4- النص والمؤلف والقارئ والشخصيَّات عوالِم تتأثَّر بأيديولوجيا العصر:
ترى التاريخانية الجديدة أنَّ النص الأدبي والكاتب، والمتلقي والشخصيات السردية - تتأثَّر بالأيديولوجيا التي يكون عليها الواقع الاجتماعي، وبتعبيرٍ آخرَ: تتأثر المكونات الأدبيَّة والخطابيَّة بالأيديولوجيا السائدة أو المعاصرة، كما تتأثَّر بالصِّراعات الموجودة في الواقع الاجتماعي، وتَمتصُّ الأفكار السائدة التي تُرَوَّج في الأوساط الاجتماعيَّة، ويعني كلُّ هذا أنَّ الأديب والقارئ نِتاج للواقع التاريخي والثقافي والأيديولوجي، وتَعبيرًا عن مُجمل التناقضات الموجودة في الواقع المادي والثقافي.
ومِن ثَمَّ، فـ"إنَّ المفهوم السائد لِما يُعرف بالطبيعة الإنسانيَّة - كخاصيَّة مُشتركة بين المؤلف والقارئ، وشخصيَّات العمل الأدبي - ليس سوى وَهْمٍ أيديولوجي، أنْتَجَته ثقافة رأسماليَّة، وهذا يَعني - ضمن أشياء أخرى - أنَّ المفهوم التقليدي للمؤلف وهمٌ هو الآخر، ومِنْ ثَمَّ فالقارئ كالمؤلَّف مُعَرَّض للمؤثِّرات الأيديولوجية في عصره.
ومن هنا، فلا إمكانيَّة لتفسير أو تقييم موضوعي للنصِّ الأدبي، بل إن ما يَحدث هو أنَّ القارئ؛ إمَّا أن يَطبع النصَّ - في حالة اتِّفاق أيديولوجيَّته كقارئ مع أيديولوجية الكاتب - فيَمنح خصائصَ النصِّ الموضوعيَّة والفنيَّة صفةَ العالميَّة والديمومة، أو أن يَستعيد النص - في حالة اختلافه مع الكاتب - بإسقاط فرضيَّاته على ذلك النص"[7].
5- مبدأ التفاوُض والتفاعُل:
ترى التاريخانية الجديدة أنَّ النصوص والخطابات تتفاعَل وتتفاوَض فيما بينها تناصيًّا، داخل حِقبة تاريخية مُعيَّنة، بمعنى أنَّ النص الأدبي يمتصُّ سياقيًّا ما تُعبر عنه النصوص الأخرى، وتتداخل معه دَلالة وتشكيلاً ورُؤيةً، كما أنَّ هذا الخطاب يَتناصُّ مع باقي النصوص والخطابات الموازية أو المتقابلة؛ لتتشكَّل منظومة فكريَّة واحدة بفَضْل هذا التثاقُف والتلاقُح والاستدماج، ويعني هذا أنْ لا أفضليَّة لنصٍّ ما بمُقوِّماته الفنيَّة والجماليَّة، فكلُّ النصوص والخطابات تتفاوَض فيما بينها داخل حِقبة تاريخيَّة مُعيَّنة.
هذا، وقد اهتمَّ الباحث يورغن بيترز (Jurgen Pieters) بدراسة مبدأ "التفاوض" هذا في كتابه: "لحظات التفاوض: تأريخانيَّة ستيفن جرينبلات الجديدة"[8].
6- شعرية الحياة اليومية:
يعني هذا المفهوم - الذي يتحدَّث عنه ستيفن جرينبلات (Stephen Greenblatt) - أنَّ النص أو الخطاب يَلتقط - ضمن مُقاربته السياقيَّة - دراسةَ الأنماط والتشكُّلات الثقافيَّة ضمن حِقبة مُعيَّنة؛ حيث يَلتقط النص ما هو مُهَمَّش، وما هو واقعي يومي، بعيدًا عن كلِّ رؤية نَخبويَّة مُهيمنة ومُتفوِّقة، وقد أخَذ جرينبلات هذا المصطلح من السيميائي الروسي يوري لوتمان.
7- أثر الخطابات السياسية والثقافية والأيديولوجية على الأدب:
يرى رُوَّاد التاريخانية الجديدة أنَّ الأدب يعتمد على المُحاكاة والتمثُّل، ونَقْل الواقع عبر عمليَّات التخييل الجمالي، لكن ما يهمُّ في الأدب ليس هو البنية الجماليَّة والفنيَّة، بل هي الدَّلالات الثقافيَّة والسياسيَّة، والاجتماعيَّة والأيديولوجية، ذات الطابع الرمزي، بمعنى أنَّ ثمَّة مجموعةً من الأنساق التاريخية التي تَحوي دَلالات تاريخيَّة مهمَّة، ينبغي تفكيكُها وتأويلُها في سياقها المرجعي والأيديولوجي؛ لفَهْم عصر الكاتب، ومن هنا ترى التاريخانية الجديدة أنَّ مسرحيات شكسبير تعبيرٌ عن النزعة الكولونياليَّة البريطانيَّة.
8- التاريخانية مقاربة متعدِّدة التخصُّصات:
تَجمع التاريخانية الجديدة بين مجموعة من المناهج والمقاربات الأدبيَّة وغير الأدبيَّة؛ كالتاريخ، والسياسة، والاقتصاد، والثقافة، والإعلام، والفلسفة، وعلم الاجتماع، وعلم النفس، والأنتروبولوجيا.
4- رُوَّاد المقاربة التاريخانية الجديدة:
من أهمِّ رُوَّاد التاريخانية الجديدة، نذكر: ستيفان جرينبلات (Stephen Greenblatt) الذي يُعَدُّ وجهًا مهمًّا في إطار التاريخانية الجديدة؛ حيث طبَّق هذه المقاربة على نصوص عصر النهضة، ونَستحضر إلى جانبه ميشيل فوكو (Michel Foucault) الذي بَلْور المقاربة التناصية مع مجموعة من المفاهيم؛ مثل: الخطاب، والقوة، والمعرفة، والسلطة، والذاتيَّة، والجنس، والانضباط؛ حيث يقول بانفتاح الخطاب على سياقه التاريخي والمرجع الخارجي، وأنَّ هذا الخطاب يَعكس قوَّة الطبقة الاجتماعية الحاكمة، وهَيْمنة السلطة الرسميَّة، وقد أثَّر ميشيل فوكو بشكلٍ من الأشكال على التاريخانية الجديدة في أمريكا في منتصف الثمانينيَّات من القرن العشرين، وقد أسهَم إدوارد سعيد في التعريف بأفكار ميشيل فوكو، وتقديم مفاهيمه المنهجيَّة في كتابه: "الاستشراق" (1978م).
وثَمَّة رُوَّاد تاريخانيون جُدد آخرون؛ مثل: كليفورد جيرتز (Clifford Geertz)، ولوي مونترو(Louis Montrose)، الذي يرى أنَّ التاريخانية تتجاوز البنيات الجمالية للنص الأدبي؛ لتهتمَّ بالسياق الثقافي والتاريخي، والاجتماعي والسياسي.
ومِن ثَمَّ، فهي لا تُعنى بدراسة المضامين فقط، بل تهتمُّ كذلك بالأبنية الشكلية؛ لإخضاعها للدراسة والبحث العلمي الموضوعي؛ بُغية رَصْد أيديولوجية العصر، ورَصْد قوة السلطة في حِقبة تاريخيَّة مُعيَّنة، ولا ننسى كذلك كاترين كالاكر (Catherine Gallagher)، وجوناثان دوليمور(Jonathan Dollimore)، وستيفن أورغل، وليونارد نيتنهاوس.
هذا، وقد اشتغَل كثيرٌ من باحثي التاريخانية الجديدة على أدب عصر النهضة، وكتابات العصر الرومانطيقيالإنجليزي، وخاصة مسرحيات شكسبير، ولا سيَّما جيروم مكجان، ومارلين بتلر اللَّذين يُسَمِّيان منهجهما بـ"قراءات سياسيَّة".
ومِن ثَمَّ، فقد "أنتَج التاريخانيون الجُدد مجموعةً كبيرة من التحليلات النقديَّة التي تُرَكِّز على الأدب الرومانسي، وأدب عصر النهضة بشكلٍ خاص، فقد استَكْشَفوا - على سبيل المثال - السُّبل التي تُوَظِّف من خلالها مسرحيات شكسبير هيكلَ السلطة للنظام الملكي التيودوري، وتَعكس الخطابات التي تُهَيمن على المجتمع المعاصر، وبالرغم من أنه كثيرًا ما يتمُّ استكشاف الأفكار التخريبيَّة في مسرحيات شكسبير، فإنَّ هذه الأفكار دائمًا تكون واردة في إطار الخطابات المُسيطرة في تلك الحِقبة، ولكن هذه الخطابات لا تُصبح ثوريَّة"[9].
وعليه، فإنَّ رُوَّاد التاريخانية الجديدة قد تجاوَزوا البُعد الفني والجمالي؛ ليَنتقلوا إلى تفكيك الخطابات المؤسَّساتيَّة؛ بُغية جَرْد الأنساق الثقافيَّة والتاريخيَّة والسياسية المُضمرة، وتأويلها تأويلاً سياقيًّا، مُتَعدِّد الاختصاصات.
5- تقويم التجربة التاريخانية:
يلاحظ أنَّ التاريخانية الجديدة هي تعبيرٌ عن توجُّهات وتطلُّعات اليسارية الجديدة التي امْتَحَت تصوُّراتها الفكرية من روجيه جارودي، ولوي ألتوسيبر، وأنطونيو غرامشي، وجاك ديريدا؛ حيث رَفَضت اليسارية الجديدة التقسيم البسيط للطبقات إلى بنية فوقيَّة، وبنية تحتيَّة، فدافَعَت عن الطبقات المُهَمَّشة والمهضومة الحقوق، فوَقَفت في وجه الإمبريالية الرأسمالية، وذلك في إطار مادية ثقافية مُعَقَّدة، ومِن ثَمَّ فكلُّ "تحليل للعلاقات الاقتصادية المادية، لا يَستقيم بمعزلٍ عن الممارسات الثقافية الرمزيَّة؛ لِما بينهما - في سيرورة الحياة الاجتماعية وتفاعُلاتها الحيَّة - من تداخُل يَنمحي فيه الحدُّ الفاصل بين الاقتصادي والثقافي، والمادي والرمزي، والداخلي والخارجي، والموضوعي والذاتي، على نحو يُصبح فيه ذلك التحليل تحليلاً للعلاقات فيما بينها، وللقواعد الناظمة لتلك العلاقات"[10].
وعلى الرغم من أنَّ التاريخانية الجديدة تدَّعي الحِياد والموضوعيَّة في أبحاثها التاريخيَّة والسياسية والاجتماعية، فإنَّ واقع المناهج يُنبئ بأنها مرتبطة بطريقة من الطرائق بخلفيَّات أيديولوجيَّة، وأهواء سياسية، ومِن ثَمَّ "فإن ممارسيها لا يُبصرون الظروف التي تؤثِّر على وجهات نظرهم الخاصة، وإلى حدٍّ ما تكون حُججهم دائمًا نتاجًا لأوضاعِهم الشخصيَّة ومَواقفهم الاجتماعيَّة، ولا يُمكنها أبدًا تحقيق نوْعٍ مِن الموضوعيَّة التي يبدو أنهم يتَوقَّعونها"[11].
وهناك أيضًا من الدارسين من التاريخانية الجديدة الذين لا يُميِّزون بين النَّصِّ الأدبي والنصوص الأخرى؛ حيث يَرون أنَّ النص الجمالي مثل باقي النصوص التاريخيَّة والثقافية، والسياسية والاجتماعية - لا فرْقَ بينها؛ حيث تتضمَّن محتويات وأبنية وأنساقًا مُضمرة، تحمل في طيَّاتها أيديولوجيَّات ثانوية، وتُعبِّر عن قوى طبقيَّة وسياسيَّة مُتصارعة.
ومِن ثَمَّ، فآراء جرينبلات لا تُمثِّل "آراء كلِّ العاملين في هذا الحقل المتنامي بسرعة غير عادية، فتمييزُه للنص الأدبي، وقوله: إنَّ الكُتَّاب الكبار يُدركون القوانين التي تَجري داخل الثقافة، ويُتقنون توظيفها - هو مما قد لا يتَّفق معه فيه بعضُ الباحثين الآخرين، فمساواة النص الأدبي بغيره من النصوص الفلسفيَّة والدينية والاقتصادية، وافتقاره إلى التمييز الذي يَمنحه إيَّاه جرينبلات - هو مما يَشيع في دراسات أولئك الباحثين الآخرين، ومع ذلك فإنَّ من الضروري القول: إنَّ الاختلافات تَظَلُّ في مجملها طفيفة بالقياس إلى محاور الالتقاء"[12].
زِدْ على ذلك - أنه يَجب على النقد التاريخاني بوجه عام، وليس الجديد فقط - "ألاَّ يتوقَّف عند الكشف عن أوجه الخَلل وسُوء الفَهْم، وإنما يتجاوز ذلك إلى تصحيح ما يَنقده بالممارسة العملية؛ أي: بما يُشبه العمل الثوري"[13].
وإضافةً إلى ذلك، فقد انتُقِدت التاريخانية الجديدة على أنها نموذج للماركسيَّة، وأنها تُهمل الجوانب الفنيَّة والجمالية، كما تغضُّ الطَّرْف عن الجوانب الشكلية واللسانية والسيميائية في الأدب، والدليل على ذلك أنَّ الجمالية الجديدة التي ظهَرت في أمريكا جاءَت كردِّ فعلٍ على صرامة النقد الثقافي والنقد التاريخاني الجديد.
تركيب واستنتاج:
وهكذا يتبيَّن لنا مما سبَق ذكره، أنَّ التاريخانية الجديدة هي تجاوُز للشعرية الشكلانية والجمالية الفنيَّة؛ بُغية البحث عن الأنساق الثقافيَّة المضمرة، ورَبْط النصوص والخطابات بسياقاتها الاجتماعية والسياسيَّة والأيديولوجيَّة، بمعنى أنَّ مُنتج النصوص والخطابات يرتبط بالعصر الذي يَعيش فيه، ويُعبِّر عن الأيديولوجية السائدة في الحِقبة التاريخيَّة التي يعيش فيها، ويَعكس مُجمل الصراعات الاجتماعية والطبقيَّة والأيديولوجية، التي يحبل بها الواقع اليومي الذي يَعيش فيه ذلك الكاتب، أو المُنتج أو المُبدع.
ومِن ثَمَّ، فالتاريخانية الجديدة منهجيَّة مُتعدِّدة الاختصاصات، تَستلهم تصوُّرات ميشيل فوكو، وأنطونيو غرامشي، ولوي التوسير، وتَمتح من آراء جاك ديريدا، ولهذه المنهجيَّة علاقة وثيقة بالنقد الثقافي، والنقد التفكيكي، والمادية الثقافية.
لكنَّ ما يُؤخذ على التاريخانية الجديدة أنها مقاربة سياقيَّة ومرجعيَّة أيديولوجيَّة، تَغضُّ الطرف عن الخصائص الفنيَّة، والسِّمات الجماليَّة.
[1] ديفيد كارتر؛ النظرية الأدبية؛ ترجمة: د. باسل المسالمة، دار التكوين، دمشق، سوريا، الطبعة الأولى سنة 2010م، ص (148).
[2] ديفيد كارتر؛ النظرية الأدبية، ص (148 - 149).
[3] د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثانية، سنة 2000م، ص (45).
[4] نقلاً عن د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، ص (45).
[5] د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، ص (45).
[6] د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، ص (46).
[7] د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، ص (46).
[8] -Jurgen Pieters: " Moments of Negotiation: The New Historicism of Stephen Greenblatt", Amsterdam University Press, 2002, P: (25).
[9] ديفيد كارتر؛ النظرية الأدبية، ص (149).
[10] د. عبدالسلام حيمر؛ في سوسيولوجيا الخطاب: من سوسيولوجيا التمثُّلات إلى سوسيولوجيا الفعل، الشبكة العربية للأبحاث والنشر- بيروت، الطبعة الأولى، ص (369).
[11] ديفيد كارتر؛ النظرية الأدبية، ص (149).
[12] د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، ص (45 - 46).
[13] د.سعد البازعي، وميجان الرويلي؛ دليل الناقد الأدبي، ص (47).