عرض مشاركة واحدة
  #2  
قديم 16-08-2021, 01:22 AM
الصورة الرمزية ابوالوليد المسلم
ابوالوليد المسلم ابوالوليد المسلم غير متصل
قلم ذهبي مميز
 
تاريخ التسجيل: Feb 2019
مكان الإقامة: مصر
الجنس :
المشاركات: 166,757
الدولة : Egypt
افتراضي رد: أثر شبكة الإنترنت الدولية في دراسة اللغة العربية وتلقي النص الشعري القديم خاصة

وإذا كانت القراءة فعلًا مقصودًا، فهل استدرج الباحث النص ليصف من خلاله الحوادث التي يعيشها؟ فمما يراه أصحاب نظرية القارئ أن "المرء يستدرج النص بطريقة يشعر فيها أنه ليس ثمة مسافة تفصله عن الحوادث التي يصفها"[23]، "وهذا هو السبب في شعور القارئ بأنه مستغرق في حوادث تبدو واقعية له في زمن القراءة، رغم أنها في الحقيقة أبعد ما تكون عن واقعه الخاص"[24].

أما الثانية: فنرى فيها الباحث منعزلًا أمام الحاسوب يتواصل مع عالم افتراضي يبعده عن واقع مجتمعه وهو مسيطر على عالمه، ليؤكد نظرية التشيُّؤ التي تحدث عنها ماركس، إذ بها تصبح الأشياء فوق الإحساس مع أنها محسوسة، وتنعكس روح التشيُّؤ على النص العنكبوتي وعلى مبدع النص نفسه، بسبب الفجوة الهائلة بين الواقع العالمي في الواقع، وبين الواقع العالمي في جهاز الحاسوب، وبين الواقع وصناعة الرغبة، لتوهم المبدع أنه يعيش حداثة أبدية؛ مما يولد العزلة والاغتراب[25].

-2-

الشكوى في شعر ابن نُباتة

القراءة الثانية للدكتور وئام محمد سيد، بدأها بعرض ملخص للدراسة باللغتين العربية والإنجليزية، وفي المقدمة حدد الباحث منهجه، فقال: "فلن يُعن البحث بالرصد والتأريخ ... بقدر ما سيحاول الغوص داخل مكنوناتها ليتعرف على مفرداتها لدى الشاعر، ويتصدى لها بالدرس والتحليل." (ص216)

وفي محاولة لاستعادة المحيط الاجتماعي الذي نشأ فيه النص تأتي ست صفحات تقريبًا في أول البحث للتعريف بالشاعر، والوقوف على معنى الشكوى وبواعثها، أردفها الباحث بأربع صفحات لتصنيف حركات القصيدة من حيث توجهات الشاعر تجاه تجربته الشعرية، مقسمة إلى: (حركة وجدانية – حركة وصفية – حركة قيمية – شكوى ابن نُباتة ذاتية/ نموذجية)، ومن خلال التأمل في هذا التقسيم يتأكد لنا أنه لا يخرج عن الأطر التنظيرية الناتجة عن تراكم المعلومات لدى الباحث؛ فأراد رصد أكثر ما تم جمعه من معارف. وإن كان بعضه لا يقلل من قيمة البحث؛ فبه يتم التأسيس لعملية القراءة؛ لتنفيذ الخطوات التي تليها.


وعند التأمل النقدي في قراءة الدكتور وئام نجد محاولة جادة للاقتراب من البنية المركزية للنص من خلال علاقاته الجمالية. وقد بدأت الممارسات النقدية التطبيقية بعرضٍ للمستويات الدلالية وهي: (الفقر – الصبابة – صورة الذات/ الآخر – التفجع – القلق الوجودي).


ولو تلمسنا ملامح تأثيرات الشبكة الرقمية في قراءة الباحث لشعر ابن نُباتة، فسوف نجدها تارة متوارية خفية مجدولة مع خيوط المعنى العام للبحث، وتارة أخرى تبدو ظاهرة جلية متمثلة في الألفاظ والتراكيب والشكل العام للبحث.


(أ)

التأثيرات الضمنية الخفية

(أ-1)

إذا أردنا تصنيف الدراسة تصنيفًا منهجيًا حسب الآليات التي صدر عنها الخطاب النقدي المعاصر في تلقيه للشعر العربي القديم، فسوف نلحظ ملامح التعدد في أنماط التلقي، ما بين الوثائقي، والنصي، والوثائقي النصي، والتأويلي، في ما يمكن أن نُطلق عليه التلقي التعددي أو المفتوح.


ويبدو أن الارتباط بالشبكة، وما توفره من معلومات يأخذ بزمام أكثر القراءات إلى الوثائقية؛ فتكون النتيجة مُخالِفة لما أعلنه الباحث عن منهجه في القراءة من محاولة الغوص داخل لغة النص. (ص216) فالباحث يحاول الإنصات إلى جماليات لغة النص عند ابن نُباتة فتزاحم إنصاته بعض آليات التلقي الوثائقي[26]؛ فينتهي به التحليل إليه، يلحظ ذلك المتأمل في أكثر صفحات البحث دونما عناء. مثل قوله: "لذا رأينا الشاعر يحدثنا عن مدى كفايته في ظل جود هذا الملك، وأنه ما عاد يخشى كثرة العيال، لما أفاء الله عليه من سعة في الرزق وراحة في البال:
تكفلتْ كلَّ عام سحبُ راحته
عن البرية إشباعي وإروائي





ولم يقتصر خطاب الكفاية هذا على المؤيد..."(ص224)، فالقراءة تنتقل من خارج النص إلى خارجه على اعتبار أن أدبية النص تطابق القيم الفكرية والاجتماعية والثقافية للمجتمع، أو أن الشعر مطابق للواقع المُعاش دون إشارة إلى التعليل الجمالي للنص نفسه.

وفي صورة أخرى للوثائقية كان النص الشعري في مواضع كثيرة من البحث محض استجابة لظروف الشاعر وظروف الواقع الحضاري الذي يعيش فيه، ومطابقة بين الشاعر وإبداعه، وقد ترددت بعض التعبيرات في البحث مع النص الشعري مثل:"إن الشاعر يحاول"(ص228)، "وكأن الشاعر" (ص230)، "يشكو الشاعر" (ص231)، "إن الشاعر يروم" (ص232)، "يبدو أن الشاعر" (ص236)، "ربما يهدف الشاعر من ذلك" (ص237)، "فتركيز الشاعر يتضح خلال" (ص242)، فإرادة الشاعر لا النص هي المعول عليه غالبًا في القراءة.

وفي محاولة للفكاك من الوثائقية يعمل الباحث على الولوج إلى داخل النص (التلقي النصي) من خلال اللغة ودلالات الألفاظ في محاولة للوفاء بوعد منهجي أورده من قبل؛ فيقول: "إن أهم ما يميز خطاب الشاعر أنه خلق مساحة لتبادل الضمائر، ومناوأة أصوات أخرى لصوته، فكأن ذات الشاعر هنا تنشطر؛ لتتيح الفرصة لظهور الآخر القابع خلفها، فنحن أمام فواعل نصية متعددة: (أنت الممدوح – هم البطانة – أنا الشاعر – هم الشعراء – هم الأعداء) هذه الفواعل استطاعت أن تفجر توترًا داخليًا في بنية النص...".(ص233)، فالسعي إلى استنباط الدلالة من خلال النص حجّم من المنحى الوصفي السائد على القراءة.

وكثيرة هي القراءات التي تجمع بين الوثائقية والنصية في البحث، مما يشير إلى انقسام عملية التلقي، نجده في مثل قوله متحدثًا عن الشاعر: "كان مغمورًا، لا ينال مقابلًا لبوادره الشعرية، ومن هنا تبدأ المعاناة، حيث نراه يصيح:


من الأولاد خمسٌ حول أمٍّ
فوا حرباه من خمسٍ وستِّ



ولعل اختيار الشاعر لمفرداته، قد شكلت تلك المعاناة التي تؤرق الشاعر، وذلك نراه في صيغة (أقضِّي) المشددة التي رسمت لنا طبيعة قضاء الشاعر للأوقات، ... وكذلك صيغة الجمع في (بالأنكاد) التي تظلل أوقاته كلها باللون الأسود، ثم تصور الأمر على أنه معركة بين طرفين..."(ص223) فقبل النص تحدث عن جانب من حياة الشاعر الخاصة، ثم أتى بالنص كوثيقة تؤكد ما ذهب إليه، (وثائقي)، ثم عقَّب على الأبيات نفسها محاولًا الكشف عن العلاقة بين المضمون والتشكيل الجمالي.

أما النمط التأويلي الذي يرتبط فيه التحقق الجمالي الشكلي بالتحقق المعنوي، فنجده في تحليله للمقطوعة:
قل للفهيم الناصري
ي صائحًا مستنصرا

يا صاحبي أصبحتُ حتْ
تَى في الخطاء مُعثَّرا

من أجرة المسكن في
إعراب همٍّ أشهرا

بالنصف والكسر معًا
فلا كَرى ولا كِرا

نعم وهمي أممٌ
وحالتي إلى ورا

ناظر بيروت أتى
عساك لي أن تنظرا

مهما ترى مهما ترى
مهما ترى مهما ترى



بدأ الباحث تأويله للمقطوعة بالحديث عن آلام الشاعر لعدم استطاعته توفير أجرة المسكن، ثم توقف عند دلالة صوت القافية (را) في التعبير عن الشدة؛ قصد الوصول إلى دلالة، ثم إعادة بناء تلك الدلالة من جديد - وهذا ما يرمي إليه هذا النمط من التلقي – وقد أدرك الباحث ما للجانب الصوتي من دلالة في تفهم جماليات النص؛ لما له من قدرة على كشف المعنى وتتبُع الحركة الداخلية للمبدع، ولكن على الرغم من هذه الأهمية لهذا الجانب الموسيقي لم يعاود الباحث الوقوف عنده مرة أخرى، ربما لكثرة ما لديه من توجهات في قراءة النص. (انظر.ص231)


ولو راجعنا عملية الكتابة النقدية لدى الباحث من خلال ما ذُكر من أنماط القراءة المتعددة، فلن تخفى علينا هذه الثقافة التشعُبيّة التي انتقلت صورتها من الحاسوب إلى الدراسة، فهي تعرض للفكرة المحورية الواحدة أكثر من جانب، لكنه مارسها بشكل تسلسلي من الخارج إلى الداخل (الشاعر – الشكوى – حركات القصيدة – الحركة الوجدانية...)؛ فكان التناغم المنطقي بين العمليات الإجرائية.


(أ- 2)

تشعرنا القراءة في بعض مواضعها بالانفعال مع النص واندماج الآفاق أو تلاحمها، نراه في التجاوب بين المتلقي المعاصر والنص القديم، تحقق هذا التجاوب نتيجة الحوار بين الأفقين، مما أضفى على النص القديم حداثة زحزحته عن حالة تَغربه، وأدخلته إلى حاضر القارئ[27]، حتى رأينا الباحث يقيم نوعًا من التطابق بينه وبين الشاعر في أكثر من موضع في القراءة؛ فكانت النتيجة تهيئة حقيقية للتفاعل في بناء المعنى الشعري، ليعبر عن روح ناقد ثائر على الواقع.


أول ما أراد الباحث التأكيد عليه أن الشاعر مَدين بأفكاره وثقافته وأحاسيسه وعاداته إلى البيئة المصرية (ص217)، ومن هذا المنطلق ظهرت مواطن الاندماج والتجاوب المصري في العصرين/ عصر الشاعر وعصر الباحث.


يفسر هذا ما نراه من تشابه كبير بين الظروف الاجتماعية التي وصفها الشاعر في نصه، والظروف التي عاشها الشعب المصري إبان كتابة البحث، كما أن الشاعر انتقل إلى بلاد الشام وأقام فيها فترة طويلة من أجل الرزق، وهذا ما فعله الباحث ويفعله كل صاحب موهبة في مصر، وكأن الشاعر رمز لكل مصري[28]، انظر إلى حديثه عن أجرة المسكن، يقول: "وهو كما نعلم - أي المسكن - يُعد واحدًا من أهم ضروريات الحياة التي من خلالها يمارس الإنسان حياته الطبيعية، ويستطيع تحقيق الغاية المنشودة من خلقه، وهي عبادة الله – سبحانه – وإعمار الأرض. ولذا فالأمر لا يحتمل التأخير أو التأجيل"(ص230)، وفي حديثه عن الزوجة المرافقة لزوجها في غربته، يقول: "زوجته التي كانت خير رفيق له وأفضل معين - بعد الله سبحانه - على نوائب الدهر" (ص239) وهذا التعبير:"إن أقوى الشهادات الموثقة"(ص245).


ومما توصل إليه الباحث أن الشكوى من الصبابة، نتجت عن الفقر الذي بدوره ساق الشاعر إلى التغرب عن محبوبه في رحلة البحث عن الرزق، فيقول: "وجدنا أن الشكوى من الصبابة لا تأتي إلا في مقدمات القصائد المدحية التي تنتهي - بدورها - إلى الشكوى من الفقر، فالشاعر يشكو حرارة الوجد ولوعة الفراق وقلبه متعلق بقضيته الرئيسة وهي الفقر" (انظر، ص242)، فهذا التقارب الخاص بين حال الشاعر والظروف التي عاشها القارئ جعل القراءة نشطة وخلاقة، فالطريقة التي يمارس بها القارئ النص تعكس نزعته الخاصة، تأكيدًا لمبدأ القراءة الرئيس بأن الذات تعيد إبداع نفسها، أي أننا جميعًا حين نقرأ نستخدم العمل الأدبي للترميز عن ذواتنا[29].


ولا يعني هذا التوصيف أن القراءة هرعت إلى إلباس التراث ثوبًا عصريًا يفقد التراث تاريخيته الخاصة بزمن إبداعه، ولكنها حاجة القراءة إلى الفهم تجعلها تقوم بترجمة حقيقية، محاولة جذب النص إلى عالمها، وإلى ذلك أشار إيزر بأنه عندما ينتمي القارئ إلى حقبة تاريخية مختلفة، فإن حكمه على العمل سيكشف معاييره الخاصة، لأنه يقدم حجة ملموسة على معايير وذوق مجتمعه الخاص به.[30] والذي من خلاله يسمح القارئ لنفسه باستكمال الفجوات أو ما يسميه أصحاب النظرية بملء فراغات النص[31]، عن طريق التفاعل مع المعنى الذي يسميه إيزر زخيرة النص[32].


وفي إشارة الباحث إلى مصطلح (الوعي الجمعي)(ص233)، دلالة على محورية الشكوى من الفقر عند كل مصري في عصر الشاعر وعصر الباحث، وتأكيد على تشابه الأعراف والسياقات. فكل مصري يشكو من الإقلال حتى صار مذهبًا مصريًا سائدًا، ومن الأمثلة التي أوردها الباحث قول ابن مطروح يمدح أحد الأعيان:
"ما بعد ديمتك الروية ديمةُ
يشكو لها ظمًا ذوو الإقلال




والشاعر هنا يجعل من الإقلال مذهبًا معترفًا به، واتجاهًا مسلمًا بمعطياته، وذلك في صيغة (ذوو الإقلال)"(ص225)، وكأن هذا الحضور للوعي الجمعي لم يتوقف عند بني البشر وحدهم، فتتسع الدائرة لتشمل كل ما أحاط بالشاعر: (الناعورة والحمامة/ الجماد والطير)؛ "وذلك في محاولة منه لتحويل العالم من حوله إلى كلمات، وكذلك لإيجاد النظير الذي يتقاطع معه في محنته، وهو وإن لم يتحصل منه على فائدة مثل: التخفيف أو التعزية، فحسبه جانب المثلية"(ص235)، إذًا هو وعي جمعي ناتج عن ردود أفعال وسياقات وأعراف متشابهة، وتوافق بين صورة الماضي وما يطرحه الحاضر، أو أن هذه النصوص تحيل على واقع زمني أفرزها.

فالمعنى الذي أورده الباحث لمصطلح (الوعي الجمعي) قريب جدًا في ما يشير إليه مصطلح (العقل الجمعي) الذي يشير إلى اجتماع العقل الإنساني مع العقل الآلي/الحاسوب، وخصوصًا بعد تداخل العقل الإنساني مع العقل الخاص بالجمادات/الساقية، والطيور/الحمامة في قراءة الباحث.(ص235)

ولو رجعنا إلى تقسيم الباحث لموضوع الشكوى في دراسته، نجده قد قسمه إلى بؤرتين: الأولى وضع فيها الفقر وحده، وجعله بؤرة مشتركة بين الناس في عصره. (انظر. ص227 – 234) وقد جمعت البؤرة الثانية: (الصبابة - صورة الذات/الآخر - التفجع - القلق الوجودي)، ثم في استدراك لاحق قال: "أرى أن ما ذكرناه من معاني الشكوى في سياق الصبابة، وصورة الذات/ الآخر، والتفجع، والقلق الوجودي، كلها تُعد نموذجية وليست وجدانية، فالشاعر فيها ليس معبرًا عن ذاته، ولذلك فجميعها يرتد إلى محور الدائرة الدلالي (البؤرة)/الفقر"(ص242)، فعاد بالبؤرة الثانية وما تحويه إلى البؤرة الأولى، فبهذا التفريق والجمع صنع شبكة كثيفة من علاقات التداخل، كالتي نراها في النص المتشعب على الشبكة أو كأن النص قد غير من أفق توقع القارئ[33] بانتقاله من الذاتية إلى الجماعية، وهذه إشارة إلى تمدد المسافة الجمالية للنص.

(ب)

التأثيرات الظاهرة

(ب-1)
لقد شاعت الثقافة الإلكترونية في أوساط الشباب من الباحثين، وكما تأثرت حياتنا اليومية بتلك الثقافة الساحرة تأثرت لغتنا، فبدأت تتسرب إليها الكلمات الدالة على تلك الثقافة، فدخلت في أحاديث الشباب بعض الكلمات الدالة على الخبرة بالتقنية الحديثة مثل: (مشفرة – ديجيتال – على الخط (online) – خارج الخط (offline) ...وهكذا.


أما في الكتابة النقدية للباحثين في اللغة العربية وآدابها فلن نجد اختلافًا كبيرًا بين أسلوب الكتابة عند باحثي الشبكة وغيرهم من الباحثين الذين تقتصر مصادرهم على الكتب المطبوعة؛ "فإن معظم تنويعات اللغة المكتوبة يمكن أن نجدها على الشبكة العنكبوتية مع تغير أسلوبي بسيط لا يتجاوز التكيف مع الوسيط"[34]؛ فاللغة على الشبكة محاكاة للغة المطبوعة، وفي الغالب الأعم فإن ما نراه على الشبكة هو عالم لغوي معروف، يُعرض في إطار القيود المادية للغة، ولكن لا يُنكَر أثر هذا الوسيط الجديد( الحاسب الآلي) في لغة مستخدميه، فهو وسيط يتميز بالتعددية اللغوية، بل يمكن الزعم بقدرته على المشاركة في عملية الكتابة، التي تتجلى في تدخل المدقق الإملائي بخطوط[35] تحت الكلمات والجمل للإشارة إلى خطأ ما، ثم يقدم بدائل متعددة، وقد يتطلب هذا التدخل قدرًا حقيقيًا من قوة الإرادة حتى لا يستسلم الباحث لإرادة البرمجيات، وربما سبب هذا انزعاجًا شديدًا لبعض المستخدمين؛ مما دفع أحد علماء اللغة إلى التحذير خشية من تعرض حالات التميز الأسلوبي للمستخدمين للخطر عن طريق الاستسلام للمعيارية الخاصة بالبرمجيات.[36]

ومن خصائص النص الإلكتروني أنه نص سائل حتى بعد إنجازه، وهذا ما يمنحه حرية أكبر من النص المكتوب والمطبوع، ويجعله قابلًا للتعديل والحذف والإضافة والتحويل. وهذه الليونة تجعل المبدع يشعر بقوة السيطرة، والقدرة على التراجع،[37]وهذا له أثره الإيجابي في العمل التحليلي وفي تجويد النص.


أما عن استجابة مفردات اللغة للخبرة الرقمية لدى الباحثين، فسوف نرى مساهمة المعارف الرقمية في تلوين مفردات اللغة بألوان جديدة تعكس درجة استجابة القارئ لمعطيات هذا العالم، فمستخدمو الإنترنت باستمرار يبحثون عن مفردات لوصف خبراتهم، والتعبير عن سمة العالم الإلكتروني الذي يعيشون فيه[38]، وإن كان أحدنا من دارسي اللغة العربية وآدابها لن ينساق خلف التعبيرات الشائعة على الشبكة طالما تبتعد عن حدود الفصيح، فإننا لا نخفي تأثرنا ولو بالفصيح القليل من الكلمات والعبارات، انظر إلى قول الباحث: "مناط الإبحار في عقد تلك الصفقة الأدبية/المادية –إذا جاز التعبير – ومركزي الدلالة للتحليق في تجربته" (ص232)، و"الشكوى المركزية"(ص242)،" الحقيقة المخزونة"(ص243)، "مساحة لتبادل الضمائر"(ص233) ويقول:"الوحدات اللغوية – العدسات التصويرية"(ص247)، هي تعبيرات مستقاة من لغة مستخدمي الشبكة ربما أشارت إلى قولهم – على الترتيب-: (الإبحار في الشبكة، والحاسوب المركزي، مساحة لتبادل الملفات، وحدات الحاسب). وانظر إلى هذا التعبير: "يقوم البيان على معادلة منطقية، قوامها التخالف والتضاد... الخلو والفراغ"(ص227) فهو يشير إلى سمة مميزة للغة الحاسب الآلي، فهي لغة تعتمد على التشفير الثنائي والمعادلات الرقمية المكونة من الصفر والواحد؛ إذ إن وسائط التخزين الإلكترونية لا تخزن الكلمات، وإنما تخزن المُناظر الرقمي لها.[39]

أما قوله: "وإذا بنا نرى شكوانا تخترق التتابع الخطي للأحداث، وتعطي نسقه كالمكون الاعتراضي، مما يوحي بأن ذات الشاعر قد بلغت حالة من التشبع بفعل الشكوى... وما تشعب عنها من دلالات وإيحاءات حتى تحول إلى دال يرتبط بمدلول/ الشاعر وشفرة لا يستطيع فكها إلا هو"(ص246)، فكأنه يتحدث عن (الارتباط التشعبي)[40] الذي تتميز به الشبكة، أو أنه يشير إلى تشفير الملفات.


وإن لم أكن مغاليًا فإن الباحث قد تأثر في بعض تعبيراته بمواقع التواصل الاجتماعي على الشبكة، مثل موقع (Facebook) انظر إلى قوله: "كأن ذات الشاعر تأنس باتساع الدائرة، وتنفر من ضيقها"(ص233)فمواقع التواصل الاجتماعي تتصف بذلك فعلًا، ثم يؤكد ما أزعمه فيقول: "إن أهم ما يميز خطاب الشاعر أنه خلق مساحة لتبادل الضمائر..." فهذه المواقع تتيح مساحة للمستخدمين لتمكنهم جميعًا من تبادل الصور ومقاطع الفيديو والملفات والأفكار مع الآخرين.


(ب-2)

إن الاتجاه نحو قراءة المعلومات على الشاشة سيغير من تفكير الإنسان، فالشاشة وسيط جذاب وفعّال ومؤثر يحتاج إلى استيعاب بصري خاص من القارئ، فإذا كان الكتاب ضمن صفحات الإنترنت فعلى صفحة الإنترنت الواحدة نجد الصورة وملفات الصوت والإعلان ومقطع الفيديو والمعارف والكتاب الإلكتروني، بل إن الكتاب الإلكتروني نفسه ما هو إلا أيقونة نشاهدها على الشاشة، يتمتع هذا الكتاب دون غيره بإمكانية دمج الصوت والصورة والوسائط المتعددة، مع إمكانية تكبير المتن والحروف وتصغيرهما، مما يزيد الشعور بالتخييل.


والصورة في النص العنكبوتي تلعب أدوارًا عدة: فهي تمتلك الصدقية أكثر من اللغة، فتقوم بالتحريك التفاعلي للنص، والمتعة الجمالية، والربط... وأيضًا: التشظي، وهي أيضًا مؤثرة في القارئ بصفته شريكًا في اكتمال النص[41]. ولم تعد الصورة ملحقًا تزيينيًا بالنص العنكبوتي على عكس وضعيتها في النص المطبوع.


والإنسان العصري يرى واقعه كله من خلال الصورة المتحركة على الشاشة: شاشة التلفاز، شاشة الحاسب الآلي، شاشة التليفون النقال؛ ولهذا وجدنا مقدارًا من التفاعل الإيجابي مع هذه التقنيات في قراءة الباحث، فبعد أن أورد بيتي ابن مطروح:
قالتْ الناسُ فلانٌ قد غدا
بعد مسِّ الفقر ذا مالٍ عريضِ

لا وعليائك ما عندي ما ‍
يدخل الوزن سوى نظم القريضِ


يتبع
__________________
سُئل الإمام الداراني رحمه الله
ما أعظم عمل يتقرّب به العبد إلى الله؟
فبكى رحمه الله ثم قال :
أن ينظر الله إلى قلبك فيرى أنك لا تريد من الدنيا والآخرة إلا هو
سبحـــــــــــــــانه و تعـــــــــــالى.

رد مع اقتباس
 
[حجم الصفحة الأصلي: 42.73 كيلو بايت... الحجم بعد الضغط 42.10 كيلو بايت... تم توفير 0.63 كيلو بايت...بمعدل (1.47%)]