ذلك ما نعنيه من مفهوم المضمون الأخلاقي الذي هو تشرب تلك المشاعر وسيلانها من خلال شكل فني يضمن لها الانتشار والتغلغل عبر كل المنافذ والشقوق إلى ذات المتلقي، للتأثير فيه بوعي أو بغير وعي.
وهنا وقبل تقديم تعريف شامل للأدب الإسلامي لا بد أن نعرج للإجابة عن سؤال إشكالي؛ ليسهل على القارئ فهمُ ذلك التعريف وتبنيه بعد ذلك، والسؤال هو: ما العلاقةُ المحتملة بين الأدب كفن، والإسلام كدين زاخر بالقيم والمبادئ والرُّؤى؟
2- علاقة الأدب بالإسلام:
سبق في مقال نشر في "المجلة العربية " ع 403، شعبان بعنوان: "الدين وأصول الفن" أن كشفنا عن العلاقة التي تربط بين الفنون عامة، والآداب خاصَّة، وبين الأديان التي يؤمن بها الناس، ويتشربون تصوراتها، ويحتضنون معتقداتها بين تلافيف قلوبهم، ومسارب نفوسهم وعقولهم، كما تأكدنا أنَّ الفن والشعر (الأدب) خاصَّة خرج من رحم المعابد الدينية الأولى، وقد حمل تلك التصوُّرات بحقها وباطلها في أثناء لغة ذات خصائص فنيَّة عالية (مقدسة)، وأشاعها بين الناس، وتُغني بما تبعثه من أشواق ورُؤى، وما تفرزه من مشاعر ومواقف حتى غدا أساسًا شديد المراس من أسس المعرفة عند كُلِّ الشعوب والحضارات المجهولة والمعلومة على السواء.
إنَّ الدينَ باعتباره معتقداتٍ وتصوُّرات خاصة، وما تنتجه وتُفرزه من مشاعر تَهضم كلَّ ذلك وتغذي وجودَه، وتساعد على توطيده سلوكيًّا في علاقات الأفراد داخل المجتمع الواحد - إن الدين بهذا المعنى يَحتاج إلى لغة خاصة؛ ليخلد بها ذاته بوصفه معتقدًا وتصورًا وموقفًا من الكون والحياة والإنسان والغيب... ذلك أنَّ اللغة هي العضو الأكثر ضمانًا لبقائه داخل المجتمع وفي أعماق الأفراد، كأنَّ الدين يعلم يقينًا أو حدسًا أن اللغة مهيأة لذلك كأنَّها جبلت عليه... وكأنه يعي مهمتها الخطيرة في حياة الإنسان، ظاهره وباطنه، حياته ومماته، نعم إن للغة رحمًا يستطيع استقبالَ بذور التصورات والمعتقدات وتربيتها تربية خاصَّة وبأسلوب يفي بإخراجها في حُلَّة جمالية، وتوشيتها بسحر خاص؛ لتستساغ عند الناس... كما أنَّها تمتلك رحمًا للتاريخ... والعلوم... ورحمًا خاصًّا بمستوى تفاهات الإنسان وعزماته، وشؤون حياته حقرت أو عظمت... إنَّها تلبي كل ذلك؛ لأن كيانها خلق لأداء تلك المهمات جميعها بكل مستوياتها المتفاوتة... والدين بحدسه يفهم ذلك ويستثمره لصالحه، ولو كان باطلاً عاطلاً.
وأظنني لا أضيف للقارئ علمًا إذا قلت: إنَّ المذاهبَ المستحدثة والأيديولوجيات المتناسلة، سواء تلك التي تريد الحلول محلَّ الدين أو هاتيك التي تناقضه وتحاربه، إنَّ تلك المذاهب والأيديولوجيات قديمها وجديدها وما سيتوالد منها - ظلَّت مُحتفظة بذلك الحدس الشعوري أو اللاشعوري بخطورة اللغة في مستواها الأدبي الإبداعي ومدى أهميتها، ليس فقط في حمل التصوُّرات والمعتقدات والمواقف الشاملة، بل كما قلنا قبلُ: بتخليدها وتربيتها جماليًّا؛ لتستساغ عند الناس، وتنال إعجابهم وقبولهم لتشربها واحتضانها والفناء في قيمها.
وهكذا نعلم بيقين أنَّ الأديانَ والمذاهب صالحها وطالحها محقها ومبطلها - تستثمر اللغة خاصة في مستواها الأدبي الإبداعي ومهاراتها وخصائص البقاء والديمومة فيها لمصلحتها، كأنَّ ذلك عرفٌ إنساني متوارث، تواضع الناس عليه وأقروه في دستور حياتهم وتاريخهم وحضاراتهم إلى الآن... ولا يزال.
فإذا كانت الأديان والمذاهب جميعها... استطاعت أن تبعث في أَنَاسِيِّها والمؤمنين بها مشاعِرَ رغبة ورهبة وأحاسيس النفس واضطرابها بكل حركاتها، وأشواق الروح وخلجات القلب بكل تجلياتِها، وكل ذلك عنينا به قبلُ المضمونَ الأخلاقي للأدب، كما استطاعت تسريب ذلك وإعلانه وترسيخه من خلال لغة خاصة، تَمتلك مميزات فنية وجمالية، وقدرة على التأثير الخفي، والتغلغل إلى أعمق غور في كيان الإنسان... إذا كانت تلك الأديان والمذاهب قد استطاعت ذلك، فما بالك بالإسلام الذي ظهرت فيه الحقائقُ جلية مشرقة بجمالها الرسالي، متوهجة بجلالها الرباني، وشموليتها الواسعة، وأبعادها العميقة الغور في النفس والمجتمع والحياة؟ فقد ظهرت من خلاله معاني الإله الحق الذي ليس كمثل ذاته ذات، ولا جماله جمال، ولا جلاله جلال، إله موصوف بكل صفات الرحمة والقوة واللطف والجبروت والعظمة والقدرة... كما ظهرت بأنوار الإسلام حقيقة الإنسان، ككائن تتواشج قبضة الطين فيه بنفخة الروح المقدسة، فيه نوازع الخير التي يزكيها الإسلام وينميها، ويدعو إلى سلوك سُبُلها، وفيه نوازع من الشر عليه تطهير نفسه منها، وبذلك فهو كائن مسؤول عن فعله وقوله وسلوكه، ومن ثمة فهو حر في هذه الحياة له أن يتبع طريق العلو والرشاد، أو يسفل نحو هاوية الهبوط والغي، كما ظهرت بفضل الإسلام ورسالته حقيقة الكون، بصورة أكثر سطوعًا وأنور دلالة، وأروع مظهرًا، لا كمادة ميتة، بل كتجل لعظمة الخالق، ففيه جمال يبعث الشوق والبهجة والانبساط في النُّفوس، وفيه جلال يبعث على الرهبة والخشوع والتعظيم، إنه كون حي، تحس الروح الإنسانية الصافية مظاهرَ الحيوية فيه إذا ارتبطت معه برباط الاحترام والحفظ والتقارب، كونٌ في صورة صديق شفاف رقيق وحساس، وليس بعدو متربِّص غامض مفزع، أمَّا حقيقة الحياة، فنحن إذا استجلينا صورتَها كما انطبعت على مرآة الإسلام، أو كما يكشف عنها ويُصورها، فسنجدها اكتسبت معاني زاخرة الدلالة، واسعةَ الأفق، عميقة الأبعاد، وافرة الغنى بإيحاءاتِها وأسرارها، إنَّها ليست مَحصورة في ظواهر جامدة، أو في مُدَّة من الزمن مَحدودة بحدود الأفراد والمجتمعات، إنَّها أشسع مساحة؛ لأنَّها هبة من الله الأول الآخر، إنَّها أرحب من أن يحصرها ضيقُ الأفق الذي تصطنعه كثير من المذاهب والمناهج، وتحده بعض الأيديولوجيات والأفكار، إنَّها أكبر من أن تسعَها الظواهرُ الملموسة المحسوسة، التي يظنها الناس أو أكثرهم هي مساحة الحياة الحقيقية، ولا مساحة بعدها ولا أبعاد، والإسلام من خلال هذه الصورة التي يقدمها عن الحياة إنَّما يدعو الإنسان ليتشرب روحها وينتعش بنسغها، فينشرح صدرًا، بعدما ضاقت عليه الدنيا بظلمها، وطغيان بعض أهلها، وجشع المترفين فيها، وذل المستكينين في رحابها، ويدفعه إلى تجديد معنى حياته بربطها بالخالق العظيم الكريم، فلا يعدها هوة من العدم ستبتلعه، أو إلهًا جبارًا عابثًا سيشقيه، وإنَّما يكشف له عن حياة من نوع آخر هو الذي يُحدد مسارَها في حياته الأولى، ثم سيجني ثمارها خيرًا أو نكدًا في حياته الآخرة...
هذه باختصار بعض القيم الرُّوحية التي يقدمها الإسلام من خلال تصوُّره للخالق والإنسان والكون والحياة، وهي قيمٌ ذات درجة عالية من السمو الروحي والوجداني والعقلي... لو أنَّها سكبت في نفس حساسة، يقظة، لأدهشنا التفاعُل الذي سيحدث، ولأبهرتنا المشاعرُ التي ستفيض، والأشواق التي ستنبثق طرية غضَّة... وبعد هذا كلِّه تلك اللغة الشاعرة التي ستنفجر، وتعلو أشجارها، وتشمخ أفنانُها، وتتشاسع ظلالُها، وتتساقط ثمارها ندية حلوة...
3- تعريف الأدب الإسلامي:
وعند هذا الملتقى نكتشف الدائرة والمساحة التي يصافح فيها الأدبُ الإسلامَ، إنَّ غنيمة الأدب ولغة الأدب ستكون ثرية غنية إذا وُجد الأديب الذي يمتلك رؤيةً عميقة وشفافية حساسة، وأدوات استقبال صافية، من قلب حي متألق رحب، ومن عقل متفكر متدبر واسع الأفق، ومن خيال يُحلِّق بجناحيه إلى كل أبعاد الحياة، ومن عاطفة طافحة بحب الكون والإنسانية والحياة والخالق العظيم، ومن أسلوب تمحض عن تجارب مستمرة ومداوَمة ممدودة وخبرة رزينة... فإذا وجد هذا الأديب، فستكون غنيمة الأدب من الإسلام ذات شأن عظيم.
وهنا نكون قد وصلنا إلى رَبْوة عالية نستطيع أن نشرف منها على تعريف شامل للأدب الإسلامي، كما يلي: الأدبُ الإسلاميُّ هو تلك المادة اللغوية التي تتميز بإبداعية خاصَّة تنسجم مع التقاليد المؤسسة لمعنى الأدبية، وهو مادة ذات شكلٍ مَرِن يساير حركةَ الإبداع بما يُغنيه ويُحقق جمالياته وديمومته، وشَكْلٍ يحتوي مضامين وجدانية وشعورية مرتبطة بالإسلام رؤيةً وتصوُّرًا لا بمعنى القواعد والقوانين، ولكن بمعنى الإحساس الذي يُفرزه الوجدان من خلال تَمثُّله لتلك الرؤية، وذلك التصور وتشكيله لغة في مستواها الإبداعي الجمالي.
[1] د. حسن الأمراني، مجلة المشكاة، الملتقى الدولي للأدب الإسلامي، ص 34، ط 1، 1998م.
[2] تيزفيطان تودوروف، مفهوم الأدب، ت: منذر عياشي، ص 45، مركز الإنماء الحضاري، ط1، 1993.
[3] مادة أدب، القاموس المحيط، تاج العروس، لسان العرب.
[4] العقد الفريد، ج 2 ص 10، عن مجلة علامات في النقد، ص 281 ج 20 مج 5، 1996.
[5] العقد الفريد، ج2 ص 16، نفسه.
[6] صحيح البخاري.
[7] العمدة، ص 29 ج 1، تحقيق: محمد محيي الدين عبدالحميد، دار الرشاد الحديثة، دون ت.
[8] عن مجلة علامات م س، ص 282.
[9] ن م ص: 283 - 284 - 285.
[10] العقاد، عيد القلم، ص 25 - 26 - 27 بتصرف، منشورات المكتبة العصرية، بدون ت.