المراد بالقصر في قوله : أن تقصروا في هذه الآية قصر كيفيتها لا كميتها ، ومعنى قصر كيفيتها أن يجوز فيها من الأمور ما لا يجوز في صلاة الأمن ، كأن يصلي بعضهم مع الإمام ركعة واحدة ، ويقف الإمام حتى يأتي البعض الآخر فيصلي معهم الركعة الأخرى ، وكصلاتهم إيماء رجالا وركبانا وغير متوجهين إلى القبلة ، فكل هذا من قصر كيفيتها ويدل على أن المراد هو هذا القصر من كيفيتها .

قوله تعالى بعده يليه مبينا له : وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم الآية [ 4 \ 102 ] ، وقوله تعالى : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا [ 2 \ 239 ] ، ويزيده إيضاحا أنه قال هنا : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وقال في آية البقرة : فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون [ 2 \ 239 ] ; لأن معناه فإذا أمنتم فأتموا كيفيتها بركوعها وسجودها وجميع ما يلزم فيها مما يتعذر وقت الخوف .

وعلى هذا التفسير الذي دل له القرآن فشرط الخوف في قوله : إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا [ 4 \ 101 ] ، معتبر أي : وإن لم تخافوا منهم أن يفتنوكم فلا تقصروا من كيفيتها ، بل صلوها على أكمل الهيئات ، كما صرح به في قوله : فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة [ 4 ] ، وصرح باشتراط الخوف أيضا لقصر كيفيتها بأن يصليها الماشي والراكب بقوله : فإن خفتم فرجالا أو ركبانا ، ثم قال : فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم الآية يعني : فإذا أمنتم فأقيموا صلاتكم كما أمرتكم بركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها على أكمل هيئة وأتمها ، وخير ما يبين القرآن القرآن ، [ ص: 249 ] ويدل على أن المراد بالقصر في هذه الآية القصر من كيفيتها كما ذكرنا ، أن البخاري صدر باب صلاة الخوف بقوله : باب صلاة الخوف ، وقول الله تعالى : وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة فلتقم طائفة منهم معك وليأخذوا أسلحتهم فإذا سجدوا فليكونوا من ورائكم ولتأت طائفة أخرى لم يصلوا فليصلوا معك وليأخذوا حذرهم وأسلحتهم ود الذين كفروا لو تغفلون عن أسلحتكم وأمتعتكم فيميلون عليكم ميلة واحدة ولا جناح عليكم إن كان بكم أذى من مطر أو كنتم مرضى أن تضعوا أسلحتكم وخذوا حذركم إن الله أعد للكافرين عذابا مهينا [ 4 \ 101 ، 102 ] ، وما ذكره ابن حجر وغيره من أن البخاري ساق الآيتين في الترجمة ; ليشير إلى خروج صلاة الخوف عن هيئة بقية الصلوات بالكتاب قولا ، وبالسنة فعلا ، لا ينافي ما أشرنا إليه من أنه ساق الآيتين في الترجمة لينبه على أن قصر الكيفية الوارد في أحاديث الباب هو المراد بقصر الصلاة في قوله : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا ، ويؤيده أيضا أن قصر عددها لا يشترط فيه الخوف ، وقد كان صلى الله عليه وسلم يقصر هو وأصحابه في السفر وهم في غاية الأمن ، كما وقع في حجة الوداع وغيرها ، وكما قال - صلى الله عليه وسلم - لأهل مكة : " أتموا فإنا قوم سفر " .

وممن قال بأن المراد بالقصر في هذه الآية قصر الكيفية لا الكمية : مجاهد ، والضحاك ، والسدي ، نقله عنهم ابن كثير وهو قول أبي بكر الرازي الحنفي . ونقل ابن جرير نحوه عن ابن عمر ولما نقل ابن كثير هذا القول عمن ذكرنا قال : واعتضدوا بما رواه الإمام مالك عن صالح بن كيسان ، عن عروة بن الزبير ، عن عائشة - رضي الله عنها - أنها قالت : " فرضت الصلاة ركعتين ركعتين في السفر والحضر ، فأقرت صلاة السفر ، وزيد في صلاة الحضر " .

وقد روى هذا الحديث البخاري عن عبد الله بن يوسف التنيسي ، ومسلم عن يحيى بن يحيى ، وأبو داود عن القعنبي ، والنسائي عن قتيبة أربعتهم عن مالك به قالوا : " فإذا كان أصل الصلاة في السفر اثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هنا قصر الكمية ؟ لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة .
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 41.59 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 40.97 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.51%)]