عرض مشاركة واحدة
  #26  
قديم 22-08-2021, 12:06 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم متصل الآن
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 167,001
الدولة : Egypt
افتراضي رد: تفسير أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشيخ الشِّنْقِيطِيِّ رَحِمَهُ اللَّهُ

ونحو هذا أخرجه مسلم في " الصحيح " من حديث عبادة بن الصامت - رضي الله [ ص: 181 ] عنه - من رواية أبي الأشعث قال : غزونا غزاة وعلى الناس معاوية ، فغنمنا غنائم كثيرة ، فكان فيما غنمنا آنية من فضة فأمر معاوية رجلا أن يبيعها في أعطيات الناس ، فتسارع الناس في ذلك فبلغ عبادة بن الصامت ، فقام فقال : إني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ينهى عن بيع الذهب بالذهب ، والفضة بالفضة ، والبر بالبر ، والشعير بالشعير ، والتمر بالتمر ، والملح بالملح ، إلا سواء بسواء عينا بعين ، فمن زاد أو استزاد فقد أربى . فرد الناس ما أخذوا ، فبلغ ذلك معاوية فقام خطيبا فقال : ألا ما بال رجال يتحدثون عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أحاديث قد كنا نشهده ونصحبه فلم نسمعها منه ، فقام عبادة بن الصامت فأعاد القصة ثم قال : لنحدثن بما سمعنا من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كره معاوية أو قال : وإن رغم ما أبالي ألا أصحبه في جنده ليلة سوداء . قال حماد هذا أو نحوه . اهـ .

هذا لفظ مسلم في " صحيحه " وهذه النصوص الصحيحة تدل على أن الصناعة الواقعة في الذهب أو الفضة لا أثر لها ، ولا تبيح المفاضلة بقدر قيمة الصناعة كما ذكرنا . وهذا هو مذهب الحق الذي لا شك فيه . وأجاز مالك بن أنس - رحمه الله تعالى - للمسافر أن يعطي دار الضرب نقدا وأجرة صياغته ويأخذ عنهما حليا قدر وزن النقد بدون الأجرة ; لضرورة السفر كما أشار إليه خليل بن إسحاق في " مختصره " بقوله : بخلاف تبر يعطيه المسافر وأجرته دار الضرب ليأخذ زنته .

قال مقيده عفا الله عنه : الظاهر من نصوص السنة الصحيحة أن هذا لا يجوز ; لضرورة السفر كما استظهر عدم جوازه ابن رشد ، وإليه الإشارة بقول صاحب " المختصر " : والأظهر خلافه يعني : ولو اشتدت الحاجة إليه إلا لضرر يبيح الميتة ، كما قرره شراح " المختصر " .

الفرع الخامس : اختلف الناس في الأوراق المتعامل بها هل يمنع الربا بينها وبين النقدين نظرا إلى أنها سند ، وأن المبيع الفضة التي هي سند بها فيمنع بيعها ولو يدا بيد مثلا بمثل ، ويمنع بيعها بالذهب أيضا ولو يدا بيد ; لأنه صرف ذهب موجود أو فضة موجودة بالفضة غائبة ، وإنما الموجود سند بها فقط فيمنع فيها لعدم المناجزة ; بسبب عدم حضور أحد النقدين أو لا يمنع فيها شيء من ذلك ; نظرا إلى أنها بمثابة عروض التجارة ، فذهب كثير من المتأخرين إلى أنها كعروض التجارة ، فيجوز الفضل والنساء بينها وبين الفضة والذهب ، وممن أفتى بأنها كعروض التجارة العالم المشهور عليش المصري صاحب " النوازل " ، و " شرح مختصر خليل " ، وتبعه في فتواه بذلك كثير من متأخري [ ص: 182 ] علماء المالكية .

قال مقيده عفا الله عنه : الذي يظهر لي والله تعالى أعلم أنها ليست كعروض التجارة ، وأنها سند بفضة وأن المبيع الفضة التي هي سند بها . ومن قرأ المكتوب عليها فهم صحة ذلك ، وعليه فلا يجوز بيعها بذهب ولا فضة ولو يدا بيد ; لعدم المناجزة بسبب غيبة الفضة المدفوع سندها ; لأنها ليست متمولة ولا منفعة في ذاتها أصلا . فإن قيل لا فرق بين الأوراق وبين فلوس الحديد ; لأن كلا منهما ليس متمولا في ذاته مع أنه رائج بحسب ما جعله له السلطان من المعاملة فالجواب من ثلاثة أوجه :

الأول : أنا إذا حققنا أن الفلوس الحديدية الحالية لا منفعة فيها أصلا ، وأن حقيقتها سند بفضة ، فما المانع من أن نمنع فيها الربا مع النقد ، والنصوص صريحة في منعه بين النقدين ، وليس هناك إجماع يمنع إجراء النصوص على ظواهرها بل مذهب مالك أن فلوس الحديد لا تجوز بأحد النقدين نسيئة ، فسلم الدراهم في الفلوس كالعكس ممنوع عندهم .

وما ورد عن بعض العلماء مما يدل على أنه لا ربا بين النقدين وبين فلوس الحديد فإنه محمول على أن ذلك الحديد الذي منه تلك الفلوس فيه منافع الحديد المعروفة المشار إليها بقوله تعالى : وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد ومنافع للناس [ 57 \ 25 ] ، فلو جمعت تلك الفلوس وجعلت في النار لعمل منها ما يعمل من الحديد من الأشياء المنتفع بها ، ولو كانت كفلوسنا الحالية على تسليم أنها لا منفعة فيها أصلا ، لما قالوا بالجواز ; لأن ما هو سند لا شك أن المبيع فيه ما هو سند به لا نفس السند . ولذا لم يختلف الصدر الأول في أن المبيع في بيع الصكاك الذي ذكره مسلم في " الصحيح " وغيره أنه الرزق المكتوب فيها لا نفس الصكاك التي هي الأوراق التي هي سند بالأرزاق .

الثاني : أن هناك فرقا بينهما في الجملة وهو أن الفلوس الحديدية لا يتعامل بها بالعرف الجاري قديما وحديثا ، إلا في المحقرات فلا يشترى بها شيء له بال بخلاف الأوراق ، فدل على أنها أقرب للفضة من الفلوس .

الثالث : أنا لو فرضنا أن كلا من الأمرين محتمل فالنبي - صلى الله عليه وسلم - يقول : " دع ما يريبك إلى ما لا يريبك " ، ويقول : " فمن ترك الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه " ، ويقول : [ ص: 183 ] " والإثم ما حاك في النفس " الحديث . وقال الناظم


وذو احتياط في أمور الدين من فر من شك إلى يقين


وقد قدمنا مرارا أن ما دل على التحريم مقدم على ما دل على الإباحة ; لأن ترك مباح أهون من ارتكاب حرام ، ولا سيما تحريم الربا الذي صرح الله تعالى بأن مرتكبه محارب الله ، وثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعنه . ومن أنواع الربا ما اختلف العلماء في منعه ، كما إذا كان البيع ظاهره الحلية ، ولكنه يمكن أن يكون مقصودا به التوصل إلى الربا الحرام عن طريق الصورة المباحة في الظاهر كما لو باع سلعة بثمن إلى أجل ، ثم اشترى تلك السلعة بعينها بثمن أقل من الأول نقدا ، أو لأقرب من الأجل الأول ، أو بأكثر لأبعد فظاهر العقدين الإباحة ; لأنه بيع سلعة بدراهم إلى أجل في كل منهما وهذا لا مانع منه ، ولكنه يجوز أن يكون مقصود المتعاقدين دفع دراهم وأخذ دراهم أكثر منها لأجل أن السلعة الخارجة من اليد العائدة إليها ملغاة ، فيئول الأمر إلى أنه دفع دراهم وأخذ أكثر منها لأجل ، وهو عين الربا الحرام ومثل هذا ممنوع عند مالك ، وأحمد ، والثوري ، والأوزاعي ، وأبي حنيفة ، والحسن بن صالح ، وروي عن الشعبي والحكم وحماد كما في " الاستذكار " ، وأجازه الشافعي .

واستدل المانعون بما رواه البيهقي ، والدارقطني عن عائشة أنها أنكرت ذلك على زيد بن أرقم ، وقالت : أبلغي زيدا أنه أبطل جهاده مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إن لم يتب .

وقال الشافعي : إن زيد بن أرقم مخالف لعائشة ، وإذا اختلف صحابيان في شيء رجحنا منهما من يوافقه القياس ، والقياس هنا موافق لزيد ; لأنهما عقدان كل منهما صحيح في نفسه .

وقال الشافعي أيضا : لو كان هذا ثابتا عن عائشة فإنها إنما عابت التأجيل بالعطاء ; لأنه أجل غير معلوم والبيع إليه لا يجوز . واعترضه بعض العلماء بأن الحديث ثابت عن عائشة ، وبأن ابن أبي شيبة ذكر في مصنفه أن أمهات المؤمنين كن يشترين إلى العطاء والله تعالى أعلم . وبأن عائشة لا تدعي بطلان الجهاد بمخالفة رأيها ، وإنما تدعيه بأمر علمته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا البيع الذي ذكرنا تحريمه هو المراد عند العلماء ببيع العينة ويسميه المالكية بيوع الآجال ، وقد نظمت ضابطه في نظمي الطويل في فروع مالك بقولي :

[ الرجز ] [ ص: 184 ]
بيوع الآجال إذا كان الأجل أو ثمن كأخويهما تحل
وإن يك الثمن غير الأول وخالف الأجل وقت الأجل
فانظر إلى السابق بالإعطاء هل عاد له أكثر أو عاد أقل
فإن يكن أكثر مما دفعه فإن ذاك سلف بمنفعة
وإن يكن كشيئه أو قلا عن شيئه المدفوع قبل حلا


قوله تعالى : ويربي الصدقات الآية . ذكر في هذه الآية الكريمة أنه تعالى ويربي الصدقات ، وبين في موضع آخر أن هذا الإرباء مضاعفة الأجر ، وأنه يشترط في ذلك إخلاص النية لوجه الله تعالى ، وهو قوله تعالى : وما آتيتم من زكاة تريدون وجه الله فأولئك هم المضعفون [ 30 \ 39 ] .
قوله تعالى : يا أيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، ظاهر هذه الآية الكريمة أن كتابة الدين واجبة ; لأن الأمر من الله يدل على الوجوب ولكنه أشار إلى أنه أمر إرشاد لا إيجاب بقوله : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة الآية ; لأن الرهن لا يجب إجماعا وهو بدل من الكتابة عند تعذرها في الآية فلو كانت الكتابة واجبة لكان بدلها واجبا وصرح بعدم الوجوب بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته الآية ، فالتحقيق أن الأمر في قوله : فاكتبوه للندب والإرشاد ; لأن لرب الدين أن يهبه ويتركه إجماعا ، فالندب إلى الكتابة فيه إنما هو على جهة الحيطة للناس ، قاله القرطبي .

وقال بعضهم : إن أشهدت فحزم ، وإن ائتمنت ففي حل وسعة ابن عطية ، وهذا القول هو الصحيح قاله القرطبي أيضا .

وقال الشعبي : كانوا يرون أن قوله : فإن أمن ناسخ لأمره بالكتب ، وحكى نحوه ابن جريج ، وقاله ابن زيد ، وروي عن أبي سعيد الخدري وذهب الربيع إلى أن ذلك واجب بهذه الألفاظ ثم خففه الله تعالى بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا ، وتمسك جماعة بظاهر الأمر في قوله : فاكتبوه ، فقالوا : إن كتب الدين واجب فرض بهذه الآية بيعا كان أو قرضا ; لئلا يقع فيه نسيان أو جحود وهو اختيار ابن جرير الطبري في " تفسيره " .

[ ص: 185 ] وقال ابن جريج : من أدان فليكتب ومن باع فليشهد . اهـ من القرطبي وسيأتي له زيادة بيان إن شاء الله قريبا .

تنبيه :

أخذ بعض العلماء من قوله تعالى : وإن كنتم على سفر الآية . أن الرهن لا يكون مشروعا إلا في السفر كما قاله مجاهد ، والضحاك ، وداود والتحقيق جوازه في الحضر .

وقد ثبت في " الصحيحين " عن عائشة أنه - صلى الله عليه وسلم - توفي ودرعه مرهونة عند يهودي بثلاثين صاعا من شعير . وفي " الصحيحين " أنها درع من حديد .

وروى البخاري ، وأحمد ، والنسائي ، وابن ماجه عن أنس أنه - صلى الله عليه وسلم - رهن درعا عند يهودي بالمدينة ، وأخذ منه شعيرا لأهله . ولأحمد والنسائي وابن ماجه عن ابن عباس مثل حديث عائشة فدل الحديث الصحيح على أن قوله : وإن كنتم على سفر ، لا مفهوم مخالفة له ; لأنه جرى على الأمر الغالب ، إذ الغالب أن الكاتب لا يتعذر في الحضر وإنما يتعذر غالبا في السفر ، والجري على الغالب من موانع اعتبار مفهوم المخالفة كما ذكرناه في هذا الكتاب مرارا والعلم عند الله تعالى .

قوله تعالى : وأشهدوا إذا تبايعتم ، ظاهر هذا الأمر الوجوب أيضا فيجب على من باع أن يشهد وبهذا قال أبو موسى الأشعري ، وابن عمر ، والضحاك ، وسعيد بن المسيب ، وجابر بن زيد ، ومجاهد ، وداود بن علي وابنه أبو بكر ، وعطاء ، وإبراهيم قاله القرطبي ، وانتصر له ابن جرير الطبري غاية الانتصار ، وصرح بأن من لم يشهد مخالف لكتاب الله ، وجمهور العلماء على أن الإشهاد على المبايعة وكتاب الدين أمر مندوب إليه لا واجب ، ويدل لذلك قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا الآية .

وقال ابن العربي المالكي : إن هذا قول الكافة قال : وهو الصحيح ولم يحك عن أحد ممن قال بالوجوب إلا الضحاك قال : وقد باع النبي - صلى الله عليه وسلم - وكتب قال : ونسخة كتابه : " بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ، ولا غائلة ، ولا خبثة ، بيع المسلم للمسلم " . وقد باع ولم يشهد ، واشترى ورهن درعه عند يهودي ولم يشهد ، ولو كان الإشهاد أمرا واجبا لوجب مع الرهن لخوف المنازعة . اهـ .

[ ص: 186 ] قال القرطبي بعد أن ساق كلام ابن العربي هذا ما نصه : قلت : قد ذكرنا الوجوب عن غير الضحاك وحديث العداء هذا أخرجه الدارقطني ، وأبو داود وكان إسلامه بعد الفتح وحنين ، وهو القائل : قاتلنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين فلم يظهرنا الله ولم ينصرنا . ثم أسلم فحسن إسلامه . ذكره أبو عمر وذكر حديثه هذا .

وقال في آخره : قال الأصمعي : سألت سعيد بن أبي عروبة عن الغائلة فقال : الإباق ، والسرقة ، والزنا ، وسألته عن الخبثة فقال : بيع أهل عهد المسلمين .

وقال الإمام أبو محمد بن عطية : والوجوب في ذلك قلق أما في الوثائق فصعب شاق ، وأما ما كثر فربما يقصد التاجر الاستئلاف بترك الإشهاد ، وقد يكون عادة في بعض البلاد ، وقد يستحى من العالم والرجل الكبير الموقر فلا يشهد عليه فيدخل ذلك كله في الائتمان ، ويبقى الأمر بالإشهاد ندبا لما فيه من المصلحة في الأغلب ما لم يقع عذر يمنع منه كما ذكرنا ، وحكى المهدوي ، والنحاس ، ومكي عن قوم أنهم قالوا : وأشهدوا إذا تبايعتم ، منسوخ بقوله : فإن أمن بعضكم بعضا ، وأسنده النحاس عن أبي سعيد الخدري وأنه تلا : ياأيها الذين آمنوا إذا تداينتم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه ، إلى قوله : فإن أمن بعضكم بعضا فليؤد الذي اؤتمن أمانته ، قال : نسخت هذه الآية ما قبلها .

قال النحاس : وهذا قول الحسن والحكم وعبد الرحمن بن زيد .

قال الطبري : وهذا لا معنى له ; لأن هذا حكم غير الأول وإنما هذا حكم من لم يجد كاتبا .
قال الله عز وجل : وإن كنتم على سفر ولم تجدوا كاتبا فرهان مقبوضة فإن أمن بعضكم بعضا ، أي فلم يطالبه برهن ، فليؤد الذي اؤتمن أمانته ، قال : ولو جاز أن يكون هذا ناسخا للأول ، لجاز أن يكون قوله عز وجل : وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط الآية [ 4 \ 43 ] ، ناسخا لقوله عز وجل : ياأيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة الآية [ 5 \ 6 ] ، ولجاز أن يكون قوله عز وجل : فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين [ 4 \ 92 ] ، ناسخا لقوله عز وجل : فتحرير رقبة .

وقال بعض العلماء إن قوله تعالى : فإن أمن بعضكم بعضا ، لم يتبين بآخر [ ص: 187 ] نزوله عن صدر الآية المشتملة على الأمر بالإشهاد بل وردا معا ، ولا يجوز أن يرد الناسخ والمنسوخ معا جميعا في حالة واحدة ، قال : وقد روي عن ابن عباس أنه لما قيل له إن آية الدين منسوخة قال : لا والله إن آية الدين محكمة ليس فيها نسخ ، قال : والإشهاد إنما جعل للطمأنينة ، وذلك أن الله تعالى جعل لتوثيق الدين طرقا منها الكتاب ، ومنها الرهن ، ومنها الإشهاد ، ولا خلاف بين علماء الأمصار أن الرهن مشروع بطريق الندب لا بطريق الوجوب ، فيعلم من ذلك مثله في الإشهاد ، وما زال الناس يتبايعون حضرا وسفرا ، وبرا وبحرا ، وسهلا وجبلا من غير إشهاد ، مع علم الناس بذلك من غير نكير . ولو وجب الإشهاد ما تركوا النكير على تاركه ، قلت : هذا كله استدلال حسن وأحسن منه ما جاء في صريح السنة في ترك الإشهاد ، وهو ما أخرجه الدارقطني عن طارق بن عبد الله المحاربي - رضي الله عنه - قال : أقبلنا في ركب من الربذة وجنوب الربذة حتى نزلنا قريبا من المدينة ومعنا ظعينة لنا ، فبينما نحن قعود إذ أتانا رجل عليه ثوبان أبيضان فسلم فرددنا عليه فقال : " من أين القوم ؟ " فقلنا : من الربذة وجنوب الربذة ، قال : ومعنا جمل أحمر ، فقال : " تبيعوني جملكم هذا ؟ " فقلنا : نعم ، قال : " بكم ؟ " قلنا : بكذا وكذا صاعا من تمر ، قال : فما استوضعنا شيئا ، وقال : " قد أخذته " ، ثم أخذ برأس الجمل حتى دخل المدينة ، فتوارى عنا فتلاومنا بيننا وقلنا : أعطيتم جملكم من لا تعرفونه ، فقالت الظعينة : لا تلاوموا فقد رأيت وجه رجل ما كان ليخفركم ما رأيت وجه رجل أشبه بالقمر ليلة البدر من وجهه ، فلما كان العشاء أتانا رجل ، فقال : السلام عليكم أنا رسول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إليكم وإنه أمركم أن تأكلوا من هذا حتى تشبعوا ، وتكتالوا ، حتى تستوفوا قال : فأكلنا حتى شبعنا ، واكتلنا حتى استوفينا . وذكر الحديث الزهري عن عمارة بن خزيمة أن عمه حدثه وهو من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ابتاع فرسا من أعرابي الحديث وفيه : فطفق الأعرابي يقول :

هلم شاهدا يشهد أني بعتك ، قال خزيمة بن ثابت : أنا أشهد أنك بعته ، فأقبل النبي - صلى الله عليه وسلم - على خزيمة فقال : " بم تشهد ؟ " قال : بتصديقك يا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجعل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شهادة خزيمة بشهادة رجلين
. أخرجه النسائي وغيره . اهـ من القرطبي بلفظه .

قال مقيده عفا الله عنه : وفيما نقلنا الدلالة الواضحة على أن الإشهاد والكتابة مندوب إليهما لا فرضان واجبان كما قاله ابن جرير وغيره ، ولم يبين الله تعالى في هذه الآية أعني : قوله جل وعلا : وأشهدوا إذا تبايعتم ، اشتراط العدالة في الشهود ، [ ص: 188 ] ولكنه بينه في مواضع أخر كقوله : ممن ترضون من الشهداء ، وقوله : وأشهدوا ذوي عدل منكم [ 65 ] . وقد تقرر في الأصول أن المطلق يحمل على المقيد كما بيناه في غير هذا الموضع .

قوله تعالى : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا [ 2 \ 286 ] ، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا ؟ وأشار إلى أنه أجابه بقوله في الخطأ : وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به الآية [ 33 \ 5 ] ، وأشار إلى أنه أجابه في النسيان بقوله : وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين [ 6 \ 68 ] ، فإنه ظاهر في أنه قبل الذكرى لا إثم عليه في ذلك ، ولا يقدح في هذا أن آية : وإما ينسينك الشيطان مكية ; وآية : لا تؤاخذنا إن نسينا ، مدنية إذ لا مانع من بيان المدني بالمكي كعكسه .

وقد ثبت في " صحيح مسلم " أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما قرأ : ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ، قال الله تعالى : نعم .
قوله تعالى : ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين ، لم يبين هنا هل أجاب دعاءهم هذا أو لا ؟ ولم يبين الإصر الذي كان محمولا على من قبلنا ، وبين أنه أجاب دعاءهم هذا في مواضع أخر كقوله : ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم [ 7 \ 157 ] ، وقوله : لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ، وقوله : وما جعل عليكم في الدين من حرج [ 22 \ 78 ] ، وقوله : يريد الله بكم اليسر الآية [ 2 \ 185 ] ، إلى غير ذلك من الآيات .

وأشار إلى بعض الإصر الذي حمل على من قبلنا بقوله : فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم [ 2 \ 54 ] ; لأن اشتراط قتل النفس في قبول التوبة من أعظم الإصر ، والإصر الثقل في التكليف ومنه قول النابغة :

[ البسيط ]
يا مانع الضيم أن يغشى سراتهم والحامل الإصر عنهم بعدما عرفوا





__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 34.24 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 33.61 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.83%)]